كثيرًا ما نتحدث عن معضلة الشكل والمضمون في الفيلم السينمائي، فبينما تنحاز أغلب الأفلام إما إلى الخطاب مرتكنة على مضمون درامي أو فكري، أو إلى صناعة الشكل الفيلمي سواء كان على المستوى البصري أو السردي، فإن الرأي الأصوب أنه كلما ارتفعت قيمة الفيلم كلما كان الشكل هو المضمون، وجها عملة مرتبطان عضويًا بصورة يستحيل معها تخيل أيهما دون الآخر.
الرأي السابق معقد بعض الشيء، يحتاج في أغلب الحالات لشرح مضاعف وخيال واسع يحاول تصوّر الفيلم نفسه بتعديل أحد طرفي المعادلة، لكن من حين لآخر تظهر أفلام لامعة، خارجة عن المألوف، اختلاف الشكل فيها وارتباطه بالمضمون أمور جليّة بما يجعل العمل مثالًا قياسيًا يمكن الركون إليه لشرح تلك العلاقة. أحد هذه الأفلام هو "فيلم شرطي A Cop Movie" للمخرج المكسيكي ألونسو رويزبالاثيوس، الفيلم الذي فاز قبل أيام بجائزة الإسهام الفني من مهرجان برلين السينمائي الدولي الحادي والسبعين، عن عنصر المونتاج تحديدًا.
نرشح لك: برليناله 71: "جنس سيئ الحظ أو بورنو جنوني".. جرأة رومانية تقلب موازين الدب الذهبي
ألونسو رويزبالاثيوس هو أحد التجليات الحديثة لنجاح السينما المكسيكية المتواصل في تقديم أصوات سينمائية مغايرة ومدهشة، تُمثل أعماله جيًلا جديدًا لحق بجيل الأصدقاء الثلاثة (إليخاندرو جونزاليس إيناريتو، جويرمو ديل تورو، ألفونسو كوران) الذين نقلوا السينما المكسيكية لاتساع الانتشار الهوليوودي. وعلى مدار ثلاثة أفلام طويلة حقق نجاحات متتالية، لدرجة أن أفلامه الثلاثة "جيروس Güeros" و"متحف Museo" وصولًا لـ"فيلم شرطي" نالت جوائز رسمية من مهرجان برلين، بين تتويجات دولية عديدة. نجاح دفع شبكة نتفليكس لضمه لقائمة مواهبها فقام بإخراج بعض حلقات المسلسل الشهير "Narcos: Mexico" قبل أن تقوم المنصة بشراء فيلمه الجديد وتسمح له – في استثناء لقواعدها الجديدة – بالمشاركة في برليناله.
تتابعات البداية.. مدخل العالم العصيب
سارينة سيارة شرطة مرتفعة تصاحب دخول المركبة أحياء مكسيكو سيتي الفقيرة، ضابطة تهرع إلى موقع الاستدعاء ليقابلها رجل يحاول إخراج شيء من ملابسه بما قد يوحي بإشهار سلاح، لكننا نكتشف إنه مجرد هاتف جوّال، وأن الاستدعاء لأمر أبسط: امرأة في حالة صحية سيئة تضع مولودها!
وصف "أبسط" يقوم على المنطق المباشر؛ فعملية ولادة أمر أيسر بطبيعة الحال من مواجهة مجرم مسلح. لكن ما تكشفه الدقائق اللاهثة أن الوضع لا يقل صعوبة. فالمرأة في حاجة ماسة للمساعدة، وسيارة الإسعاف مرت ساعتين على استدعائها دون أن تظهر، ولا يبدو أن لدى المسعفين أي رغبة في الحضور من الأساس، وعلى الضابطة الآن أن تترك سلاحها وتلعب مؤقتًا دور القابلة، مدفوعة بسببين أحدهما إنساني لإنقاذ تلك المسكينة، وثانيهما أمنى لأن هذه السيدة لو ماتت وجنينها، فستكون الضابطة في الأغلب هدفًا مثاليًا لانتقام الغاضبين من تجاهل أبسط حقوقهم كمواطنين.
