FilFan
FilFan تاريخ النشر: الأحد، 17 أكتوبر، 2021 | آخر تحديث:
عمرو دياب

نواصل في الحلقة الرابعة من مذكرات الهضبة مع الكاتب الكبير يسري الفخراني سرد تفاصيل رحلة المجد التي بدأت من بورسعيد إلى القاهرة ، وحان موعد وصول عمرو إلى محطة مهمة في مشواره الفني .. محطة "ملاهي شارع الهرم " ، أيام صعبة ومثيرة مشحونة بأحلام وآلام تستحق أن تروى.

الحلقة السابقة: مذكرات الهضبة 3 - "الأستاذ" ... عمرو دياب في صالون محمد عبد الوهاب

في عام 2007 انفرد الكاتب الكبير يسري الفخراني بنشر مذكرات عمرو دياب، أسرار وكواليس واعترافات مر عليها 14 عامًا، ولكن ما بين سطورها يستحق أن نعيد قراءته مع أجيال جديدة ستعرف الوجه الآخر للهضبة في حلقات خاصة تنشر لأول مرة في المواقع المصرية والعربية على FilFan .

يحكي عمرو دياب:

بدأت أغنى في الملهى الأول .. "وأزوغ" لألحق الغناء في الملهى الثاني .. وعندما يسألنى صاحب الملهى الأول أنت بتروح فين .. أكدب عليه أى كدبة حتى لا يكتشف أننى خالفت عقدى معه.

واستمرت الحياة هكذا .. حتى بدأ صاحب الملهى يشك فى غيابى .. وأرسل خلفى من يعرف ليه أين أذهب؟
وفى ليلة كنت في غاية الأنسجام أغنى بحماس شديد أغنية لعبد الحليم حافظ فى الملهى الثاني .. فاكر اليوم ده كويس أوى .. وكانت أغنية سواح .. وفجاة وجدت "شاويش" يمسكنى من رقبتي! إيه اللى حصل؟ ويرد ببرود وجفاء وقلبى مسحوب منى قدامى على القسم يا متهم ؟
متهم؟ متهم أيه يا جدع .. أوع .. سيب
مافيش فايدة ..
وماسبنيش إلا فى قسم البوليس.

وقضيت ليلة صعبة ، عرفت فيها أن صاحب الملهى الأول حرر ضدى محضرا يتهمنى فيه بالإخلال بالعقد اللى بينا ، وعرفت –وهذا هو الأهم– أن أقسام البوليس أبشع عقاب للذين لم يتذوقوا النوم فيها قبل ذلك.

وجاء عم أحمد البواب ليخرجنى .. وأمام الضابط وكان شابا وسيما مهذبا سألنى، أنت إيه حكايتك بالظبط؟
وحكيت له الحكاية ..من بورسعيد .. لقسم الزمالك.
سألني بلطف، يعني عايز تفهمنى إن صوتك حلو؟
وقلت: يعني .. على قدى.
فقال: طب غنى!
أغنى فين؟ هنا .. وحاولت أتهرب .. وأصر .. وغنيت ..

وانتهيت من الغناء .. وعينى على الضابط الذى بدا كانه لم تستمتع بما غنيت .. وفؤجئت به يقول: موش بطال .. يجى منك! أقعد خد كلك لقمة معايا ..يمكن بكرة تبقى مشهور وتفتكرنى .. وكنت ميت من الجوع .. ولم أنتظر أن يدعونى مرة أخرى .. جلست وأكلت.

بعدها قال لى، وناوى بعد كده .. تغنى فى الملهى الثانى؟
وأجبت ديه فرصة يا فندم .. ومش عاوزها تضيع من أيدى
فقال: طب أسمع أنا مضطر لو أتكتب فيك محضر تانى أقبض عليك .. وأنا عندى أقتراح .. كل يوم تروح تغنى وأنا حبعت الشاويش يقبض عليك كده يبقى نفذت القانون.
قلت وبعدين يافندم؟
قال: وبعدين أفرج عنك .. ولا أنت موش عايز تشوفنى تانى؟
وكل يوم أغنى .. ويقبض على .. وأغنى تانى .. حتى جاء الفرج واتحرق الملهى الأول فى أحداث الأمن المركزى الشهيرة التى حرقت أشياء كثيرة فى شارع الهرم .. والتهمت النار عقد احتكارى وغنيت فى هذه الليلة .. وأنا سعيد على حريتى .. حزين على ذكرياتى التى احترقت هناك ..

وكان.. أن بدأت أخطط لحيانى بشكل جديد.
قررت أن أتمرد
كنت قد أكتسبت بعض الخبرة التى تؤهلنى لتخطيط حياتى ،، وتعرفت على بعض الشخصيات التى تحرك الوسط الفنى .
وبدأت أبحث عن شكل لى .. طريقة أداء .. ملامح أغنية .. ملابس.
ورغم تخطيطى الجيد لهذا الانقلاب فى حياتى ، إلا أننى أكتشفت أن الموضوع محتاج فلوس وأنا " على باب الله" يادوب يعلم ربنا بقضيها إزاي بأقضيها لآخر الشهر علشان أكل بس !. فلا أنا أملك فرقة ولا لبس ولا حتى سيارة ، ولا بيت ولا أى حاجة خالص .. مازلت بطولى مع البنطلونين اللى "حلتى"!

عمرو دياب

كنت فى نفس الوقتقد بدأت أتردد على الملحن هانى شنودة ، وبعد لقاءات كثيرة ، بدأ يعد لى أول أغنية فى حياتى كان أسمها "الزمن" ولم تنجح!

