الفائز بجائزة النقاد في كان: "إخوان ليلى".. فيلم يحبه البعض ويكرهه أصغر فرهادي

تاريخ النشر: الأحد، 5 يونيو، 2022 | آخر تحديث:
مشهد من فيلم إخوان ليلى

لا شك في كون السينما الإيرانية واحدة من الصناعات المقدرة دوليًا، أو على الأقل طائفة مخرجيها الذين يصنعون الأفلام الأكثر فنية، فإيران لديها صناعة سائدة رديئة هي الأخرى يتضافر فيها تردي الشعبوية مع سخف فكر الملالي. لكن من بين هذا الركام الفكري والقيود الرقابية، خرجت أجيال من صناع الأفلام الذين نالوا إعجاب العالم وحققوا نجاحات متتالية: مجيد مجيدي وجعفر بناهي ومحسن مخملباف وغيرهم.

إلا أن هذه المدرسة الإيرانية على تعدد روافدها، انتمت دائمًا بشكل أو بآخر إلى مساحة سينمائية يُشكّل حدودها الاسمان الأنجح في تاريخها (والذين تسائل من يعرف بالطبع عن سر غيابهما عن الفقرة الأولى). مساحة من السينما يقف عباس كيارستامي على طرفها الأكثر راديكالية، بسينماه المينمالية ذات الحس الشعري والإيقاع التأملي، بينما يستقر أصغر فرهادي على طرفها الآخر الأكثر درامية، بحكاياته الشيقة المرتكزة على جودة السيناريو أكثر من أي عنصر آخر.

نرشح لك: أفلام كان 75: "عنكبوت مقدس".. قاتل يطارد العاهرات ويكشف المجتمع

تختلف أفلام كيارستامي عن فرهادي في تفاصيل كثيرة تجعلهما يرسمان قوسين يمكن وضع كافة مخرجي الداخل الإيراني بينهما، لكنها تظل مساحة تقف على أرضية مشتركة عنوانها التبسيط، أرضية تتفهم أن القطاع الأكبر من مشاهدي الفيلم يعيشون خارج إيران لا داخلها، وأن الجانب الأعظم من أسباب أي نجاح متوقع، يتعلق بقدرة العمل على نيل إعجاب مشاهد (أو مبرمج) غربي يحتاج أن يكتشف بقاع العالم من خلال السينما، عبر حكايات يمكن تخليصها وشرح سياقها، حتى في أكثر أفلام كيارستامي تأملية وأعلى أفلام فرهادي صخبًا.

لا أقول هنا أن أفلام السينما الإيرانية أعمال استشراقية تخاطب الغرب، ففيها الكثير والكثير من الروائع التي صارت من كلاسيكيات الفن السابع. لكن المقصود أن الاستمالات كانت دائمًا ذات حس كوني، تحاول ألا تغرق في المحلية بما يبني حاجزًا بين الفيلم ومشاهده الآتي من عالم آخر. المجتمع الإيراني بشخوصه ومشاكله وخصوصيته يحضر دائمًا، لكن في حكايات لها شخصيات رئيسية واضحة تخوض خطًا دراميًا مركزيًا هو موضوع الفيلم، رابطة الأزمة المحلية بقيم أوسع: العدالة والحقيقة والمساواة والطفولة وغيرها. كان هذا دومًا التوجه العام الذي تتباين تفاصيله حسب أسلوب صانعه، والاستثناءات واردة بطبيعة الحال.

سؤال المقال والجوائز

المقدمة الطويلة السابقة تمهيد للحديث عمّا أنجزه المخرج الشاب سعيد روستاي (32 عامًا) في فيلمه "إخوان ليلى Leila’s Brother". الفيلم الذي فاز بجائزة الإتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي) كأحسن فيلم بين 21 عملًا تنافست في المسابقة الدولية لمهرجان كان، بينما تجاهلت لجنة التحكيم الرسمية منحه أي جائزة رغم توزيع جوائزها السبع على عشرة أفلام، بعد منح جائزتين بالمناصفة وابتكار جائزة خاصة لينالها الأخان دردان!

