تمر اليوم ذكرى ميلاد الفنان الراحل محمود ياسين الـ80، وهي الذكرى الأولى بعد رحيله في 14 أكتوبر عام 2020.
ومبكرا، بالنسبة لتاريخه الفني، الذي بدأ في نهاية الستينيات، دخل ياسين حلبة أعمال الدراما النفسية أو السيكودراما، فهي تستهوى الكثير من الفنانين، لما فيها من مساحة كبيرة من التمثيل، والتعبير عن الصراع، وهو جوهر أي دراما.
ففي عام 1973، قدم ياسين، مسلسل الدوامة، عن محمود الذي يعيش حياة رتيبة مليئة بالوحدة، ويحاول أصدقاؤه إقناعه بأن يبحث عن الحب والزواج، لكن تنقلب الأمور تماما.
في العام التالي، لكن هذه المرة سينمائيا قدم فيلم "أين عقلي"، ثم "وثالثهم الشيطان" عام 1978، فـ"انتبهوا أيها السادة" في العام نفسه، وبعده فيلم "الوهم" عام 1979، ثم "الأخرس" عام 1980، وفقا لأرشيف موقع السينما.
لعب محمود ياسين في هذه الأعمال، أشكالا مختلفة من الصراعات النفسية، وقدم فيها نماذج مختلفة لأشخاص عانوا من عقد نفسية أو تعرضوا لمواقف صعبة، أثرت على حياتهم.
"أين عقلي".. عقدة الأب والمريض الذكي
من إخراج عاطف سالم، قدم محمود ياسين دور توفيق، الذي يعاني من صراع بين العادات الشرقية المترسخة في داخله والمستقاة من والده الريفي، وبين ما اكتسبه من العيش في أوروبا، لكنه يحول هذه العقدة إلى محاولة إيهام زوجته عايدة "سعاد حسني" بأنها مجنونة.
وإذا كانت "عايدة" قاومت إيهام "توفيق" لها بأنها مجنونة، فإنه نجح في إيهام الجمهور بصحة ما يدعيه، فقد استطاع بهدوئه الشديد وإخفاء انفعالاته، إن يخبئ ملامح عقدته النفسية، مرحليا.
"كل لحظة سعادة جواها خط رمادي غريب عن الخوف والقلق".. ما قاله توفيق لـ"عايدة" في لحظة صفاء، كان انعكاسا لإحدى المخاوف المسيطرة عليه.
تمر شخصية توفيق بـ3 مراحل، ضمن الأحداث، محاولة خداع عايدة بسبب العقدة المستقرة داخله، ومرحلة الضعف وبدء الانهيار، ومرحلة الاستسلام واللجوء للطبيب، ولم يقع ياسين في فخ الانفعالات الزائدة، في المراحل الثلاث، وإن حدث ذلك إخراجيا في بعض المشاهد، منها مشهد رؤية الطبيب النفسي "رشدي أباظة" لتوفيق في مرضه.
في المرحلة الأولى لعب ياسين الشخصية من منطقة الهدوء وإخفاء الانفعالات حتى مع تحقيق الانتصارات، لكن مع بدء المرحلة الثانية، التي كشف فيها الطبيب، خدعة توفيق، يسجل محمود ياسين أداءً مبهرا مرة أخرى، مستخدما منطق الصوت العالي، فبدأ الهدوء يتبدل، واستخدم توفيق "تون" صوت مرتفع للمرة الأولى، وبدأت العصبية في التمكن منه، وفي عز محاولاته لإثبات أنه على حق، يُظهر على وجهه علامات الاهتزاز والضعف.
فالشعور بالانتصار والإمساك بخيوط اللعبة بدأ في التهاوي، وتبدأ ملامح العقدة تنفك، "يا تبقي زي أمي وأمك.. زي أي زوجة مخلصة أو هحطمك".