كان الواقع عنيد جدا عنيد إلى درجة أنه بعد ذلك بقليل وعندما وافق أحد المنتجين أن ينتج لى أول شريط فى حياتى ، كنت كالماكينة عليها أن تنفذ الأوامر التى تصدر إليها وصدر الشريط كما يريد المنتج ، وليس كما أريد له ومن المؤكد أنه رغم ذلك كنت سعيدا بالتجربة وقررت بيني وبين نفسى أن أعتبر هذا الشريط حقل اختبار ، ولا أكرر أى خطأ وقعت فيه مع أى شريط آخر.
كان لابد أن أستثمر حتى فشلى!
أليس الفشل هو قمة النجاح.

فى هذه الفترة مع نهاية 1983 كان أسمى الصغير قد بدأ ينتشر على مستوى الأفراح والملاهى الصغيرة فى شارع الهرم ولكن ليس كنمرة ثابتة ، وإنما أغنى وقت أن يطلبونى ، وفى نفس الوقت كنت قد بدأت التعرف على مجموعة أكبر من الشخصيات فى المجتمع الفنى .
حتى جاء يوم تعرفت فيه على مخرج تليفزيونى كبيرا وانتهزتها فرصة وتقدمت منه وكان يسهر فى أحد ملاهى الزمالك وعرفته بنفسى ، واعطيته أول شريط كاسيت فى حياتى ! وأنا أهتز من داخلى ، فأنا أعرف أن هذا المخرج التليفزيونى لو رضى عن مطرب جعله نجما فى أسبوع باذاعة أغانية فى برامجه!

وأستقبلنى بابتسامة باردة وهو يهمس ، متشكر ، حبقى أسمعه!
وقلت وأنا أكثر اهتزازا : لو سمحت يا أستاذ ، لو ، لو يعني ممكن حضرتك تستضيفنى فى برنامجك وتصور لى أغنية يبقى جميل عمرى ما حنسهولك! إنت عارف بقى يا أستاذ التليفزيون بيعمل إيه عند الناس؟

وأعطانى كارت بتليفوناته كأنه يقول لى ، خد وخلصنى ، ومرت الأيام وكلما أتصلن به تهرب منى.. ثم أخيرا رد على تليفونى بنفسه .. وطلب منى أن أحضر إلى بيته فى المساء .. لأشترك فى أحياء سهرة خاصة لبعض أصدقائه.

وفى الموعد المحد بالضبط كنت أدق جرس الشقة ، وبمجرد دخولى .. لأ أنسى هذا المشهد أبدا..ضجت الصالة بنوبة ضحك ساخرة ولم تنقطع .. والكل ينظر لى ويشير نحوى .. ويضحك كثيرا، كأننى نكتة، أو مونولوجيست جاء يمسح أحزان الناس آخر الليل!

ولم أكن أعرف أن ملابسى التى أرتديها يمكن أن تثير الضحك والسخرية وبعض الشفقة إلى هذه الدرجة.

لم أكن بعد قد اصطدمت بهذه النوعية من البشر الذين يجدون متعة حياتهم الوحيدة فى الفرجة على متاعب الآخرين.

وأحسست بألم شديد فى صدرى، كأنهم قد أغتالونى بسكين حاد ودمى ينزف! أجد صعوبة فعلا الأن ان أصف كيف كنت، الحياة التى تهرب منى، دموعى التى حبستها بالعافيه داخلى، قسوة العيون التى تجردنى من ملابسى!

وتقدم المخرج الكبير وصافحنى وقدمنى للناس وهو يدارى خجلا أصابه من الموقف، كأن بعض انسانيته المذبوحة قد عادت له، قال: ها حتسمعنا إيه يا أستاذ؟

عمرو دياب

وقلت بخجل وحزن حقيقى، محاولة لأمسك أخر خيط من خيوط استرداد كرامتى: أى حاجة اللى أنتم عاوزينه؟ وبدأت أغني لا أذكر ماذا غنيت بالضبط؟ ولا كيف أستجمعت قوتى وأنفاسى وأحاسيسى لأغنى؟

ولكن أتذكر جيدا أننى بعد أول دقيقة من الغناء، كنت أغنى لنفسى، لا أحد ينصت لى، لا أحد معى، لا أحد ينظر نحوى!

وقررت أن أواصل الغناء ، أواصله حتى أدارى فيه كرامتى ، وبعد الأغنية الثانية وجدت مدعوة ، ضيفة ، وكانت للأسف فنانة مشهورة تصفق لى بعصبية وهى تصيح : برافو .. أظن موش كفاية كدة بقى يا استاذ ، وجعت دماغنا!

بينما ضجت الصالة التى تجمعنا بالضحك، الضحك الشديد!
هربت كان لابد أن أهرب قبل أن اطرد ولكن السكين لم أستطع أن انتزعه من قلبى وأنا اغادر الحفل .. كان حادا أكثر مما يجب .. وأكثر مما أحتمل!

عدت أسير علة قدمى فوق كوبرى قصر النيل ألمح الليل فى سواد النيل .. اختفت اضواء القاهرة من عينى .. ضاعت .. تلاشت.
ووقفت لحظة أسترجع الطعنة التى لم أتوقعها!

كان الموت لحظتها أبسط واتفه وأسهل ألف مرة من خدش كرامتى!

قلت لنفسى .. هل أعود إلى منزل المخرج .. لأنتقم! لأره من يكون هذا الولد البورسعيدى الذى أهانه.
واستكملت مشوارى مع النيل ،، ولكنى كنت قد قررت داخلى شيئا آخر ،، أن أرد القلم والألم لهذا الأنسان وهؤلاء الذين شاركوه مهمة السخرية منى.

أن أنجح مهما كان الثمن.


شكر خاص للكاتب الكبير "يسري الفخراني"