من النادر – إن لم يكن من المستحيل - أن يتحول كاتب محترم إلى "تريند" على السوشيال ميديا، دون أن يكون ذلك مرتبطًا بفضيحة جنسية، أو تسريبات، أو قضية فساد ضخمة، وغيرها من أشكال الفضائح (التي يأكل منها صناع التريند عيش)، لكن وحيد حامد فعلها (في زمن المسخ)، ونال في ليلةٍ واحدة تكريم الدولة، وأهل الفن، ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، على مشوار طويل، امتد إلى 50 سنة، قدم خلالها أفلامًا ليس لها مثيل في تاريخ السينما المصرية والعربية، حتى أن جائزة الهرم الذهبي التقديرية التي مُنحت له في حفل افتتاح الدورة الـ 42 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، هي التي تشرفت بأن يتسلَّمها، وأضافت للمهرجان قيمة ورونق، في ليلة مقمرة نادرة التكرار، وسط ألف ليلة وليلة من الليالي الغابرة، التي تصدرها المسوخ، والمرضى النفسيون، والمهرجون.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فلا يمكن ذكر اسم وحيد حامد، دون ذكر أعماله الفريدة، التي استعرضتها شاشة المهرجان لحظات التكريم، عبر ذلك الفيديو القصير، الذي حاول أن يُلخّص مشوار الرجل الحافل بالتحف السينمائية الخالدة، فعرض الفيديو ضمن ما عرض لقطات سريعة من أفلام "معالي الوزير"، "البريء"، "اللعب مع الكبار"، "الإرهاب والكباب"، "الراقصة والسياسي"، مما جعلني أسأل (سؤالًا بريئا): هل يمكن انتاج مثل هذه الأفلام الآن؟! وإذا كانت الإجابة <<لا>>، فعلى أي أساس يتم تكريم مؤلفها؟! وإذا كانت الإجابة <<نعم>>، فلماذا لا نشاهد أفلامًا شبيهة؟!
أحالتني شيزوفرينيا الموقف وكوميديته السوداء، إلى حوار صحفي سابق أجراه (الأستاذ)، على موقع جريدة "الأهالي" مع الزميلة نسمة تليمة، نُشر بتاريخ 19 ديسمبر- 2019، وفتح فيه الرجل قلبه حول أحوال الوضع الراهن، فقال ضمن ما قال:"انتهيت منذ فترة من كتابة فيلمين، لكن هذه الأيام الأفلام تذهب إلى الرقابة ولا تعود، وهذا ليس معي فقط، مع كل الناس، هاسكت، هاعمل إيه يعني؟"!
هل ابتسمت الآن مثلي رغم مساحة الضيق والألم في قلبك وعلى ملامحك؟! خذّ عندك – بالمرة – هذين السؤالين بإجابتهما – كما هما – من متن الحوار، وحاول أن تمسك أعصابك:
ما هي وظيفة الكاتب فى رأيك أن يرصد الواقع أم يتأمله أم يتنبأ بما يأت به؟
الثلاث أشياء مرتبطة ببعضها البعض، لكن لا شيء يسمي تنبؤ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، لكنها قراءة لحال المجتمع، وأحوال الناس، أشبه بمعادلات الكيمياء، إذا وضعنا مكونًا على مكون ينتج مكون جديد، وهو ما يفعله الكاتب، بناء على قراءات عدة للمشهد، على سبيل المثال فيلم” طيور الظلام” حين كتبته في التسعينيات، الناس قالت تنبأ بشكل الصراع، حين أشرت لوجود ثلاث قوى هي، الثوري والانتهازي والتيار الديني، والصراع انتهي بين التيار الديني والتيار الانتهازي، كانت حسبة بينما الثوري توارى أمام مثالياته ورومانسيته.
أحد المشاهد المهمة فى أعمالك خلال فيلم ” النوم فى العسل” جاءت متطابقة بعد سنوات كثيرة مع مشهد حي في الشارع حين هتف البطل مع المجاميع” آه” كيف كانت كواليس كتابة هذا المشهد؟
المشهد كان مكتوبا بالأساس داخل ميدان التحرير، لكن حصلت وقتها ظروف إنتاجية جعلت شريف عرفة يبحث عن مكان أخر يعطى نفس المضمون والهدف من المشهد، وقتها السينما لم تكن آلياتها تطورت بنفس الشكل الحالي، وكان من الصعب أن نملأ ميدان التحرير بالناس أو المجاميع، لكن التصوير فى مجلس الشعب كان أسهل للتحكم في المجاميع وقد كان.
