هل من حق مُعلمة شاهد الطلبة فيديو حميمي لها على الأنترنت أن تواصل مهام عملها بشكل طبيعي؟
ما انطباعك إذا شاهدت فيلمًا فوجئت أن الدقائق الخمس الأولى منه عبارة عن مقطع جنسي يمكن مشاهدته على موقع إباحي؟
ما بين السؤالين الماضيين ترتكز القيمة الفكرية والفنية لأحدث أفلام المخرج الروماني رادو جود، أحد أفضل وأجرأ الأفلام المتنافسة حاليًا على الدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي الدولي الحادي والسبعين. الفيلم الذي اختار له جود عنوانًا طريفًا هو "جنس سيء الحظ أو بورنو جنوني Bad Luck Banging or Loony Porn". عنوان يكرس هو الآخر لما يقوم به الفيلم من الثانية الأولى وحتى الأخيرة: طرح أسئلة وأفكار ذكية بسخرية لاذعة وصادمة، ومواصلة التحليق بالسينما الرومانية لآفاق تتجاوز ركود الموجة الجديدة.
نرشح لك: سباق الدب الذهبي.. تعرف على أفلام مسابقة مهرجان برلين
تساؤلات أخلاقية
السؤال الأول يوضح الحكاية: معلمة التاريخ الناجحة إيمي (كاتيا باسكاريو) تصوّر مقطعًا جنسيًا مع زوجها. المقطع يجد طريقه إلى شبكة الإنترنت، فتجد نفسها في موضع الاتهام والتحقيق من قبل مديرة المدرسة وأولياء الأمور الغاضبين من تعامل أبنائهم مع سيدة "سيئة السمعة".
موقف درامي شائك، لكنه وارد الحدوث لأي إنسان في أي مكان، في ظل انتشار الهواتف الذكية وهوس تصوير الذات، مع الغياب الكامل للأمان السيبري الذي يجعل تسريب المقاطع الشخصية حدثًا يوميًا. مأزق يثير تساؤلات حول حدود حرية الفرد في ممارسة حياته الخاصة طالما لم يؤذ غيره، حول الضرر الذي يلحق بامرأة في هذا الموقف، هل هو في حد ذاته جريمة تستوجب عقابًا منفصلًا؟ (لاحظ أن البطلة مارست جنسًا مشروعًا مع زوجها، فالأزمة في التصوير والتسريب لا في الفعل ذاته)، وحول مسؤولية صناع المحتوى – أي محتوى – عن أثره في أطفال يفترض ألا يتعرضوا أساسًا لهذه المواد لو مارس ذويهم رقابة أسرية حقيقة على ما يزورونه على الشبكة العنكبوتية.
ربما كان عليها وزوجها أن يكونا أكثر حرصًا لا سيما وهما يعيشان في مجتمع محافظ يكاد يكون متطرفًا، لكن الخطأ لا ينفي كونها معلمة ممتازة ملمة بمجال تخصصها (التاريخ الروماني)، امرأة مثقفة مفوّهة قوية الشخصية وصاحبة منطق. فهل تخسر المؤسسة التعليمية مهاراتها بسب هفوة لا يلحق جوهرها أي ضرر بالآخرين؟ أم أن ما فعلته فعلًا أمر يصعب تجاوزه؟
إلا أن تناول "جنس سيء الحظ.." من زاوية مأزق إيمي والتساؤلات المثارة حوله سيكون إجحافًا لحق رادو جود من التقدير، فالمخرج الذي لا يتوقف – حرفيًا – عن العمل (في العام الماضي عرض له برلين فيلمين جديدين ليستغل عام الجائحة في صناعة ثالث) كان بإمكانه تقديم الحكاية نفسها على طريقة الموجة الرومانية الجديدة: إلتزام بالواقعية وجماليات متقشفة وإبراز لانسحاق الفرد أمام سطوة المؤسسة السياسية والاجتماعية والأخلاقية.
