فكهاني الكلمة ...
تجارة والده في الفاكهة لم تكن بعيدة عن موهبته، فالولد المدلل لواحد من أكبر تجار الفاكهة بالشرقية حصل على تعليم عال وتخرج في كلية الحقوق، أشكال وألوان الفاكهة التي نشأ بينها انعكست على حسه المرهف وزادته جمالا وتنوعا، وشكلت مع نداءات وأغاني وأهازيج باعة الفاكهة معينا لا ينضب من الصور الشعرية.
ويكفي أن نقرأ مطلع أول أغنياته "فراشة" التي لحنها رياض السنباطي وغنتها حياة محمد لنعرف المزاج الشخصي والصور المسيطرة على هذا الفتي القادم من الأرياف: "فراشة حايرة بين الأزهار ... طايرة مع النسمة الهادية / بينها وبين النور أسرار.. تقولها للزهرة النادية / تبوس في وردة ... وتشم في وردة / وتضم وردة وتناجي وردة".
"شاعر الألف أغنية" عامية وفصحى
أول عمل مهما كان جميلا لا يكفي للحكم على المبدع، ودائما ما ينتظر النقاد التالي للتأكد من أن العمل الأول لم يكن صدفة، وبعد "الفراشة" أطلق مرسي سهما غنائيا لمع بقوة في الوسط عندما غنى له عبد العزيز محمود "يا مزوق يا ورد في عود"، لنطلق بعدها محلقا بكلماته على نغمات كبار الملحنين وحناجر كبار المطربين في عقدي الأربعينيات والخمسينيات، ليحتل مكانة متميزة بين شعراء هذه الفترة بأغنيات مثل: "يا اسمر يا جميل" لعبد العزيز محمود، و"عيد الميلاد" لشادية، و"عطشان يا اسمراني" لنجاة الصغيرة، و"يا عيني فين قلبي" لنجاح سلام، بالإضافة لأغاني فيلم "أيامنا الحلوة" لعبد الحليم حافظ، و"فات المعاد – وسيرة الحب" لأم كلثوم، و"اكدب عليك" لوردة ......
لم يتألق مرسي جميل عزيز في الأغنية العامية فقط، وقدم قصائد رائعة بالفصحى، هي: "ضنين الأمس" التي لحنها كمال الطويل وغناها كارم محمود عام 1952.
أما القصيدة الثانية فيكفي أن نقول إنها القصيدة الوحيدة التي غنتها فيروز لشاعر مصري، وهى قصيدة "سوف أحيا"، التي لحنها الأخوان رحباني، في شكل أقرب للموشحات، وأذيعت مساء الخميس الخامس من مايو 1955.
"بلدي أحببتك" التي غناها محمد فوزي، وعندما بحثت الإذاعة المصرية عن أغنية وطنية لإذاعتها بعد نكسة 1967 لم تجد سواها رغم العدد الكبير للأغاني والمغنيين الذين مزجوا مصر بعبد الناصر في أغانيهم الوطنية.
هل يمكن أن يكون هذا الشخص الذي تحدثنا عنه حرامي أغاني؟!
لم نستعرض ما سبق لرصد تاريخ مرسي جميل عزيز الفني، فالرجل استحق عن جدارة لقب شاعر الألف أغنية، ولو تتبعنا أعماله يلزمنا كتاب لا مقال، لكن كانت مقدمة لا مفر منها للانتقال للموضوع الرئيسي للمقال، هل يمكن لشاعر وقامة أدبية مثل مرسي جميل عزيز أن يكون سارقا؟
كيف وضعت أغنية "أنا شفت جمال" مرسي جميل عزيز في قفص الاتهام؟
استيقظ القراء على الطلقة الأولى في معركة مرسي جميل عزيز التي انطلقت من الصفحة الثانية عشرة بجريدة "أخبار اليوم" (في عددها الصادر السبت الموافق 28 أكتوبر 1961)، في شكل مقال بعنوان: "من هو قرصان الأغاني ... الذي سرق أجمل كلمات هذا الموسم؟!".
وتتلخص القصة كما جاءت في المقال: إن أحمد شفيق كامل كتب أغنية تحمل اسم "أنا شفت جمال" ونشر نصها عام 1958 بمجلتي "الإذاعة" و"المصانع الحربية"، ثم أعطاها لمحمد الموجي لتلحينها، ليغنيها عبد الحليم حافظ، ثم أخذ عبد الحليم الأغنية وأعطاها للموسيقار كمال الطويل لتلحينها، وبقيت في حوذة الأخير ثلاث سنوات، حتى جاء مرسي جميل عزيز وقدم للإذاعة أغنية باسم "أنا شفت جمال"، فأعطاها محمد حسن الشجاعي بصفته مستشار الإذاعة الغنائي لمحمد الموجي لتلحينها، فقال له الموجي: إن مطلع هذه الأغنية مأخوذ من أغنية أخرى لأحمد شفيق كامل".