ويصل محمود ياسين بشخصية توفيق إلى المرحلة الأخيرة، مرحلة الاستسلام واللجوء إلى الطبيب، التي تتراوح انفعالاته فيها بين الإحساس بالضعف والعصبية، لتكشف اعترافاته ومحاورات الطبيب له، عن العُقدة المترسخة داخله، بين والده، الذي طلق أمه، لأن ابنتها وضعت الكحل في عينها، وبينه الذي لم يطلق عايدة، رغم أنها ليست "بكرا" ليس إيمانا منه بذلك، لكن لأنه الدكتور المثقف الذي جال أوروبا، بين أخته "الشريفة"، وعايدة وفتيات الشارع، اللاتي كان يلتقطهن في الإسكندرية، بحثا عن "بكر" يعوض بها الإحساس الذي افتقده في ليلة زفافه.
لذا فإن محمود ياسين عبر عن شخصية توفيق في المراحل الثلاث دون انفعالات زائدة، مقدما شخصية المريض الذكي، الذي يستخدم ذكاءه للانتقام من عايدة، التي ضغطت على العقدة الراسخة بداخله.
كان توفيق بحاجة لفتح الجرح فقط، لحسم قراره، أي شخصية يكون، والده أم الدكتور المثقف الذي لا يهمه ماضي زوجته؟، ولأن الحب كان موجودا في حياته، تمكن من العبور لبر الاتزان النفسي.
وثالثهم الشيطان.. الفنان الحالم وعقدة الأم
وإذا كانت عقدة "توفيق" هي الأب في "أين عقلي"، فإن خيانة الأم هي عقدة هشام كامل "محمود ياسين"، في فيلم "وثالثهم الشيطان" للمخرج كمال الشيخ، ذلك الفنان الحالم، الذي يخنق زميلته على المسرح بشكل حقيقي، وحين تهرب حبيبته عفاف "ميرفت أمين" إليه، لكي يتزوجا بعد رفض أبيها، نفاجأ باختفاء عفاف، لتدور قصة الفيلم في رحلة البحث عنها، وتوجيه الاتهام له، لنتكتشف العقدة بداخله.
وبشكل مغاير تماما لشخصية توفيق، تلك الشخصية الواثقة في نفسها، التي تلاعب عايدة، فإنه كان صامتا محيرا، معتمدا على تعبيرات وجهه المربكة، لمن حوله، وللمشاهدين أيضا في شخصية "هشام".
"أنا تايه.. أنا ضايع".. هذا ما قاله هشام كامل لخطيب أخته "نبيل نور الدين"، وهو أدق تعبير عنه.
ومثل فيلم "أين عقلي" فقد مرت شخصية هشام بـ3 مراحل، شخصية الحالم والهائم في حب المسرح، ثم مرحلة بدء الضياع عندما خنق زميلته نوال فهمي "ليلى طاهر" على المسرح بشكل حقيقي ورفض والد حبيبته له، ثم مرحلة ما بعد حادث اختفاء عفاف.
ولأن الفيلم اعتمد الحكي بطريقة "الفلاش باك"، فإننا بدأنا مع المرحلة الثالثة، تلك التي اعتمد فيها ياسين على تعبيرات وجه تدل على الضياع والارتباك والحيرة، ثم المرحلة الأولى هذا الشخص الحالم المفتون بحب المسرح، ولكن عُقده مرتسخة داخله بسبب خيانة والدته مع عمه، التي ترجمها لانتقام من زميلته، على المسرح، خاصة أنها الملكة الأم الخائنة ضمن أحداث المسرحية، فيتم وقف المسرحية، ليشعر ببدء الضياع، ومع استسلامه للشباك التي نصبتها لها زميلته، ورفض والد عفاف له، يزداد شعوره بالضياع، ورغم هروب عفاف من بيتها إليه، لكنه يشعر للحظة أنها مثل أمه ومثل زميلته، فيقرر الاعتداء عليها، لكنها تستطيع الهرب، ليصل للمنحنى الثالث من الشخصية.
"ورجائي منكم جمعيا أن تكتموا سر هذه الليلة"، هذه الجملة التي يقولها في مسرحية "هاملت" وتتحول إلى واقع في حياته.
