مع انتصاف الطريق نحو السعفة الذهبية، بعرض عشرة أفلام من أصل 21 تتنافس في المسابقة الدولية لمهرجان كان السينمائي الخامس والسبعين، تبدو المسابقة حتى الآن مفتقرة إلى الفيلم التحفة الذي يُجمع الكل على جودته ويتوقعون فوزه، أو حتى على اختلافه وخروجه عن حيز المتوقع كما حدث العام الماضي مع "تيتان Tintane" لجوليا دوكرنو.
تعرف على القائمة الكاملة لأفلام مهرجان كان السينمائي 2022
الأفلام المعروضة أغلبها جيد على الأكثر، تتموضع بسهولة داخل فيلموغرافيا مخرجيها، ففيلم كرستيان مونجيو الجديد "آر إم إن RMN" يحمل كل سمات أعماله القديمة، وكذلك فيلم روبن أوستلوند "مثلث الحزن Triangle of Sadness". بالطبع هناك لحظات ممتعة هنا أو هناك، لكن يظل الإنجاز السينمائي الذي يُفتش عنه الجميع في كان غائبًا.
إلا إنه بين الأفلام العشرة يمكن أن نضع "عنكبوت مقدس Holy Spider" للمخرج السويدي إيراني الأصل على عباسي كأحد أفضل أعمال المسابقة وأكثرها قدرة على طرح الأسئلة الشائكة لا سيما على مجتمعات العالم الثالث التي يتشابك فيها الوعي العام الديني بالقرار السياسي.
مقارنة واجبة
بالمناسبة هنا نرصد تشابه غريب مع "صبي من الجنة Boy from Heaven" الذي عُرض قبل أيام، فكلاهما فيلم لسويدي من أصول شرق أوسطية، وكلاهما يروي حكاية عن مسقط رأسه دون أن يُصرَّح له بالتصوير في الأماكن الحقيقية، ليصوّر صالح القاهرة في إسطنبول ويصوّر عباسي مدينة مشهد الإيرانية في العاصمة الأردنية عمّان. كلا الفيلمين فيلم نوع ينطلق من تحقيق في جرائم قتل، وكلاهما يستخدم التحقيق لكشف ما هو أكثر عن ديناميات السلطة والدين في البلد موضوع الفيلم.
التشابهات كبيرة تستحق الرصد وتثير الشجون، فبينما تجد في المسابقة نفسها أفلامًا فرنسية عن أخ يكره أخته وعن شباب ينضمون إلى مدرسة مسرحية، وفيلم بلجيكي عن علاقة صداقة ممتدة طوال العمر بين رجلين، فإن هذا النوع من الحكايات الإنسانية مسموح به فقط للفنانين الآتين من العالم الأول، أما السينما التي تتحدث عن إيران ومصر ودول الشرق الأوسط، فيجب أن تناقش قضايا وتطرح وجهات نظر سياسية. وضع لا نقول إنه يعكس نوايا سيئة لكنه يعبر بوضوح عن نظرة استشراقية لا تزال بعد 75 نسخة من المهرجان عاجزة عن تحرير غير الأوروبي والأمريكي من حيز الدراسات السوشيو - بوليتيكية إلى رحابة الفن!
قاتل مُلهَم
نعود للحديث عن "عنكبوت مقدس"، والذي يتفوق شكلًا ومضمونًا على "صبي من الجنة"، سواء على مستوى كونه فيلم جريمة متقن يروي فيه على عباسي معالجته لحكاية حقيقية وقعت في مدينة مشهد عام 2001، عندما ظهر قاتل متسلسل يقوم بقتل فتيات الليل لتطهير المدينة منهن، أو على مستوى ما يحمله من تحليل وإدانة للعقلية الذكورية المتشابكة مع الفكر الديني بصورة لا تكتفي بجعل فعل واضح مثل القتل أمرًا ملتبسًا يمكن الاختلاف حوله، بل تحوّله عملًا بطوليًا تدافع الجماهير عن مرتكبه باعتباره يستحق الثناء لا العقاب.