لكن الأسلوب الذي كان مدهشًا قبل عقدين مع الأفلام التأسيسية مثل "أربعة شهور ثلاثة أسابيع ويومان" كرستيان مونجيو و"12:08 شرق بوخارست" كورنيلو بورمبويو لم يعد يمتلك نفس الأثر، بعدما استُهلك بكافة تنويعاته وأفكاره فبات من النادر أن يُفرز عملًا استثنائيًا، ليأتي جود ممثلًا لجيل أحدث يحاول التحرر من النموذج والانطلاق لآفاق أرحب من الحرية الإبداعية.
ثلاثة فصول ثلاثة أساليب
الاختيارات الإبداعية تثير السؤال الثاني الذي بدأنا به المقال؛ فيقرر رادو جود أن يفتتح فيلمه بعرض المقطع الجنسي بتفاصيله. مقطع مدته خمس دقائق تقريبًا، لا يفوق قدر الإباحية فيها سوى قدر الواقعية؛ فعلى النقيض من الصورة الخيالية البراقة التي تقدمها البورنوغرافيا للجنس يأتي المقطع كأغلب الممارسات الجنسية الحقيقية: مرتبكًا مليئًا بالتصرفات والأقوال التي تحاول أن تحاكي الغواية فتصير مضحكة، والظروف المحيطة المعيقة لدرجة أن إيمي وخلال انخراطها فيما تفعل تضطر للتوقف كي تجيب على نداء أمها من وراء الباب!
المقطع بمثابة برولوج prologue افتتاحي، يعلن عدم التزام الفيلم بأي أكواد أخلاقية معتادة (99% من المخرجين سيميلون لعدم عرض الفيديو والاكتفاء بمعرفة محتواه على سبيل المثال)، ويُدشن مسرحية من ثلاثة فصول اختار المخرج الموهوب أن يكون لكل منها أسلوبًا كامل الاختلاف عما سواه.
يلتزم الفصل الأول بقواعد الموجة الرومانية الجديدة، فنرى النصف الأول من يوم إيمي التي تحاول التعامل مع الموقف، تشتري ورودًا لتزور مديرتها وتناقش معها ما حدث، وتواصل أنشطة حياتها اليومية فتعيد كتابًا استعارته وتتابع متطلبات منزلها.
في هذا الفصل نرى إيمي كأغلب بطلات الموجة الجديدة: ذرة لا تكاد ترى وسط المدينة الخانقة. آلامها مهما كبرت أقل من أن تتوقف لها الحياة ولو ثوان. مع تركيز كبير على قدر العنف والعدائية والنظام المنعدم في الشارع الروماني. المشاجرات تنشب في كل مكان لأتفه الأسباب، الألفاظ النابية تتناثر بين المارة وحولهم كتيارات الهواء، والشارع مستباح لدرجة أن يصفّ أحدهم سيارته قاطعًا خط عبور المشاة ويتركها مترجلًا في هدوء دون حتى أن يكترث لوجود كاميرا تصوّر ما يفعل.
صورة المدينة في الفصل الأول مسودة لمرافعة دفاعية عن إيمي، ففي حياة يومية يلفها العنف والتجاوز تبدو فعلتها أشبه بالمزحة. لكن من قال أن البشر يرون عيبًا في أنفسهم أو يقيمون وزنًا للمنطق؟
انطلاقًا من هذه الحقيقة يبدأ المخرج فصله الثاني بالغ الذكاء. تتوقف الحكاية مؤقتًا ليعرض لمدة 25 دقيقة قاموسًا مصورًا، يعيد فيه تعريف مفاهيم كبرى انطلاقًا من تناقض الصورة والوقائع التاريخية مع التعريفات النظرية. مثال؟ يُعرف الكنيسة الرومانية بالداعم الأساسي لكل الأنظمة الفاشية، الأطفال بالسجناء السياسيين لدى آبائهم، الاغتصاب بالفعل الذي يجد 55% من البشر تبريرًا له، والوطنية هي ما قالته سيدة رومانية طُردت من النمسا بعدما اعتدت على خادمتها الأفريقية فقالت أنها تفخر بالعودة لوطن يمتلك الإنسان فيه الحرية ليضرب من يريد!
