حظيت الدورة الخامسة من مهرجان الجونة بمشاركة مصرية متميزة، لكن فيلم (ريش) احتفظ لنفسه بمكانة خاصة لدى حضور المهرجان حتى قبل عرضه، فالجميع تعلقت أعينهم بهذا الفيلم الذي حصل على أول جائزتين من نوعيهما في تاريخ الدولة المصرية من مهرجان كان، وهما جائزة أسبوع النقاد وجائزة فيبريسي بإضافة إلى جائزة أخرى من الصين حصل عليها عشية عرضه بالجونة.
اقرأ أيضا - كاملة أبو ذكري عن أزمة فيلم "ريش": ارحمونا من كلمة سمعة مصر و كفاية مزايدة ونفاق
الحالة نفسها حدثت من قبل في 2018 حيث كان فيلم (يوم الدين) للمخرج أبو بكر شوقي، وكان وقتها على قائمة أولويات الحضور بمهرجان الجونة أيضا، الجميع يسعى لمشاهدة الفيلم الذي أعاد اسم مصر مرة أخرى ليحلق في سماء المهرجانات العالمية، الكل يحتفي بصناع الفيلم وأبطاله، رغم كونهم جميعا وجوها غير معروفة، لكنهم كانوا نجوم الجونة في دورة تلك العام.
ظل بطل الفيلم "راضي" -المريض المتعافي من الجذام لكنه يحمل آثاره على وجهه- يلتقط الصور مع معجبيه وعلى وجهه ابتسامة تعجب كيف حوله سحر السينما من شخص بائس مريض مهمل داخل مستعمرة الجذام إلى نجم يجوب المهرجانات ويحقق فيلمه الجوائز، لم تكن موضة تسجيل المواقف عن طريق الانسحابات قد ظهرت بعد، وإلا كنا قد شاهدنا محبي هذه الموضة يغادرون القاعة ويصرون أن تلتقط له الكاميرات لحظة المغادرة!
بالطبع ليس إلزاما على أحد أيا كان أن يستكمل مشاهدة فيلما لا يروق له، والمنسحبون من استكمال مشاهدة فيلم (ريش) عددهم ليس بقليل، فالفيلم يحمل لغة سينمائية غير مستساغة، وقد تكون تسببت في إحباط البعض لكن الغريب أن يبرر أحدهم انسحابه، ويربط بينه وبين سمعة مصر، لست هنا بصدد الدفاع عن الفيلم، ولن أتطرق إلى كون الفيلم يدور في اللا زمان واللا مكان، أي أنه لم يحدد توقيت أو مكان الأحداث التي هي بالأساس تنتمي لسينما الفانتزيا، ولن أناقش منطقية ما فعله الفنان والأسباب التي جعلته يفضل القيام بذلك عن أن يجلس ويناقش صناع الفيلم الذي ينتمى إليهم بحكم مهنته، فلكل شخص قناعاته وأجندته التي يتصرف وفقا لها، وإجابات مثل تلك الأسئلة حتما ستكون عبثية.
لكن ما يشغلني حقا هو حال المتضامنين مع موقف هذا الفنان الذين قرروا طواعية أن يتبنوا موقفه، وأن يصبحوا أسرى لقناعاته، فكيف لإنسان في القرن الـ21 أن يسلم عقله لأحدهم ليعبث به بهذا الشكل الذي نتابعه على مدار اليومين الماضيين، ويصور له أن إنجازات الدولة التي يراها القاصي والداني ستتأثر بفيلم لم يقدم شيئا سوى أن جعل من أبطاله يعيشون في فقر مدقع، الأمر الذي تجاوزته كل سينما الدنيا، التي تغيرت أبجدياتها، ولم يعد بها تلك المحاذير العقيمة على الإبداع.
وفي مهرجان الجونة نفسه تشارك العديد من الأفلام التي تتحدث عن واقع مجتمعاتها بكل حرية، منها على سبيل المثال الفيلم الصيني القصير (ليلى وحدها) التي تضطر بطلته لتأجير رحمها حتى تجلب المال وتنقذ والدها المريض، ونعيش في الفيلم عالم تأجير الأرحام السري في الصين، والدوافع التى تدفع النساء لفعل ذلك، ومن السعودية تحدث فيلم (نور الشمس) عن مأساة ابن تزوجت أمه من زوج يمني فحصل على جنسية والده، وبدأ يعامل في المجتمع كمواطن درجة ثانية مما جعله يفضل الرحيل.
وفي مسابقة الأفلام الروائية تشارك روسيا بفيلم يحمل اسم (هروب الرقيب فولكونوجوف) الذي يتحدث بحرية عن ما حدث في معتقلات روسيا في زمن من الأزمنة، وغيرها من الأفلام التي يتنفس صناعها الحرية، كما تنفسها "بركات" من قبل فصنع لنا (الحرام، وأفواه وأرانب) وكما عبر عنها "عاطف الطيب" في (الحب فوق هضبة الهرم) و"إبراهيم الشقنقيري" في (أنا لا أكذب ولكني أتجمل) وغيرها من الأعمال التي مست الوجدان وعاشت حتى الآن دون أن تتهم بالإساءة إلى سمعة الوطن.
كان يستحق فيلم (ريش) أن نحتفي بإنجاز صناعه لا أن نحبطهم ونجبرهم على تقديم المعلبات الجاهزة التي تضمن لهم البقاء بعيدا عن السيل الجارف من الاتهامات، لكنني على يقين بأن محاولات "نتف الريش" لن تمنع هذا الجيل الواعي من التحليق بعيدا عن هذا العبث الحنجوري الزائف الذي يفضل أن يرى الدجاج مطهيا بالطريقة التقليدية ولا يروقه منظر الريش!!.
اقرأ أيضا:
رد الجونة على أزمة "ريش": لا تحملوا الفيلم أكثر مما يحتمل ولن نقبل بالإساءة لمصر
فيلم مختلف وصادم أم سوداوي ويسيء لسمعة مصر.. ردود أفعال الفنانين حول "ريش"