لماذا أصبح النجاح حليفًا للأغاني البسيطة التي تشبه كثيرًا تلك التي أحببناها في مطلع الألفية وأواخر التسعينات؟ سؤال يؤرقني منذ فترة ولم أجد له إجابة سوى أن الجمهور مَل من التجارب الموسيقية "الهشة" التي حاول البعض إكسابها مسحة عمق تحت مصطلحات كبيرة مربوطة بالتغيرات الاجتماعية، هذا ماحدث بالضبط مع "المهرجانات" التي قلت سابقًا أن عمرها الافتراضي خمس سنوات لأن صناعها لايملكون مشروعًا موسيقيًا حقيقيًا، وقد كان.
وسط هذا المشهد العبثي لم تجد القاعدة العريضة والحقيقية من الجمهور سوى العودة للأغنية الرومانسية البسيطة، أو مايسمى بموسيقى "البوب المصرية"، وخاصة بعد إنتباه بعض نجومها إلى ضرورة التركيز على الإيقاعات الراقصة وعلى رأسها "المقسوم"، الذي كان سببًا في رواج "المهرجان"، هذا على صعيد الموسيقى والإيقاع، أما على صعيد الكلمة فأصبحت أكثر بساطة وجرأة ، ولهذا وصلنا إلى الخلطة المطلوبة لصناعة أغنية أو ألبوم ناجح الآن .
يعتقد البعض أن صناعة أغنية جيدة أمر صعب، ولكن على عكس تلك النظرية السائدة، أثبتت التجربة خلال العامين الأخيرين أن معايير النجاح والجودة في الأغنية العربية والمصرية تحديدًا لم تعد قائمة على التجريب والتعقيد، بل السعي نحو البساطة والمباشرة، والرهان على اختيارات مضمونة ، وهذا تحديدًا مافعله رامي صبري في أحدث ألبوماته "معايا هتبدع" .
ملاحظات مهمة
قبل الحديث بالتفصيل عن أغاني الألبوم الثمانية ، هناك عدة ملاحظات عامة على الألبوم ، قد توحي للمستمع بأنها المقادير التي اختارها رامي لـ"طبخته" الغنائية ، والتي ترسخت هويتها عامًا بعد الآخر واكتملت في هذه التجربة .
يستحوذ الموزع طارق توكل على نصيب الأسد من توزيعات الأغاني حيث قدم 6 أغنيات من أصل 8 ، خاصة وأن توكل شريك دائم في كل ألبومات رامي منذ بدايته ، وكأن الأصوات والالآت التي يستخدمها جزء من تكوين شخصية رامي صبري الفنية .
على عكس المعتاد اكتفى رامي صبري بتلحين 3 أغنيات فقط في الألبوم وهي " يمكن خير" ، "لما بيوحشني" ، "احنا في حتة تانية" ، والأغنيات الثلاثة ألوان موسيقية مختلفة عن بعضها البعض وهذا يحسب له .
يستحوذ إيقاع المقسوم المصري بكافة تفعيلاته وحالاته نصف أغاني الألبوم " أربع أغنيات" هي "معايا هتبدع"، "يمكن خير" ، " انت الأصل" ، و"فاكر نفسك هدية" ، وهذا يدل على قراءة جيدة لذوق الجمهور في اللحظة الحالية.
ملاحظة أخرى مهمة وهي البرومو الدعائي للألبوم الذي أنتجه رامي ، وهي فكرة جديدة حيث صور 30 ثانية من كل أغنية وكأنها كليب مستقل ، وهذا في حد ذاته مغامرة فنية وانتاجية ضخمة التكلفة ، يستحق عليها رامي التحية لسعيه لتقديم شيء جديد حتى لو لم ينتظر منه أي عائد مادي.
المقسوم وسر الخلطة
أغنية "معايا هتبدع" التي تحمل اسم الألبوم كلمات وألحان عزيز الشافعي توزيع طارق توكل، الأغنية تنتمي لإيقاع المقسوم ، وتقوم على جملتين لحنيتين موزعتين بين المذهب والكوبليه وهي القاعدة اللحنية العامة في أغلب أغاني الألبوم ، كلمات الأغنية تحمل طاقة من البهجة والرغبة في تجاوز الماضي بكلمات جريئة شعبية الهوى مثل " اللي باعك إنت مفيش في عينه نظر يا خبر اكيد دا قلبه حجر" و " اللي سابك انت أكيد في عقله خلل ده خُلل" أو "الذكاء في الدنيا عدم"، وهي لغة تميز بها عزيز الشافعي كشاعر بجانب ألحانة التي تصدرت الساحة خلال السنوات الأخيرة.
يعود إيقاع المقسوم ولكن "القاعد" ذو التفعيلة البطيئة في أغنية "يمكن خير" كلمات أحمد علي موسى ولحن رامي صبري .
مع دخول الأغنية لفت انتباهي استخدام الموزع طارق توكل في تنفيذ إيقاعها آلات تشبه إلى حد كبير نفس إيقاع أغنية "صعبان عليا" التي قدمها الموزع الكبير طارق مدكور في ألبوم "تملي معاك" لعمرو دياب ، ولكن هذا لا ينفي على الإطلاق جودة الأغنية وتفردها على كافة المستويات بالإضافة إلى استخدام خط وتريات متميز على طول الأغنية بالتوازي مع الناي الذي ساهم في رسم صورة درامية لمشهد وداع رفض فيه أحد الطرفين العتاب .