عندي حق أن أقول إذًا، أن النصيب الأكبر في مجد وحيد حامد السينمائي، يرجع لأفلامه السياسية التي وضعته في مكانة مختلفة وفارقة عن باقي الكُتَّاب. جرب أن تحذف من أعماله "البريء"، "ملف في الآداب"، "كشف المستور"، "الراقصة والسياسي"، "اللعب مع الكبار"، "الإرهاب والكباب"، "طيور الظلام"، "النوم في العسل"، "معالي الوزير"، "عمارة يعقوبيان"، وغيرها من الأفلام العبقرية التي رفعت رايات العصيان والاعتراض، تعبيرًا عن وجيعة الوطن والمواطنين مما فعلته بهم الحكومات والأنظمة، وستجد أن إرث الأستاذ العظيم ومصدر ثقله قد تراجع بشكل حاد، كجواهرجي مخضرم لديه محل يعرض الذهب والماس، ثم صارت بضاعته مجرد مشغولات فضية!
صحيح أن أعمال الأستاذ الأخرى مثل "الإنسان يعيش مرة واحدة"، و"آخر الرجال المحترمين"، و"الدنيا على جناح يمامة"، و"أضحك الصورة تطلع حلوة"، وغيرهم كانت وستظل أعمالًا رائعة، ذات قيمة فنية واجتماعية عالية، لكن يبقى المجد الحقيقي والأهم، لكاتب سينمائي فذّ، انحاز للعدالة والحق والشعب على مدار تاريخه، ولم يخدع بقلمه الناس يومًا، فقال كلمته السياسية في أفلامه بشكل ذكي وعميق رغم بساطته، على طريقة كبير الحارة الذي يهديك الخلاصة بحكمة، أو مثل شعبي، أو حتى بعبارة صمت في كادر بصري يغني عن ألف كلمة، لذا يثق به الجميع ويحترمونه، أكثر مما يكترثون لخطابات رجال السياسة المليئة بلغة المصالح المتلونة، فضلًا عن كونها نخبوية محدودة التأثير، فأخذت أعماله مواقف نزيهة ومشرفة ضد السلطة والحكومات، في وقت كان غيره لا يعتبر السينما والفن سوى وسيلة للتسلية والترفيه وجني الإيرادات، لكن مع الزمن تحولت هذه الأعمال لأيقونات فنية خالدة، وأرشيف سياسي تاريخي، بجانب كونها أرشيف سينمائي.
المضحك (والمبكي أيضًا)، أن سقف الحريات والتعبير الذي كنا نظنه منخفضًا في عز أمجاد وحيد حامد، كان في علياء السماء السابعة، إذا ما نظرنا لسقف اليوم الذي يكاد يسحق الرؤوس!
ومعادلة صناعة السينما في هذه الأيام أصبحت بكل أسف: طفرة في الأفلام الضخمة التي تُنتج بميزانيات مهولة + تطور رائع في تقنيات وفنيات السينما (تصوير، ديكور، خدع، جرافيك) وكل ما هو متعلق بجماليات الصورة، مع استبعاد كل ما يحمل صوت الضمير، الفكر، رؤية المبدع المغايرة لأهواء الأنظمة، ومنع علامات الاستفهام في حد ذاتها، رغم أن السؤال هو الإنسان، لتساوي النتيجة في النهاية إيرادات ضخمة بأرقام غير مسبوقة، وانتعاشة في الكم والشكل، لكن كل هذه الخلطة بلا مضمون مغاير للموجة السائدة، بشكل قد يؤثر يومًا في وعي الجماهير، أو يترك علامة سينمائية لأبناء الغد تخبرهم كيف عاش من قبلهم في تلك الحقبة.
أطال الله عمر (الأستاذ)، (الأسطى الكبير)، (صوت الضمير)، ومتعنا بالمزيد والمزيد من أعماله التي نتنمى أن تخرج من الرقابة كما هي، بنقائها، وصراحتها، دون أن يكتمها صوت الرقيب، أو يفض عذريتها بمقصه الغاشم والغشيم، أو يبتلعها النسيان!