بين تفضيل لجنة النقاد التي رأسها كاتب هذه السطور، وتجاهل اللجنة الرسمية التي خلت من الشرقيين باستثناء أصغر فرهادي نفسه (الذي لن يعجبه فيلم كهذا لأسباب سنحاول فهمها)، يحاول المقال الإجابة على هذا السؤال: لماذا استحق "إخوان ليلى" جائزة النقاد؟ ولماذا كان منطقيًا ألا ينال الإعجاب نفسه من لجنه فينسان ليندون، الممثل الفرنسي المخضرم الذي رأس اللجنة الكبرى؟

التمرد على الخلفيات

عرف المجتمع السينمائي سعيد روستاي عام 2019، وقت قدم وعمره لا يتجاوز 28 عامًا فيلمه الأول "6.5 فقط Just 6.5" لينال الإعجاب عند عرضه في مهرجان فينيسيا، وينتزع جائزتي الإخراج والتمثيل في مهرجان طوكيو. كان روستاي وقتها أقرب لأن يكون النسخة الهوليوودية من أصغر فرهادي: صنع فيلمًا بوليسيًا حول العالم السفلي لتجارة وتعاطي المخدرات في إيران، جمع فيه بين التشريح الدقيق للظلم الاجتماعي الذي يدفع البسطاء نحو المخدرات، وللنظام القانوني الذي يحولهم تلقائيًا إلى مروجين وتجار، وبين السيناريو المحكم الحافل بالتغيرات التي تطرأ على موقف المشاهد من الشخصيات، الحرفة التي يمكن اعتبارها مجال تخصص فرهادي ومصدر فرادته.

إلا أن "6.5 فقط" كان فيلمًا زخمًا بما يفوق المعتاد في الفيلم الإيراني العادي، بحواراته الطويلة الحافلة بالمعلومات والأرقام، واهتمامه بالشرح الذي يضع المشاهدين في نقطة تسمح لهم بفهم منطق الشخصيات ودوافعها، وعندما تدمع أعين تاجر المخدرات الذي ينتظر الإعدام وهو يرى ابن شقيقه يؤدي حركات الجمباز التي تعلمها بأموال التجارة المحرمة بينما لم يكن دونها ليحلم بأكثر من تفادي النوم جوعًا، يكون الجمهور قد امتلك على مدار أكثر من ساعتين دراية كافية بالسياق تجعله يدرك أبعاد المأساة الإنسانية التي تجسدها حياة هذا الشاب.

مرت سنوات أربع وعاد روستاي بفيلم جديد أكثر جرأة في شكله ومضمونه. أكثر جرأة في المضمون لأنه يواصل مد الخطوط على استقامتها، فيغوص أكثر في أعماق الحياة الإيرانية مشرحًا الأبنية الفكرية الحاكمة التي تشوه النفوس والمصائر، فالكبت والظلم والفقر والتعاسة في أفلام المخرج الموهوب ليست أسبابًا وإنما هي نتائج لأفكار ونظم يستحيل أن تؤدي لنتائج جيدة. وأكثر جرأة في الشكل لأن المخرج يقرر ألا يضع ذائقة المشاهد الغربي في حسبانه، لا يفكر في قواعد الحوار المكثف ولا في قيمة تبسيط الأفكار كي تكون أكثر كونية، يصنع فيلمًا لا يشبه ما اعتاد العالم انتظاره من السينما الإيرانية.

يقدم روستاي فيلمًا إيرانيًا قحًا، يشبه إيقاعه الحياة في أي بلد شرق أوسطي. البشر فيه لا يتحركون ويتكلمون بهدوء، لا يسمحون للمتحدث أن ينهي جملته فيردون عليه، ولا تأتي كل عبارة فيه محكومة ومدروسة ومصممة بعناية، بل على العكس تمامًا. ثلاث ساعات من الصخب والصراخ والجدل الذي يتجاوز حدود السفسطة، من الجمل المبتورة والقفز لمقاطعة فكرة من يتكلم فيصير الحوار (الذي يدور في أغلب الأوقات بين خمس شخصيات وأحيانًا سبعة) أشبه بما ستسمعه إذا ما تابعت مناقشة محتدمة بين خمسة مصريين: قفزات بين الأفكار المبتورة والآراء المتهافتة وصولًا لقرارات متسرعة لا تقوم على أي أساس منطقي.

ذلك الاختيار الأسلوبي يمنح "إخوان ليلى" مذاقًا فريدًا لمن يتمكن من اللحاق بهذا القطار السريع قبل أن ينطلق، وهي مهمة أسهل دائمًا على من اعتاد القفز من وإلى قطارات تتحرك، لذلك فكان من الطبيعي أن تكون تعليقات النقاد والمشاهدين العرب والشرق أوسطيين أكثر إيجابية من نظائرهم الغربيين الذين وجد بعضهم الفيلم أكثر ازدحامًا وثرثرة من قدرتهم على المتابعة والفهم.