لحن رامي صبري جاء متميزًا ومن جملتين منقسمتين بين المذهب والكوبلية ، كما أن كلمات أحمد علي موسى اعتمدت على البساطة التي تبدو أنها صفة مشتركة بين أغاني الألبوم.
"لما بيوحشني" كلمات أحمد علي موسى لحن رامي صبري، وتوزيع طارق توكل، وهي أغنية رومانسية درامية من "كتالوج" رامي صبري الحريص على تقديم هذا اللون في أغانيه بصبغته الخاصة، مزيج من الأصوات الاليكترونية والجيتارات الحية ، وموضوع رومانسي يمزج بين الرحيل والندم والحنين .
تبدأ أغنية "إحنا في حتة تانية" بصولو جيتار يوحي بأننا أمام أغنية فلامنكو ، ولكن مع بدء الإيقاع نتحول إلى "الريجي تون" ، ثم تعود الأغنية إلى صيغة اللاتين بوب في الكوبلية ، هناك تنوع موسيقي حقيقي في الأغنية، ولكنه بسيط لدرجة لا يشعر بها المستمع في المرة الأولى.
توزيع طارق توكل متميز جدا ، خصوصا في الأصوات المستخدمة في الخلفية ، ولحن رامي كان بسيطا ومناسبًا لكلمات محمد القياتي .
في أغنية "إنت الأصل" يعود الملحن عزيز الشافعي لهوايته بصناعة أغنية شعبية "شيك" من ايقاع المقسوم ، ولكن هذه المرة مع الشاعر تامر حسين صاحب الرصيد الكبير من النجاحات على مدار السنوات الأخيرة ، كلمات الأغنية بدت بروح شعبية خفيفة الظل تفيض بغزل جريء ، وتوزيع تميم جاء بسيطا حيث قدم إيقاع المقسوم بدون زخم في الالات، مع الاعتماد على صولو "فاصل موسيقي" جيتار وأوكرديون من نفس الجملة اللحنية الرئيسية .
يعود رامي لجرعة الرومانسية بأغنية "بتفتكرني ساعات" التي تنتمي بوضوح لكاتالوجه الموسيقي ، أغنية "سلو" هادئة يمكن تصنيفها كـ"سوفت روك" ، لحن أحمد حسين جاء تصاعديا من جملتين متشابهتين كثيرا ولكنهما متسقتان مع الفكرة ، كلمات تامر حسين بسيطة ومباشرة في التعبير عن حالة تساؤليه تسيطر على حبيب يسأل بعد الفراق .. هل مازال الطرف الآخر يتذكره أم لا؟ ثم يبدأ في شرح حالته هو من منطلق هذا السؤال.
أغنية "حبينا" ، لاتين بوب صريح يقدمه رامي صبري من ألحان مدين ، وكلمات تامر حسين ، وتوزيع طارق توكل ، الأغنية بسيطة ولم تقدم اختلافات كبيرة عن أغاني رامي التي قدمها من هذا اللون في ألبومات سابقة، ولكن الأغنية في المجمل جيدة كحالة موسيقية داخل ألبوم.
الهوى الدرويشي!
الأغاني السبعة السابقة جيدة ، تخاطف أذواق مختلفة ، فيها الجديد وفيها التقليدي ، ولكن تظل أغنية "فاكر نفسك هدية" هي أفضل أغاني الألبوم من وجهة نظري .
عندما قدم رامي أغنية "حياتي مش تمام" قبل عامين كانت حالة مختلفة على مستوى الكلمات واللحن الذي جاء مصبوغا بهوى "درويشي" نسبة إلى سيد درويش ، هذا النجاح منح رامي بصمة مختلفة لأنه وقتها قدم المقسوم المصري بأصوات مختلفة مع الموزع جلال حمداوي ، التقط رامي هذا الخيط وعاد الآن ليقدم "فاكر نفسك هدية" بنفس الهوى "الدرويشي" الشرقي ولو أنها من ألحان مدين وليس عزيز الشافعي ، وكلمات أحمد على موسى الذي يقدم واحدة من أفضل أغانية طوال مسيرته.
تبدأ الأغنية بإيقاع اليكتروني يقودنا إلى إيقاع عام للأغنية هو المقسوم القاعد ، وجملة لحنية بسيطة في الكوبلية الأول " عنها المركب مامشيت تغرق وانا هبقى راضي وفارقني مع السلامة " ، تقودنا إلى جملة لحنية شرقية بحتة في المذهب " فاكر نفسك هدية مبعوتة من السما وانت أذية وقسية زيك زي العمى".
كلمات الأغنية تحمل قدرًا ممتعًا من القسوة في وصف ألم حبيب لا يستحق أي شي ويظن أنه هدية ، فيقصفه الكاتب بعبارات عبقريتها في كونها دارجة مثل " مبروك طوبتك رميتها" ، "عنها المركب مامشيت"، "زيك زي العمى" ، أما غناء رامي فكان مشحونًا بالاحساس، وجيدًا على مستوى التطريب، وهو يجيد في هذا الإيقاع وكأنه أصبح تفصيلة جديدة في شخصيته الفنية.
"معايا هتبدع" خطوة جديدة وجيدة في مشوار رامي صبري، ولكنها كاشفة لتفاصيل عديدة أبرزها أن موسيقى البوب التقليدية مازالت الخيار الأنسب والأقرب للمستمع المصري بقليل من التطوير المتماشي مع المزاج العام.