نرشح لك: ستة أفلام عربية في مهرجان برلين.. تعرف على عرب برليناله 71
ما علاقة هذه المفاهيم بموضوع الفيلم؟ الحقيقة أنها وثيقة الصلة، فهي الحيلة الفكرية والإبداعية التي يخرج بها جود من حيز حكايته الضيق مهما وسع، ليجعل منها نموذجًا مصغرًا (ميكروكوزم) لقدر التناقض والنفاق الذي تعيشه البشرية، فتمارس أفسد الأفعال باليمين، وتعود باليسار لتحاكم بعض الأشخاص لأن هنّاتهم الصغيرة هزت العروش وأفسدت النشء.
محاكمة هزلية
المحاكمة هي عنوان الفصل الثالث الذي يسميه المخرج "سيت كوم"، وفيه يجتمع أولياء أمور الطلبة، مع مديرة المدرسة وممثل للكنيسة وآخر للجيش، كي يحققوا جماعيًا مع المعلمة الخاطئة، تحقيق كان من الضروري أن يُفتتح بأن تعرض أكثر الأمهات عصبية وتعصبًا مقطع الفيديو بالكامل على حاسبها اللوحي، لأنه "يجب على الجميع أن يعرفوا عما سنتناقش في هذا الاجتماع".
حوار مسرحي بامتياز، تتداخل فيه الأصوات والآراء لتمزج تهمة إيمي بالنظام التعليمي بتاريخ رومانيا ورموزها، عابرة على المؤامرات اليهودية وأخلاقيات تربية الأبناء وغيرها من الموضوعات التي يجد المخرج والمؤلف الموهوب لها مكانًا داخل الجدل العبثي المتصاعد، والذي صوّره باستخدام إضاءة وجماليات تنفي عنه واقعية الفصل الأول، وتقدم حقيقة ما يجري: مشهد هزلي لا يمكن أخذه على محمل الجد، لكنه للأسف يحدث كل يوم بشكل أو بآخر، فتؤثر حوارات ومنظومات قيم مشابهة على عقول ملايين الأطفال حول العالم في كل لحظة. بل أن المشاهد المصري سيلاحظ أن هذا الحوار يمكن أن يدور بحذافيره داخلة مدرسة مصرية، دون أن يحتاج لأكثر من تعديل كلمة هنا أو اسم هناك!
يظهر في هذا الفصل أيضًا عنصر جديد سيكون له مكانًا في جماليات السرد السينمائي في المستقبل القريب، وهو أقنعة الوجه التي يرتديها الجميع (فالأحداث تدور خلال جائحة كورونا). جود الذي استخدم الأقنعة في فصله الأول بواقعية تلائم السرد، يعود فيحولها هنا أداةً إضافية للسخرية، عبر اختيار دقيق لشكل القناع الذي يرتديه كل شخص في المشهد، فيغدو تفصيلة تضيف للشخصية ولمعنى الحدث.
يتطور النقاش فيصل لنقطة يقرر معها المخرج أن ينهي فيلمه بثلاث نهايات مختلفة، لكل منها دلالة ما، لا سيما النهاية الثالثة والأخيرة والتي تتوائم مع قدر الجرأة والجنون الذي يحكم الفيلم. ليختتم المخرج الموهوب بها أحد أفضل أفلام برليناله على الإطلاق. "جنس سيئ الحظ أو بورنو جنوني"، الفيلم البديع الذي يستحيل أن نراه على الشاشات العربية الرسمية، لكن سنأمل أن ينجح في برلين بقدرٍ يجعل وصوله للجميع عبر الإنترنت أمرًا بديهيًا، تمامًا مثل فيديو إيمي وزوجها.
اقرأ أيضا:
دخول مفاجئ... مي إبراهيم ترحب بـ أحمد حلمي في "لايف" على إنستجرام
زيزي مصطفى تحكي قصة غضبها من العندليب بسبب شرط جزائي وموقف محرج أثناء عملها مذيعة بالكويت (فيديو)
في أحدث ظهور بعد غياب 24 عاما... أحمد عقل الطفل "سقراط": بناتي لم يتعرفن علي في "العفاريت"
أحمد حلمي يقلد لغة "سغة لمون" لأحمد مكي