والأهم في أداء ياسين في هذا الفيلم، هو المنحنى الثاني، الذي أظهر فيه عنفا ليكشف أن الشخصية الحالمة، بداخلها بركان يحاول إخماده، والمنحنى الثالث تلك الحيرة والضياع، الذي لا يعبر عنه لكي يفلت من جريمة الاختفاء، لكنه حقا ضائع، فقد شك أنه قتل عفاف، حين أخبرته النيابة بأنهم وجدوا جثة في الترعة، فيظن أنه فعل ذلك بالفعل.
نجح سيناريو الفيلم في إيقاظ العقدة المدفونة في دخله، واستطاع ياسين أن يعبر عن الحالة الحقيقية له، التي كان يخفيها بحب المسرح.
ومثلما كان الحب موجودا في "أين عقلي" وكان الطبيب النفسي حل اللغز، فإن الأمر تكرر في فيلم "وثالثهم الشيطان".
وفي الحالتين، فإن المحبوبة التي أذاها محمود ياسين كانت هي الحل، الحب الذي لو كان انشغل به من البداية، لتمكن من الهروب من ظل أبيه في الأولى، ومن عقدة أمه الخائنة في الثانية.
انتبهوا أيها السادة.. الانقتام الهادئ
ربما يركز الفيلم، الذي أخرجه محمد عبدالعزيز، بشكل أكبر على أزمة ما بعد الانفتاح، وانهيار "الذوق"، وصراع الطبقات، وصعود أصحاب الحرف اقتصاديا واجتماعيا مقابل انحدار قوي للعلماء والأطباء والمستشارين وغيرهم، ممن بذلوا وقتا وجهدا في حياتهم العلمية والعملية.
لكن رغم ذلك، فإن ظن عنتر "محمود ياسين" الخاطئ، بأن سعاد "زيزي مصطفى" خادمة في منزل المستشار فهمي "صلاح نظمي"، وليست ابنته، ومقابلة طلب تقدمه بالرفض، كان مفجرا لعقدة الصراع الطبقي، لدى عنتر، الذي تحول إلى مقاول ولم يكتف بعمله في جمع القمامة، بينما جلال "حسين فهمي" يجاهد من أجل جمع الأموال، لكي يستطيع أن يسكن في شقة من شقق عنتر، وينتهي الأمر بخطف عنتر، لخطيبة جلال، عايدة "ناهد الشريف".
انتقام عنتر لم يكن موجها لأسرة المستشار فهمي، ولكن للمجتمع بأكمله، ورأى أن الطريق الوحيد هو أن يصبح من رجال المال، وهذا ما يظهر جاليا حين يطلب عنتر من المستشار فهمي أن يعمل لديه، مقرا بأنه صاحب فضل عليه حين رفض زواجه من ابنته، فهذا ما دفعه للتغيير.
وهنا قدم محمود ياسين أزمة نفسية مختلفة، وهي شخصية السيكوباتي المعادي للمجتمع، بنجاح، وتكمن صعوبة هذه الشخصية في أن ظاهرها سوي، وأن صاحبها لا يدرك ما بدخله، وهو ما نجح محمود ياسين فيه، إظهار أن لديه عُقدة دون أن يكون معتقدا أن بداخله عقدة.
شكواه بأن ابنه ليس ناجحا في المدرسة، وهو لا يهمه التعليم، بقدر رغبته في أن يرى في ابنه ما لم يحققه، واستعانته بالدكتور جلال لحل الأزمة، في ظاهره اهتمام بالمشكلة وفي باطنه إذلال لجلال، إرساله لابنه إلى المدرسة ومعه 10 جنيهات في السبعينيات وحقيبة مليئة بالطعام والشراب، في ظاهره اهتمام بطفله، وفي باطنه "منظرة" ابنه بأموال أبيه، تقربه من عايدة في ظاهره الود، وفي باطنه رغبة الانتقام من جلال وخطفها منه، حتى ولو لم تكن الفكرة متبلورة بداخله، لإحساسه بالدونية.
يرفض عنتر حديث جلال لابنه عن أهمية "الزبال" في المجتمع، فما يهمه أن "الزبال" معه أموال ليست مع الآخرين، وهذه هي العقدة، التي لم يسع الفيلم لحلها، لأنها على عكس العملين المذكورين سابقا، ليست أزمة نفسية تخص شخصا ما، بقدر ما هي أزمة مجتمع.