ينتهي تتابع البداية العصيب وقد كوّنا تصورًا مبدئيا عن حياة الضابطة ماريا تريزا وعالمها المعقد، فندرك أن عليها وزملائها أن يؤدون واجبهم الشرطي بأقل الإمكانيات وسط محيط عنيف ومتحفز وقابل للاشتعال. قبل أن تبدأ ماريا الحديث عن ماضيها الشخصي والأسري لتُلقي المزيد من الضوء على السياق المجتمعي، عن والدها الشرطي السابق ورؤيته الذكورية التي كادت تمنعها من الالتحاق بنفس مهنته، ورفضه لاحقًا مزاملتها العمل لأسباب نظنها أيضًا ذكورية، فنكتشف أنها النقيض تمامًا: الرجل ببساطة لا يريد أن يلقى مصرعة أمام عيني ابنته.
ينتقل الفيلم للشخصية الرئيسية الثانية، الضابط مونتويا شريك ماريا تريزا في العمل والحياة، فهما حبيبان يصفهما زملائهما بعصافير الحب، الذي نرى معه هو الآخر أوجهًا إضافية لتعقد أوضاع العمل، انتشار الرشوة كنتيجة طبيعية للدخل المحدود والفساد المؤسسي الذي يجعل الضابط في حاجة لدفع رشوة هو الآخر كي يحصل على سترة واقية نظيفة وسلاح صالح لإطلاق النار.
أسرفنا قليلًا في الحديث عن تفاصيل الوضع الذي نتعرف عليه تباعًا حتى منتصف الفيلم من الشخصيتين الرئيسيتين، في سياق يبدو فيلمًا تسجيليًا معتادًا، صحيح أن بعض مناطقه محكمة التصوير والمونتاج بما يليق بفيلم روائي (نتسائل مثلًا كيف تم تصوير الموقف الافتتاحي العصيب بهذا التنوع البصري)، وأن بعض اللقطات خلقها المخرج بوضوح كلقطة لماريا تيريزا تتكلم مع الكاميرا من خلفية مقعد سيارة جرت فيها واقعة تتحدث عنها. لكن تبقى المشاهد المعاد تمثيلها reconstructed scenes اختيارًا ممكنًا لا سيما مع وجود مخرج كبير وجهة إنتاج ضخمة وراء العمل.
حتى تأتي نقطة المنتصف ويحدث الاكتشاف الذي يقلب الأمور رأسًا على عقب ويحوّل الفيلم من تسجيلي جيد الصنع لتجربة فنية وإنسانية مثيرة للتفكير والارتباك والجدل الإيجابي.
التجربة الفيلمية.. معايشة أم انضمام
(تنبيه: لا يمكن اعتبار ما يلي حرقًا لقصة الفيلم في ظل اختيار المخرج أن يتضمن ملخص الفيلم الرسمي المعلومة، لكن لو كنت ممن يفضلون ترك المفاجآت للمشاهدة، ففي الفقرات التالية كشفًا للانقلاب الرئيسي في الفيلم).
في منتصف الفيلم نجد نفسنا فجأة أمام الشخصيتين الحقيقيتين، ماريا تريزا ومونتويا المختلفين عمّن شاهدناهما خلال الساعة الأولى، لنكتشف أن أبطال النصف الأول هما الممثلان مونيكا ديل كارمن وراؤول بريونيس، اللذان قام المخرج بإخضاعهما لعملية معايشة انغماسية فريدة من نوعها، بأن قاما بالفعل بالتقدم والانضمام إلى أكاديمية الشرطة ودرسا فيها لقرابة الستة أشهر، مرا بكل البرامج التدريبية حتى صارا بالفعل شرطيين رسميين، بالتوازي مع دراستهما لشخصيتي الشرطيين الحقيقيين وماضي كل منهما لأداءه أمام الكاميرا.
