هناك مفهوم لدى الكثيرين بأن الموت عقاب، سواء كان واقعيا، فيشمت البعض في وفاة من يكرهون، أو دراميا، وينظرون له أنه عقاب من مؤلف العمل، لأن البطل كان "شريرا".
هذا مفهوم مجتمعي سائد، وغذاه صناع الدراما أنفسهم، بتقديم شخصيات أحادية، إما طيبة للغاية أو نقيضها، والانتقام بقتل الشخص الشرير في نهاية العمل.
نرشح لك: سمير غانم .. ملك "الهلس" الذي نحبه
"الموت مش عقاب يا جماعة مش عقاب، فكر فيها كده، هتلاقي العقاب المؤلم والقاسي هو أننا نفضل متشعلقين كده لا طايلين سما ولا أرض"، هذا ما كتبه الكاتب إسلام حافظ، مؤلف مسلسل "بين السما والأرض"، الذي انتهي عرضه يوم 15 رمضان الجاري، عبر حسابه على Facebook ردا على حالة الجدل التي أثيرت عقب نهاية حلقات المسلسل، ونظرة الكثيرين بأن المؤلف عاقب أبطاله بالموت.
في رواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ تنتهي الأحداث بوفاة عباس الحلو "الشخص الطيب"، وتعيش حميدة "الشخص الشرير/ السيئ"، لكن حينما تحولت لفيلم حدث العكس، لأن جمهور السينما وخاصة في وقتها لم يكن ليتقبل وفاة الطيب.
نجيب محفوظ هو أيضا من كتب قصة فيلم "بين السما والأرض"، وقد كتبها مباشرة للسينما، واختار الفيلم، الذي أخرجه صلاح أبو سيف، خروج أبطاله سالمين، باستثناء أحد أبطاله، الذي توفي داخله، بينما اختار إسلام حافظ والمخرج محمد جمال العدل "ماندو العدل" وفاة أبطالهم، بانفجار هز العمارة بأكملها.
فالفيلم والمسلسل، اللذان حملا الاسم نفسه، اختار الأول أن يهبط بأبطاله، المعلقين بين السماء والأرض، إلى الأرض مرة أخرى، بينما اختار الآخر بأن يصعد بهم إلى السماء.
وبين هذا وذلك كتب كل كاتب أقدار أبطاله، لكنه لم ينصب لهم المحاكمة، وتركهم في الفيلم لضمائرهم بعد الخروج، وتركهم في المسلسل لمشيئة الإله بعد صعود أرواحهم.
قبل عرض المسلسل كان هناك تخوفات كثيرة، بتقديم مسلسل 15 حلقة عن قصة فيلم لم يحقق نجاحا في السينما، لكنه خُلد في تاريخها بعد العرض التليفزيوني، الأمر الآخر كان متعلقا بكيفية الإقناع أن يظل الأسانسير معلقا مدة طويلة في 2021.
لكن مع بدء الحلقات الأولى للمسلسل، زالت هذه المخاوف، وبدا أننا نتعامل مع إبداع مختلف تماما لا يربطه بالفيلم سوى فكرة الحبس داخل الأسانسير، وتشابه بين بعض الشخصيات، كالسيدة الحامل، والهارب من مستشفى الأمراض العقلية، والفنانة، أو بعض الأحداث مثل ميلاد الطفل ووفاة أحد الأبطال، مع اختلاف تام في الأحداث بعد ذلك.
اختار إسلام حافظ في المسلسل الذي بدأ بتعطل الأسانسير، أن يستخدم تقنية "الفلاش باك" ليحكي قصص أبطاله توازيا، ونجح في الإقناع مع الحلقات الأولى بتعطل الأسانسير لمدة طويلة، أولا لأنها فُعلت بفعل فاعل فتحتاج وقتا طويلا للإصلاح، الأمر الآخر أن اليوم توافق مع عيد شم النسيم، وشركة الصيانة إجازة.
لكن الخط الخاص بالموظف في الشركة "إبراهيم السمان" لم يكن مقنعا، ومواقفه كانت مفتعلة لحد كبير وعبثية في مسلسل اعتمد على الواقعية، على عكس الفيلم، الذي اتسم بالعبثية ومال للكوميديا، وهذه ليست مقارنة بين العملين، فكل منهما إبداع مستقل عن الآخر كما ذُكر سابقا، لكنها مقارنة بين منطقية الأحداث، كذلك الكوميديا التي حاول أن يضفيها المسلسل من خلال شخصية شندويلي "بيومي فؤاد" كانت خارجة عن سياق الأزمة.
