ضمن فاعليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الثانية والأربعين عُرِض فيلم "الأب" في تجربة الإخراج الأولى للكاتب الروائي والمسرحي الفرنسي "فلوريان زيلر"، والذي يعد من ألمع المسرحيين الفرنسيين والفائز في عام 2014 بجائزة Molière لأفضل مسرحية. تم عرض مسرحية (الأب) لأول مرة في سبتمبر 2012 في مسرح هيبرتوت، باريس، ببطولة "روبرت هيرش"و "إيزابيل جيليناس"، واعتبرت وقتها المسرحية الجديدة الأكثر شهرة، وحصلت على العديد من الجوائز والترشيحات في باريس ولندن ونيويورك.
كل ذلك قبل أن يكتب لها السيناريو الكاتب والمخرج الحاصل على الأوسكار "كريستوفر هامتون" ذو الباع الطويل في كتابة الأفلام المأخوذة عن نصوص أدبية، وفي هذه المرة يقوم بكتابة فيلم مأخوذ عن مسرحية "فلوريان زيلر". ولا يتوقف نادي الحاصلين على الأوسكار والمشاركين في فيلم الأب عند "هامبتون"؛ بل يمتد ليشمل بطلا العمل: السير "أنتوني هوبكنز"، و"أوليفيا كوفمان".عمل كهذا لابد أن يُعلي من توقعات مشاهديه.
فأر في متاهة
عمد السيناريو لتبني وجهة النظر الذاتية حتى لو كانت مشوشة، نحن بإزاء عالم من خلال عين ووعي رجل مُسن يعاني ضلالات خرف الشيخوخة وتقادم الذاكرة، بل تشوشها وتشويهها للدرجة التي ستجعله يسأل بكل جسارة: من أنا؟ أو يرثي لنفسه قائلا: "أشعر أن أوراقي تتساقط". في بلاغة حزينة. يأخذنا العجوز ذو الحِس الساخر في يومياته: كيف يقضي نهاره بالمنزل وكيف تحاول ابنته اقناعه بقبول ممرضة تقوم على احتياجاته، كيف يواجه تذمّر زوج ابنته من تواجده بالمنزل. وهل هو منزله أم منزل ابنته التي استضافته، وهل هو زوجها أم شريكها الجديد. ولماذا تتبدل ابنته لتصير امرأة أخرى وبزوج آخر، ولماذا يصرون على القول أن هذه المرأة الجادة هي الممرضة الشابة اللطيفة التي زارته بالأمس، وإن كانت كذلك؛ ألم تكن لورا شقراء عشرينية تذكِّره بابنته الصغرى؟ بل لماذا يعود من المطبخ ليسمع نفس الحوار ونفس الجدال على طاولة الطعام حين يحاول زوج الابنة اقناعها بضرورة ادخال الأب مصحة للمسنين يلقى فيها الرعاية.
لماذا يقوم بضربه زوج الابنة وشريكها كل منهما متذمرين من وجوده، ولماذا نرى ابنته ذاتها وقد تغيرت لتصير امرأة يدعون أنها ممرضته. لنتشارك معه كل هذه التداخلات حين نرى نفس المواقف ونفس الأحداث يقوم بها أشخاص مختلفون، فمرة تكون ابنته وأخرى نراها الممرضة، والزوج يتغير مع نفس الابنة حين يتكرر نفس الموقف بنفس تفاصيله. في تيه في الأفكار ومحاولة لم شتات الأحداث حتى نشعر كمشاهدين بثِقل أن تشرق الشمس على هذا الرجل العجوز، ونحس أن مجرد استيقاظه ليواجه العالم قد أصبح ورطة كبيرة. -له في حياته ولنا كمشاهدين متابعين لشريط الفيلم- كل ذلك وهو يحاول أن يبتلع دهشته بإزاء هذه التغييرات المفاجئة، ولا يريد أن يُصرح بتشوشه وارتباكه أمامهم؟ ويسأل على استحياء من يكون الشخص الذي يحادثه كوحيد يتلمس طريقه في الظلمة.
مطاردات الذاكرة
جملة من الشواهد تثير حيرة وارتباك الأب، فمن الشقة التي تطرأ عليها التغييرات إلى اللوحات التي تُزال من موضعها ويبقى أثرها على الحائط، حتى الأثاث الذي يتغير شكله دون موضعه، وساعاته التي يخبأها في حمامه، ومعصمه الذي يتحسسه دائما كباحث عن الوقت، ومواجهته لزمن مراوغ لا يستطيع الإمساك به، انتهاءا بالمواقف التي لا تنفك أن تتكرر في سرد لولبي ومستمر لا فكاك منه أقرب للسرمدة. لنسأل أنفسنا بالنهاية هل كان الحزن والفقد المتوالي من رحيل زوجته وموت ابنته الصغرى في حادثة هما ما جعلاه يضيق ذرعا بذاكرته ويهرب من ذكرياته، أم أنها سنة الحياة من ذبول في النهايات؟ وهل هذا هو السبب في تبدُّل مزاجه من رجل مضياف شديد الإنبساطية يقوم بالرقص النقري لضيفته الشابة، إلى رجل عكر المزاج يصيح في ابنته أنها شقته وليست شقتها كما تدّعي ويحذرها أن أحدا لن يُخرجه منها. كل ذلك وابنته تحاول احتوائه وتبتلع تطاير ذكرياته وتربِّت على ظهره مطمئنةً ومخاطبة إياه: (أبي الصغير أو Little Daddy) كما كانت تناديه وهي طفلة.
لا يلق فيلم الأب الضوء على مريض الألزهايمر فقط، بل على معاناة مرافقه. صبره ومحاولات احتوائه، يأسه وقنوطه من دائرة التيه هذه لدرجة تمني الموت للأب. وفي السيناريو يلعب كل من "زيلر" و "هامتون" بهذه الجزئية مع المشاهد؛ حين يجسدان محاولة قتل الابنة لأبيها أثناء نومه بعد أن تطمئن عليه في سريره وتمطره محبةً لنكتشف لاحقا أنها لم تقتله، وأنه كان كابوسا لدى الأب، بخلاف استثمارهما لهذا المشهد حيث يستخدماه في اعادته على الشاشة مرة أخرى وبتحريف فيه كما اعتادا في لعبتهما مع المشاهد.
ما يجعله فيلما فارقا ومميزا -أخشى أن أقول عظيما- ليس أداء هوبكنز المحنك ولا سيناريو هامبتون ولا قصة زيلر فقط.. كلها طرق ومسارات للوصول إلى حالة استثنائية في تلقي الفيلم في الوسيط السينمائي الذي يعتمد بالأساس على إذكاء العواطف وتنشيط الوجدان في المقام الأول، واستخدامه المشاركة العقلية تاليا، إذ يعمد "زيلر" لتنشيط التلقي لدى المشاهد وجعله متورطا في لعبة عقلية بطول دقائق الفيلم على خلاف المعهود سينمائيا. ومع ذلك لا يفقد الفيلم قوة أثره العاطفي رغم ذهنيته الشديدة. حيث نجح "زيلر" في الجمع بين التوحد العاطفي والتورط الوجداني التامين مع الشخصية من جهة وبين اجباره للمشاهد على التلقي النشط والمتابعة العقلية للعبة السردية من الجانب الآخر.
فيلم يكتشف ممكنات جديدة للفن السينمائي ويكسر ما تم الاستقرار عليه منذ نشأته.
عُرض الفيلم بمهرجانات صاندانس، تورونتو، سان سيباستيان والذي نال فيه جائزة الجمهور، ويجيء عرضه الأول في الشرق الأوسط في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 42.