جنازة تأسيسية

يبدأ الفيلم بلقاء حزين نظنه جنازة، قبل أن نكتشف أنها جلسة تجمع رجال عشيرة كبيرة مضت أسابيع على موت كبيرها. أسابيع لم يرتدي عشرات الرجال خلالها إلا اللون الأسود، ولم يقم أحدهم بقص شعره أو ذقنه حدادًا على الفقيد، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يتوسلوا لابن الراحل أن يعلن إنهاء حالة الحداد، فهذا فقط ما سيسمح لهم باستعادة شكلهم وحياتهم الطبيعية المعطلة منذ الوفاة!

هذا الاستهلال يحمل الشفرة التي يمكن من خلالها قراءة الفيلم الحافل بالمواقف والمواجهات والحوارات التي لا تتوقف. هذه المجموعة من الرجال الناضجين الذين يمتلك كل منهم أسرة وأولاد وبل وأحفاد، يعيشون أسابيع رهيني العادات التي تتدخل حتى في مظهرهم ونظافتهم الشخصية، تاركين قرار تحريرهم وإعادتهم للحياة الطبيعية لرجل يبدو أصغر سنًا وأقل حكمة من معظمهم، فقط لأنها التقاليد.

مشهد من فيلم إخوان ليلى

لاحظ هنا أن الأمر ليس دينيًا، فليست طقوس جنائزية قاسية على الطريقة اليهودية مثلًا، والأديان مليئة بالتحكمات من هذا النوع، لكن العزاء فيها يكون دائمًا أن الفرد يطيع تعليمات سماوية قد تحمل حكمة أكبر من ظاهرها، أما عندما يتعلق الأمر بالعادات والتقاليد المجتمعية فالأمر عبث يفتقر حتى هذا العزاء، ويُذكّرنا بالأسر التي اعتادت مثلًا منع مشاهدة التلفزيون لأربعين يومًا بعد فقدان أحد الأحبة، أو رفض زواج أحد الأبناء دون زواج من يسبقه عمرًا، وغيرها من التصرفات التي يستحيل تبريرها بالقياس المنطقي، لكنها متداولة ومتوارثة يمارسها أغلب من يمارسوها خوفًا من اللفظ الاجتماعي، "حتى لا يأكل الناس وجوهنا" كما تقول العبارة الشهيرة.

الحاضر والماضي والمستقبل

العبارة السابقة لا تُستخدم في فيلم سعيد روستاي لكنها حاضرة بقوة في كل دقيقة منه، متمثلة في شخصية الأب التي تُعد واحدة من أكثر شخصيات أفلام كان زخمًا وجاذبية درامية. الرجل الفقير بسيط الحال الذي اعتاد أن يلقى معاملة سيئة من عشيرته لأنه ببساطة لا يملك أي مصدر من مصادر الاحترام بينهم، والذي يؤثر هذا التموضع فيه باستمرار فيجعل حياته وحياة أبناءه رهينة سلسلة من القرارات الخاطئة غير المدفوعة بأي منطق بخلاف قيود المجتمع، والذي يجد نفسه فجأة أمام فرصة تاريخية لاستعادة احترامه داخل العشيرة وترسيمه كبيرًا لها بشرط وحيد: أن يضحي بممتلكاته وكل ما وفره طيلة عمره في سبيل مراسم سخيفة بلا معنى.

يأتي هذا في الوقت الذي يعاني أبناءه الخمسة (ليلة وإخوانها الأربعة) في حياتهم من فشل عام، يحلمون بالخروج منه عبر التشارك في مشروع ينتشلهم من مستقبل أكثر ظلمة، فهم أبناء عصر أكثر عنفًا إن لم تثرى فيه ستزداد فقرًا لأن احتمالية البقاء في مكانك غير موجودة. ليتطور الأمر إلى مواجهة بين الأب والأبناء، محورها الرئيسي رغبته في شراء احترام العشيرة خلال السنوات الأخيرة من حياته، في مقابل رغبة الأبناء في مستقبل أفضل سيمتد بالتأكيد لما يزيد عما بقي في عمر الأب الثمانيني.