وأيضا على عكس ما اعتمده الفيلم من التأكيد بالصورة والحوار على شعور أبطاله بحالة "الخنقة" وضيق التنفس داخل الأسانسير، لم يقدم المسلسل الحالة بالقوة نفسها، فقد قلل عدد الشخصيات داخله وفي مساحة أوسع.
ويمكن تقسيم المسلسل إلى 3 أجزاء، الحلقة الأولى التي تدور عن بداية الأزمة، ثم من الحلقة الثانية إلى الحلقة 13، التي عرف فيها الجمهور ماضي أبطاله والتغيرات والمصاعب التي تعرضوا لها داخل الأسانسير والتحول في علاقتهم ببعضهم البعض، وأخيرا الحلقتان الـ14 و15، اللتان قدم فيهما أبطال العمل ما يشبه الاعتراف والتطهر، قبل انتهاء الأحداث بوفاتهم.
والحلقة الأولى جاءت مقنعة فيما يخص تعطل المصعد، والجزء الثاني نجح فيه إسلام حافظ ببراعة في تقديم أغلب شخصياته بشكل حي ومختلف، لا هم طيبون ولا أشرار، لكنهم في المنطقة الرمادية الأقرب لأغلب البشر.
وصولا للجزء الثالث، وهو الأهم، لأنه حمل نهاية مختلفة وغير متوقعة وصادمة، لكنها كانت النهاية التي اختارها لينهي بها عذاب أبطاله، وليس عقابا منه لهم، فإذا كان الموت عقابا، فلماذا كان أول المنتقلين إلى العالم الآخر هو شاكر "أحمد بدير" وهو أكثر الشخصيات في المسلسل نقاءً؟ ولماذا مات الطفل الذي لم يفعل أي شيء في الحياة؟ وكذلك جلال أبو الوفا الذي تعذب في الحياة ثمنا لحلمه.
وحملت أحداث الجزء الثالث أيضا أمرا مهما وهو ما يشبه الاعتراف بالذنوب والأخطاء، أو التعبير عما تحمله نفوس من يعرفون بعضهم البعض بداخل الأسانسير.
وما يحسب لمؤلف العمل هو اعتراف أغلب الأشخاص دون افتعال، وانتقال الحوار بينهم بسلاسة، إلا قليلا.
كان أبطال المسلسل جميعهم متمسكين بالحياة ومدركين تمام الإدراك أنهم سيخرجون عاجلا أو آجلا، حسبما جاء على ألسنتهم، لكن يبدو أن صوتا ما بداخلهم كان يشعر أن الموت قد يأتي وليس الخروج، وهو المبرر الوحيد لحلقتي الاعتراف، الذي عادة ما يكون مرتبطا بلحظات الضعف وشعور اقتراب الأجل.
فقد بدا أن شخصيات العمل اعترفت بهدف التطهر، أملا في التوبة والنجاة "في الإسلام" في معالجة مختلفة لقصة أصحاب الغار، أو ما يشبه الاعتراف أملا في الخلاص "في المسيحية"، حتى لو لم تتحقق شروط التوبة أو الاعتراف.
على جانب آخر، يحسب للفنان هاني سلامة أنه قبل بعمل مساحته فيه تكاد تتساوى مع جميع أبطال العمل، الذين قدموا شخصياتهم بشكل جيد للغاية، فعنصر التمثيل كان أحد أقوى عناصر المسلسل.
فقد قدم الكثيرون سواء كانوا من الأبطال أو الشخصيات الثانوية أدوارهم أفضل ما يكون، خاصة محمود الليثي، الذي دائما ما يثبت قدرته على تقديم أعمال بعيدة عن الكوميديا، وكذلك إجادته لحد كبير الغناء والابتهال، ومحمد ثروت الذي استغل هدية ماندو العدل باختياره لشخصية جلال، وكذلك نورهان ونجلاء بدر، اللتين تستحقان مساحات أكبر في أعمالهما، وختاما بأيمن قنديل، الذي يستحق أن يكون في قائمة ترشيحات المخرجين.