الفيلم يبدأ من منتصف الطريق تقريبًا، بعدما يكون القاتل المعروف إعلاميًا بلقب "العنكبوت المقدس" قد أتم عدة جرائم منحته شهرة ورسخت طريقته التي تقوم على اصطياد إحدى بائعات الهوى واقتيادها إلى مكان يقتلها فيه خنقًا، ثم يلف جثمانها في شادور نسائي ويلقيها في منطقة نائية. الفيلم يبدأ بمتابعة إحدى فتيات الليل التي تترك طفلها الوحيد وتخرج لتمارس عملها وتجمع بعض المال، قبل أن تلاقي مصيرها عندما يقابلها القاتل سعيد فتوافق على اصطحابه.
لا يلعب عباسي لعبة التعمية ولا يخفي هوية القاتل، فبانتهاء التتابع الافتتاحي نرى ونعرف بوضوح العنكبوت المقدس: عامل البناء الأربعيني سعيد، الذي قاتل في الحرب الإيرانية العراقية وعاد لتسيطر عليه الفكرة التطهيرية بتخليص مدينة مشهد المقدسة من الساقطات. الممثل المخضرم مهدي باجستاني يبرع في تقديم الشخصية التي تجمع بين متناقضات، فهو رب أسرة بسيط يعيش حياة الإنسان العادي نهارًا، ينقلب ليلًا فيصير قاتلًا يظن أنه يحمل مهمة مقدسة. براعة باجستناي تتزايد مع بلوغ الفيلم نقطة القبض على سعيد الذي يصير فجأة بطلًا شعبيًا يتظاهر الناس لتبرأته، ليتحول الرجل الاعتيادي الذي لا تلاحظه العيون إلى أيقونة حية، ينفرد ظهره ويتحدث كالأنبياء والمبشرين وكله إيمان بأن الحق سيظهر، وأن المشكلة الوحيدة في قتله 16 امرأة أنه لم ينجح في جعلهن 17!
تحقيق صحفي
المحرك الرئيسي للقبض على سعيد، الذي لم تبدو السلطات أبدًا منزعجة كثيرًا مما يفعله، هو الصحفية الشابة التي تأتي من العاصمة طهران لتحقق في القضية وتفعل ما في وسعها للكشف عن القاتل، وسط عالم ذكوري بطبيعته نعرف من اللحظات الأولى (وعبر بعض التفاصيل المكررة أحيانًا) أن لديه مشكلة مع أي امرأة بشكل عام، حتى وإن لم تمارس الدعارة بجوار ضريح الإمام.
الممثلة زار أمير إبراهيم تلعب دور الصحفية على النحو اللائق دون أداء استثنائي، ربما لأن السيناريو الذي كتبه المخرج علي عباسي رفقة أفشين كرمان برهامي لم يتح لشخصيتها الفرصة التي نالتها شخصية القاتل، فشخصية الصحفية عمومًا في بناءها وتصرفاتها وما تتعرض له من مضايقات تتعلق بعملها وبكونها امرأة أمور تصب في حيز المتوقع، وإن كان وجود هذا المتوقع ضروري في ظل كونها قضية مستمر لم تحل، ولا يبدو أنها ستُحل في المستقبل القريب، في ظل ما يوضحه لنا الفيلم بأن القضية حتى وإن كانت بلغت نهاية يمكن وصفها بالسعيدة، فإنها مجرد حلقة في سلسلة مستمرة من الذكورية والعنف يتم توارثها من جيل إلى جيل.
"عنكبوت مقدس" فيلم مهم، يقدم حكاية درامية مثيرة بشكل ناضج، ويمسك مخرجه بالنبرة الملائمة التي يمكن من خلالها لحكاية متماسكة قابلة للتصديق أن تعبر عن أفكار سياسية واجتماعية ودينية، لا أن تتحول الشخصيات والأحداث إلى أوعية خاوية وظيفتها الوحيدة حمل الأفكار التي يرغب المخرج في فرضها وإن تعارضت مع المنطق الدرامي. نعم، أقصد بما سبق طارق صالح وفيلمه "ولد من الجنة" الذي سنعود له بالتفصيل في مقال لاحق.
اقرأ أيضا:
فيلم افتتاح كان 75: "قطع!".. التجريب السردي في أفلام كوميديا الزومبي
"أبطال".. عن السينما السعودية ومقاييس الصناعة والمستقبل
مهرجان كان 75: عشرة أفلام ينتظرها محبو السينما في كان
لا يفوتك: حلقة خاصة لتحليل أغنية أنغام "لوحة باهتة" في "تحليل النغمات مع عمك البات"
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5