لغم الكاتب الصحفي والسيناريست وكاتب الأغاني جليل البنداري مقاله بالعديد من الأسئلة التي منها: هل صحيح أن مؤلف الأغاني مرسي جميل عزيز قد استولى بطريق القرصنة على مطلع أغنية "أنا شفت جمال" من زميله الشاعر أحمد شفيق كامل؟ وما حكم القانون الذي صدر لحماية المؤلفين والملحنين وأصحاب الأفكار من قراصنة الأدب ولصوص الأفكار؟ وما رأي جمعية المؤلفين والملحنين إذا رأت واحدًا من بين أعضائها ينهب أفكار الآخر؟ ولماذا وقفت الجمعية مكتوفة الأيدي أمام هذه الواقعة بالذات؟ وكانت الملاحظة اللافته أنه ألقى الاتهام دون أن ينشر مطلع الاغنيتين ليتيح للناس الحكم بأنفسهم.
وختم مقاله بسؤال الشاعر مأمون الشناوي عن رأيه في هذه الواقعة، وكان رأي مأمون: "كان ينبغي على الموجي أن ينبه مرسي جميل إلى أن مطلع هذه الأغنية سبق أن قاله أحمد شفيق كامل، وأنا في حكمي هذا لا أعفي الموجي ومرسي من التواطؤ معا".
هل سكت مرسي جميل عزيز على هذا الاتهام؟
لا أحد يتخيل أن يهاجم شاعر كبير يدندن أغانيه الناطقون بالعربية من المحيط للخليج بهذا الشكل ويقف صامتا، فسرعان ما شحن مرسي ذخيرته وأطلق مدفعيته الثقيلة ردا على الاتهام في نفس الجريدة (بتاريخ 11 نوفمبر 1961)، بمقال ناري حمل عنوان (أغاني الشعراء ... وأغاني "صبيان العوالم")، ننشر جزءا منه: "جليل البنداري ... مأمون الشناوي ... أحمد شفيق كامل.. محمد الموجي، ثلاثة من مؤلفي الأغاني ورابعهم ملحن، اجتمعوا لا لعمل أوبريت أو أغنية للمسرح أو السينما أو الراديو أو التليفزيون أو حتى الأراجوز، لا ... اجتمعوا للقضاء على مرسي جميل أو ظنوا أنهم يستطيعون ذلك".
كما نرى ... فتح مرسي النار على 4 من كبار الأسماء في التأليف والتلحين فيما يشبه الحرب العالمية التي يحارب فيها بمفرده أمام جيوش أربع دول، فسخر من اتهام جليل البنداري مؤكدا أن التعبير "أنا شفت جمال" تعبير تلقائي دارج على لسان أي شخص يلتقي بجمال عبد الناصر، ثم التفت لمهاجمة مأمون الشناوي والطعن في موهبته قائلات: أتحداه أن يقف أمام أي لجنة نقدية تمتحنه في أبسط قواعد الكتابة، واتهمه بسرقة مطلع أغنيتيه "القلب ولا العين" لسعاد محمد، و"شفت منام" لليلى مراد وذكر له الأغاني التي سرق منها، قائلا: واخد بالك يا مأمون؟!
وبحنكة وبراعة محامي يكتب مذكرة دفاع، بعدما رد الصاع صاعين للبنداري ومأمون، طالب النقاد والكتاب بالإدلاء بآرائهم في القضية والحكم فيها، قائلا: أرجو أن نسمع كلمتهم التي تضع الحدود الفاصلة بين أدب الشاعر وأدب صبيان العوالم".
مطلع أغنية أحمد شفيق كامل يقول: "قولوا للأجيال ... أنا شفت جمال / أنا عشت معاه ... في زمن الحرية/ على أرض النور ... أرض الأحرار والحرية / وفي وطني أنا ... وطن القومية العربية / بكرة ... بكرة".