وتتواصل العقدة، بنصب عنتر شباكه حول عايدة وإغرائها هي وأمها بالأموال، حتى ينجح في الزواج منها، لكي يكون انتقامه الأخير من أسرة المستشار فهمي، بينما بكل تأكيد سيواصل ممارساته تجاه المجتمع كله.
الوهم.. الفوبيا واستغلال المرض
في الوهم للمخرج نادر جلال، يبدأ الفيلم ومجدي عبد الغفار "محمود ياسين" في عيادة طبيب نفسي، جراء إصابته بصدمة عصبية لسقوط أحد العمال أمامه في موقع العمل من ارتفاع ووفاته، ما أدى إلى إصابته بفوبيا من الأماكن المرتفعة، ما يدفع صفوت الأباصيري "عمر الحريري"، الذي يعرف قصته بشكل قدري، لاستغلال مرضه، لارتكاب جريمة قتل زوجته "سعاد"، طمعا في ثروتها، بالتعاون مع الممثلة المبتدئة نجوى "نيللي"، التي تمثل دور زوجته، معتمدا على فوبيا مجدي من المرتفعات.
وباستثناء مشاهد البداية، التي تُظهر الأثر النفسي على وجه مجدي عبدالغفار، فلم يظهر محمود ياسين طول الأحداث بهذا الشكل، بل كان شخصا سويا تماما بمجرد انخراطه في أزمة زوجة صفوت الأباصيري المزيفة، فلا يوجد مجال للحديث عن شخصية المريض النفسي في هذا الفيلم.
لكن ياسين قدم قصة مختلفة عن سابقاتها، وهي سهولة وقوع المريض النفسي فريسة للاستغلال من الآخرين، باستخدام نقطة ضعفه.
الغريب في هذا الفيلم أن الحب لم يفك عقدة مجدي عبدالغفار، فلم يستطع الصعود خلف "سعاد/ نجوى" لإنقاذها رغم حبه لها، لكن رغبته في معرفة الحقيقة حين يلتقى بـ"سعاد" مرة أخرى، وتخبره أنها ليست سعاد بل نجوى، فإنه يتغلب على نقطة ضعفه، ويتمكن من اصطحابها وصعود الفنار.
الأخرس.. الشعور بالذنب والدفاع عن الملاذ الأخير
يقدم ياسين في هذا الفيلم، الذي أخرجه أحمد السبعاوي، أحد تأثيرات الصدمة العصبية أو المرض النفسي وهو تحوله إلى مرض عضوي، من خلال المهندس أحمد، الذي يفقد صوته بعد سقوط صديقه أمامه في الموقع، بعد أن طلب منه الصعود للبرج، وتزداد أزمته مع تخلي خطيبته عنه، قبل أن يجد الحب من جديد مع عايدة "مديحة كامل".
ورغم التشابه في سبب الصدمة مع فيلم الوهم، فإن المعالجة هنا مختلفة تماما، وهي التحول لشخص فاقد النطق، وهو ما يدفع بالممثل لاستخدام تعبيرات وجهه فقط، خاصة أنه لا يعرف لغة الإشارة.
بوجه يملؤه الشعور بالضعف والإحساس بالذنب، عبر ياسين عن مشاعر شخصية أحمد بعد الحادث، ولم تفلح محاولات والدة صديقه في إخراجه من أزمته، وقتل الشعور بالذنب لديه.
ومع دخول حب جديد في حياة أحمد، جاءت صدمة رفض والدها، لتزيد من فترة صمته، ما يصعب من عودة النطق له.
لم ينجح حب عايدة في انتشال أحمد من أزمة فقد نطقه، فقد كان الخوف من الفشل والطلاق ورفض والدها مسيطرا عليه.
مرة أخرى مثل فيلم الوهم، لم يكن الحب المنقذ لأحمد، لكن الخوف من فقدان عايدة، بعد تعرضها للإجهاض، ومطالبة والدها له بطلاقها والتخلي عن الإنانية، إذ يعود له صوته ليهاجم حماه، الذي يريد حرمانه من الملاذ الأخير له.