فيلم إخوان ليلى

يظهر السؤال هنا: هل يمكن بالفعل شراء الاحترام والتقدير؟ الإجابة المتسرعة هي لا، فهي أشياء لا تُشترى كما قال أمل دنقل. لكن الحقيقة المؤلمة التي يثبتها الفيلم عبر مشهد بديع هو مشهد الزفاف الذي يفترض أن يُقدم فيه الأب هديته الثمينة أن الاحترام يمكن شراءه طالما تمت الصفقة داخل عالم يقوم بالكامل على منظومة خاطئة من القيم الحاكمة، التي تُضفي قيمة على ما لا قيمة له؛ فإذا كان عيش رجل وأولاده في بؤس طيلة حياتهم أمر مُرحب به طالما بدت العشيرة ثرية تبعثر الجنيهات الذهبية في حفلات الزفاف فكل شيء جائز. باختصار إذا كان من المقبول – بل المحمود – أن تكون تعاسة الأفراد ثمنًا لفخر المجموعة فلا أمل في البحث عن معنى لأي شيء.

في مواجهة الأبوية

يُقدّم المخرج الشاب بهذا مرافعته الخاصة جدًا في مواجهة السلطة الأبوية. هذا الأب البطريركي يُمثل كل ما يُمكن أن تكرهه فيها: التجبر والمنطق الأعوج والتلاعب وترويج ما هو خاطئ عبر استمالات عاطفية لا قيمة حقيقية لها. والمؤلم أكثر من أفعال الأب هو ردود أفعال الأبناء، الذين تربوا داخل هذا السياق فصاروا مكبلين بقيوده مهما رغبوا في الفرار، فالعنوان يقسم مجموعة الأشقاء الخمسة منطقيًا إلى ليلى وإخوانها، الفتاة التي تمتلك الحد الأدنى من المنطق، أو لنقل من السخط على تحمل التفرقة وإهدار الفرص والتعاسة في سبيل لا شيء، وإخوانها الذي يريدون حياة أفضل لكنهم عاجزين عن الخروج من الفخ الذي وضعهم الأب داخلها، والذي وضعه أبوه بالتأكيد فيه من قبل، وهكذا دواليك.

لتحقيق ذلك الطرح، يغرقنا سعيد روستاي في بحر من تفاصيل الحياة الإيرانية: قوانين العشائر والمنطق الحاكم للعلاقة بين العائلات، هوس التسويق الشبكي وأخلاقيات ربح المال دون مجهود، التطوير العقاري وارتباطه بأحلام الثراء، الحياة الاقتصادية والأثر الهائل للأحداث الخارجية التي تبدو هامشية، كأن تتسبب تويتة كتبها الرئيس الأمريكي ترامب في سلسلة من الأحداث تنتهي بالمزيد من التعاسة للأبطال. تيار مستمر من التفاصيل ساهم بالتأكيد في جعله فيلمًا عسير الهضم على الكثيرين، فهو كما أوضحنا في البداية النقيض من التبسيطية التي اعتاد صناع السينما الإيرانيين انتهاجها. عليك هنا أن تفتح عينيك على اتساعهما ولا تفقد أي شيء مما يحدث على الشاشة، أن تستخدم الأحداث لفهم السياق وتفسيره، وهي مشاهدة نشطة لا يسهل على الكثيرين ممارستها.

مشهد من فيلم إخوان ليلى

وبالتالي، كان من المنطقي أن تنقسم الآراء حول "إخوان ليلى" بين معجب وكاره، بين مشاهد قرأ شفرة الفيلم فاستمتع بتحليله العميق لفشل الأبوية، وفي تنقله الذكي بين الأنواع، فهو تارة كوميديا ساخرة وتارة مأساة مبكية، وبين من أحس بأنه عمل مزدحم ثرثار تصعب متابعته، وبين أولئك وهؤلاء يقف من مَثّل الفيلم تمردًا واضحًا على السينما التي صنعت أسطورتهم فكان من الطبيعي ألا يحبوه أو يدافعوا عنه، الحديث هنا عن أصغر فرهادي الذي لو حسبنا الأمور بالمقاييس المنطقية، فسيكون في الأغلب من أسباب تجاهل لجنة التحكيم الدولية لهذا العمل الفريد.


اقرأ أيضا للكاتب:

مهرجان كان 75: "زمن الفناء".. أو اعترافات جيمس جراي

فيلم افتتاح كان 75: "قطع!".. التجريب السردي في أفلام كوميديا الزومبي
"أبطال".. عن السينما السعودية ومقاييس الصناعة والمستقبل
الفيلم الأعذب في مهرجان البحر الأحمر: "بلفاست".. شذرات الذاكرة من عيني طفل

لا يفوتك: لو عايز تفهم ليه الهضبة عمرو دياب قدم أغاني زي هتدلع واللي يمشي يمشي .. أحمد نادر هيديك الزتونة



حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)

جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt

آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ

هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5