مطلع أغنية مرسي جميل عزيز يقول: "أنا شفت جمال والنبي يامّه ... أنا شفت جمال / الدنيا احلّوت قوي لما ... أنا شفت جمال / أنا في البلكونة البحرية ... ويا الأفراح مستنية / الموكب هلّ على شارعنا ... مع أجمل نسمة عصريّة / وف قلب الموكب واللمة ... أنا شفت جمال".
مأمون الشناوي يرد: مرسي يتعامل بمنطق تاجر البطيخ
أسبوع واحد فقط وجاء رد الشاعر مأمون الشناوي على صفحات نفس الجريدة (بتاريخ 18 نوفمبر 1961)، نشر رد مأمون مقالا عنونه: "مرسي جميل عزيز إشاعة كاذبة في جو الأغنية – منطق البطيخ ... ومنطق الفن والأدب» قال فيه: "قلت كلمة الحق ... وهى أن مرسي جميل قطع رأس الأغنية الضخمة التي صور فيها المؤلف أحمد شفيق كامل أمجاد ثورتنا وكفاح بطلنا، ثم وضع مرسي لهذا الرأس جسمًا هزيلاً نحيلاً أعجف ينم عن هيئة مؤلفه".
ثم راح الشناوي يعرض بتجارة مرسي ووالده في الفاكهة، ووصف منطق مرسي بمنطق البطيخ، مشيرا إلى أنه يتعامل مع المجال الأدبي بمنطق شادر البطيخ، يخلط فيه الحلو بالمالح، والسليم بالمكسور، والطيب بالأقرع.
وإمعانا في مضايقة مرسي جميل أكد مأمون على رأيه السابق أكد أن مرسي سرق الأغنية قائلا حتى لو أغنية أحمد شفيق كامل مكسورة الوزن مهلهلة فهذا لا يبرئ مرسي من لطش رأسها وضمه إلى ممتلكاته الخاصة، ويكفي أن أغنية أحمد شفيق كامل شعر يمكن ترجمته لأي لغة، لكن كيف يمكن ترجمة (والنبي يامّه)؟
"أغاني ألفها غيره واشتهرت باسمه" ... جليل البنداري يواصل قذائفه
كان نفس العدد السابق من أخبار اليوم الذي نشر فيه مأمون الشناوي يحمل قذيفة أخرى موجه ضد مرسي جميل عزيز بتوقيع جليل البنداري تحمل عنوان: "حبك نار .. بتلوموني ليه ... يامه القمر عالباب ... الأغاني التي ألفها غيره ... واشتهرت باسمه".
واتهمه في هذا المقال بسرقة مجموعة من أشهر أغانيه وأنجحها، وقدم قائمة أولى ضمت أغنيات: "يامه القمر عالباب – حبك نار – في يوم في شهر في سنة – بتلوموني ليه – يا أسمر يا جميل – أنا شفت جمال".
وأكد جليل في مقاله أن محمد الموجي أخبره أن علاقته بمرسي جميل عزيز كانت تسمح له بالاطلاع على الأغاني التي يرسلها اليه الشعراء لتلحينها والموجودة بدرج مكتبه، واستشهد جليل بكتاب صدر عام 1922 يضم مجموعة من أغاني الست توحيدة المغنية المشهورة، وأخذ يورد الأغنية الأصلية والمنقولة منها على النجو التالي:
ياما القمر ع الباب
النسخة التي غنتها توحيدة يقول مطلعها: (يابا القمر ع الباب – نور قناديله / أرد يابا الباب – ولا أناديله).
واستطرد: جاء سارق المفاتيح ونشال الأفكار من أدراج المكتب وأجرى تعديلا بسيطا وقدمها على هذا النحو: (يامه القمر ع الباب – نور قناديله / يامه أرد الباب – ولا أناديله).
"حبك نار"
التي غناها عبد الحليم حافظ من تأليف مرسي جميل عزيز يقول مطلعها: "حبك نار قربك نار – بعدك نار / وأكتر من نار / نار يا حبيبي نار)
قدمت هذه الأغنية مونولوجيست اسمها "سميرة عبده" قبل عبد الحليم بـ17 عاما وكان يقول مطلعها: (حبك نار – قلبك نار – طبعك نار / خليت عيشتي مرار في مرار / نار نار نار)
بتلوموني ليه
التي غناها عبد الحليم حافظ مسروقة ومسجلة في يوم 19 يناير 1960 مسروقة من أغنية "رجاء عبده" التي يقول مطلعها: (بتلوموني ليه / روحوا لوموه هو) وسجلها صاحبها الشاعر سعد عبد الرحيم بتاريخ 6 يونيو 1958.