الاكتشاف يثير التساؤل المنطقي حول جدوى التجربة، فلماذا لم يكتفي ألونسو رويزبالاثيوس بالشخصيات الحقيقية فيصنع فيلمًا تسجيليًا؟ أو يكتفي بالممثلين فيصنع فيلمًا روائيًا مأخوذ عن قصة حقيقية؟ خاصةً وأن الممثلين يتدربان كشرطيين ثم يخرجان ليلعبا شخصيات مختلفة. لتتضح الإجابة تباعًا، وندرك أن الفيلم المشغول بحياة الشرطي في المكسيك يبحث أكثر في الجذور، ويستكشف عملية التحوّل التي يمر بها شاب أو شابة ليتركا حياتهما الاعتيادية ويصيرا شرطيين.
مونيكا وراؤول ممثلان التحقا بأكاديمية الشرطة لأسباب فنية، لكننا نكتشف أن كل زملائهما تقريبًا يمرون بمرحلة مماثلة: التحقوا بالدراسة من أجل تحسين أوضاعهم أو حماية ذويهم أو لجاذبية زيّ الشرطة وسلطته، لكنهم في النهاية أشخاص عاديين لديهم شكوكهم ومخاوفهم ونقاط ضعفهم، يلتحقون بمكان يتلقون فيه بعض التدريبات التي يجب خلالها أن يتظاهروا بأكبر قدر من الصلابة والتحمل، ليتخرجوا خلال فترة لا تتجاوز الأشهر وقد سُمح لكل منهم بحمل سلاح مُرخص والتعامل مع مواقف عسيرة واتخاذ قرارات دقيقة كثيرًا ما تتعلق بحيوات الآخرين. عليهم أن يفعلوا هذا وسط سياق معقد وظروف سيئة وحالة من الشك المتبادل والفساد المتجذر الذي يجبر الجميع على الانصياع له.
كلنا ممثلون
هنا تتجلى قنبلة "فيلم شرطي" الفكرية، باستيعابنا أن عمل رجل الشرطة (المكسيكي على الأقل) ما هو إلا عملية تمثيل ممتدة، يفعل فيها كل شخص ما فعله أبطال ألونسو رويزبالاثيوس بالضبط: يضع حقيقته جانبًا مع دخوله من باب الأكاديمية، وينتحل شخصية أخرى بمنظومة قناعات مختلفة يضعها مع زيّه الرسمي ويغدو ملزمًا بها طيلة حياته، محاولًا التعايش مع ما ينتج عن ذلك من متاعب وهزات نفسية وأخلاقية نرى أمثلة لها في مناطق مختلفة من الفيلم.
يمنحنا هذا الاكتشاف لحظة استنارة استثنائية، تكمل عندها قطع البازل لنفهم قيمة العمل المعقد الذي خاصه المخرج الموهوب. عمل يجمع سمات الأنواع الفيلمية كلها، فهو روائي وتسجيلي وتجريبي معًا، ويغدو الشكل فيه – بكل ما يحمله من غرابة في اختيار التجربة وطريقة تحريكها ومعالجتها البصرية – هو نفسه المضمون؛ فالاستغناء عن أي عنصر أيًا كان (الشرطيان أو الممثلان أو المعايشة)، كان ليُنتج فيلمًا بالغ الاختلاف لا يكاد يجمعه بـ"فيلم شرطي" إلا أن كلاهما يدور حول الشرطة المكسيكية.
"فيلم شرطي" هو أحد تلك الأفلام النادرة التي نكتشفها كل عدة أعوام، فتحدث هزّة ترتبط بالوسيط السينمائي نفسه وكيفية تطويعه في الحكي والتعبير عن المشاعر والأفكار، ولعل فوزه بجائزة الإسهام الفني حافظ لمخرجه على العلامة الكاملة في النجاح مع جوائز برليناله، لكنه ظلمه في مسابقة ربما كان يستحق فيها تقديرًا أكبر، سيناله في الأغلب عندما تطلقه "نتفليكس" ليراه العالم قريبًا.
اقرأ أيضا:
يسرا تحتفل بعيد ميلادها مع أسرة "حرب أهلية" (صور)
مراد مكرم (3): وزني الزائد لا يضايقني ومتصالح مع شكلي وأصحابي نصحوني مغنيش (فيديو)
هالة سرحان عن متحرش المعادي: لو في إندونسيا كانوا جرسوه قبل ما يحبسوه
نجل عبد الرحمن أبو زهرة ينفي مخالطة والده لابنته بعد إصابتها بكورونا