(انت وبس اللي حبيبي)! انت وبس اللي حرامي!
واصل جليل البنداري حملته بمقال آخر في "أخبار اليوم" أيضا يوم 25 نوفمبر 1961، بعنوان "وسرق (انت وبس اللي حبيبي)! انت وبس اللي حرامي!" واستكمل فيه قائمة الأغاني التي يتهم مرسي جميل عزيز بسرقتها، حتى وصلت القائمة إلى 12 أغنية ومن هذه الأغاني:
شفت بعيني
أغنية "شفت بعيني" التي كتبها مرسي جميل عزيز لمحرم فؤاد مسروقة من أغنية الشاعر حنفي فراج التي يقول في مطلعها: "شفت بعيني وقلبي قاللي"
عطشان يا اسمراني
أغنية "عطشان يا اسمراني محبة" التي غنتها نجاة الصغيرة مسروقة من أغنية المطربة السودانية عائشة الفلاتية التي كتبها الشاعر حنفي فراج ويقول مطلعها: يا حبيبي يا اسمراني محبة".
وأضاف إلى قائمة الاتهام أغنيات أخري منها: "انت وبس اللي حبيبي"، و"وقفوا الخطاب"، وأبو رمش بيجرح ويداوي"، و"في العين دي والعين دي".
500 جنيه لإقامة محاكمة علنية... وحكم تاريخي
فور نشر مقال جليل البنداري الذي عدد فيه الأغاني التي يراها مسروقة، أرسل مرسي جميل عزيز شيكا بمبلغ 500 جنيه (لاحظ ضخامة الملبغ وقتها) وطلب من "أخبار اليوم" أن تعقد محاكمة علنية، وترسل قائمة الاتهامات مجموعة من كبار النقاد والأدباء، لأخذ رأيهم في اتهامات جليل البنداري، والحكم في وصفه بالسارق.
وبالفعل استضافت الصفحة السادسة من جريدة، "أخبار اليوم" عدد 9 ديسمبر 1961، المحاكمة، وضمت قائمة القضاة قامات نقدية وأدبية رفيعة هم: د. علي الراعي – د. لويس عوض – د. عبد القادر القط – د. محمد مندور – الشاعر صلاح عبد الصبور.
وكانت أول أغنية تخضع للمحاكمة أغنية "انت وبس اللي حبيبي".
وبعد استعراض كلمات أغنية أحمد شفيق كامل التي يقول فيها: "إنت وبس .. روحي وقلبي / عمري وأملي .. وكل نصيبي / إنت وبس.. إنت وبس اللي حبيبي ".
بينما يقول مرسي جميل عزيز في أغنيته: "أنا إليك ميّال.. ومفيش غيرك ع البال / إنت وبس اللي حبيبي.. مهما يقولوا العزَّال".
وقال الدكتور محمد مندور عن هذا التشابه: "إن الأغنيتين مختلفتان تمام الاختلاف، وإن كان الطابع الشعبي والنغم الشعبي واضحين فيهما معا، لذلك لا مجال هنا للاتهام بأي سرقة، فالأعنيتان مختلفتان".
وأضاف صلاح عبد الصبور: "لا مجال للمقارنة بين الأغنيتين، لأن مفتاح أغنية مرسي جميل هو (أنا قلبي إليك ميّال) وليس (إنت وبس اللي حبيبي)، وهكذا تم الإجماع من هيئة المحكمة على أن الاتهام بسرقة الأغنية غير صحيح.
واصلت هيئة المحكمة دراسة كل أغنية بمفردها وتمت تبرءة الشاعر مرسي جميل عزيز من تهمة السرقة وأصدرت المحكمة جكمها التالي: "أولا: يميل الرأي العام للنقاد إلى تبرئة (مرسي جميل عزيز) في عشر أغنيات، وهناك رأي آخر يميل إلى اتهامه بالاقتباس في أغنيتين هما (يابو رمش بيجرح)، و(يامّه القمر ع الباب)، ثانيا: يجمع النقاد تقريبًا على أن موهبة (مرسي جميل عزيز) لا شك فيها، وحتى الذين يسلمون من النقاد بأن مرسي جميل قد استعار شيئًا من الآخرين، هناك شبه إجماع على أن مرسي يتفوق على الذين أخذ منهم تفوقًا كبيرًا وملحوظًا محدود، ثالثا: قاموس الأغاني عندنا محدود، والكل يأخذ من التراث الشعبي، وهذا سبب كبير من أسباب التشابه والالتقاء بين المؤلفين".