وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق
أحمد شوقي
ثلاثة أفلام من أصل ستة عشر تحمل الجنسيات العربية في مسابقة مهرجان الجونة خلال دورته الرابعة هذا العام هي الرجل الذي باع ظهره للتونسية كوثر بن هنية و200 متر للفلسطيني أمين نايفة وميكا للمغربي أسماعيل فروخي، وفيلم واحد من بطولة عربية – الأسترالي حارس الذهب للمصري أحمد مالك- ليصبح مجمل المشاركات العربية في دورة عام الكورونا اربعة مشاركات.
تحمل هذذ المشااكات في ظاهرها أختلاف نوعي يترواح ما بين الفيلم السياسي والأجتماعي والأثارة لكن في باطنها وعبر سياقاتها البصرية والدرامية تلح في طرح سؤال واحد يبدو أنه يشغل بال صناعها: سؤال الحرية؟
في فيلم الأفتتاح التونسي يختار الفنان الأوربي العالمي ظهر شاب سوري ليصبح لوحة متجولة ساخرا من النظام الدولي الذي يعيق حركته كأنسان ولا يمنحه سوى صفة لاجئ لأن ارضه تشتعل بحرب اهلية، فيمنح الفنان هذا الشاب ختما بتأشيرة على ظهره كي يتمكن من الهروب مبشرا في مستى من مستويات الفيلم بأن الفن قادر على تحرير البشر إينما كانوا ومن حيثما أتوا!
ولكن ليس الأمر كله بيد الفن فقط في العالم وإلا اصبح بروفة مصغرة للجنة، فتحول سام إلى لوحة حية لها الحق في السفر لا يعني أنه أصبح حرا! ففي مقابل الفنان هناك ثريا – التي لعبت دورها مونيكا بيلوتشي في أكثر أداء بارد قدمته عبر مشوارها- التي تشرف على عملية تحويل سام/اللوحة إلى شئ ثمين وحيوان أليف لدى المعارض ومتاحف الفن العالمي.
في مشهد التقاط الصور الأولى لظهر سام بعد الرسم من قبل مصور عالمي، يرفض المصور منح سام صورة واحدة بوجهه من اجل ان يرسلها لأمه! في حين أنه ينوي ان يمسح كل ما يزيد عن حاجته! إنها إشارة ذكية لنوع العبودية الذي بدأ سام يعيش اسفل صليبها، ففي نظام يتعامل عل اعتبار أن كل شئ مدفوع الأجر هو حق مطلق لصاحبه فلا مجال إذن لأي اعتبارات إنسانية، وتؤكد ثريا على ذلك حين تصوره بهاتفها لكي يرسل الصورة لأمه ولكنها تصوره أيضا بظهره!
وفي المشهد التالي نرى الفنان وهو يتحدث عن تجربته للرسم على ظهر سام من خلال كادرين متداخلين الأول هو الكادر الصغير للكاميرا التي توثق التجربة والثاني هو عين الكاميرا التي تسرد الفيلم، هذا المشهد الطويل الثابت يحاول التأكيد على أن لدينا عالمين وحقيقتين وهدفين وأن حكاية سام لا يمكن النظر إليها من زاوية واحدة لأن الفن يقول شيئا ما والنظام يقول شيئا أخر.
ينتقل الفيلم بعد ذلك إلى طرح السؤال الأساسي الذي يتماس مع قضيته:
فهل يمكن أن تُشترى الحرية حين يتحول طالبها إلى شئ؟
يتحول سام إلى مكان في المعرض لا يمكنه التحدث مع مشاهديه لأنه لوحة واللوحة تُشاهد ولا تتحدث مع مشاهديها! ولا تلتقط معهم الصور ولكن هم من لديهم الحق أن يلتقطوا الصور معها!
تقدم المخرجة سياق بصري يعكس حالة التمزق بين الشعور بالحرية والشيئية، تستخدم المرايا والزجاج العاكس لخلق صوت السرد لدواخل الشخصيات الرئيسية سام وحبيبته عبير، ففي مشهد اتهام الأم لأبنها عبر الأسكايب بأنه باع مؤخرته وليس ظهره – مع الأخذ في الاعتبار الجناس العضوي في المخلية الشرقية العربية بين الظهر والمؤخرة- نرى سام من خلف زجاج الأوتيل الفاخر مشتتا كأنه أكثر من شخص يخرج من اطياف مشوهة او مموهة تعكس اضطرابه الداخلي في هذه اللحظة وتمهد لكل الأفعال المتمردة التي سوف ينهض بها مقاوما عبوديته بأتجاه نيل الحرية التي ارادها ولم يكن يدري ماهيتها.
تختار المخرجة مكان جلوس سام للعرض فيما يشبه واحدة من أقبية قلاع القرون الوسطى، حيث كانت العبودية لا تزال جزء من التكوين الأجتماعي والذهني وهو ما يختصر اسئلة تاريخية وزمنية كثيرة حول ماهية الحرية في عصرنا الحالي في نظر العالم الغربي الحديث والمتطور!
وتستلهم المخرجة من عوالم اللوحات تلك التكوينات التي تحدها دوما أطر خانقة خاصة مع شخصية عبير حين يتكرر ظهورها داخل اطار المرآة أو في اللوحة التفاعلية حين يصطحبها زوجها لمشاهدة ما أخفاه عنها حبيبها سام، الذي لم يقل لها انه يعمل كلوحة في متحف خجلا من نظرتها له.
بائسا يظهر سام طوال جلسته كشئ، ولا تبدأ الأبتسامة في الأشراق على وجهه إلا حين ينام قريرا في السجن ليتأكد من جديد سؤال الحرية، وبعد خروجه يتخذ الفيلم مسارا ساخرا من النظام العالمي العام عبر خدعة يشترك فيها الفنان نفسه، لكنها تعيد تطرح نفس السؤال من زاوية أخرى! زاوية الشروط التي تتطلبها الحرية لتكتمل! والأسباب التي تجعل الحرية نفسها شرطا من شروط الحياة والحب!
أما في المغربي ميكا فيسعى الطفل الصغير المسجون داخل سياق الفقر والحاجة إلى الأنعتاق من كل آلامه النفسية والجسدية – بسبب الحرمان والتنمر- عبر الحلم بالسفر إلى مارسيليا حيث يعمل صديقه المهاجر غير الشرعي.
يترجم المخرج حلم ميكا في اللقطات الأولى من الفيلم عندما يخيل للطفل الصغير أنه يشاهد نسرا ضخما يفرد جناحيه محلقا عبر تشكيلات السحاب، صحيح أنه لا يظهر ثانية سوى في مشهد النهاية لكنه يختصر حلم المغادرة المتخيل أو الرغبة الحامية في انعتاق كامل من واقع كئيب ومضني وغير منصف.
وعبر فصول الفيلم يعيد السيناريو إنتاج تلك الرابطة بين الطائر وحلم الحرية، فتارة يقدمه في شكل عصفور حبيس يسكن قفصا داخل حجرة ميكا التي تشبه هي نفسها قفص فقير، وتارة يتجلى في هيئة النوارس التي تسكن الشاطئ ولا تغادره لأنه قريب مما يتركه المصطافين من فضلات الطعام وأخيرا يعوود النسر للظهور في النهاية.
يتعامل المخرج مع حلم الأنعتاق ببساطة ودون زخرفة بصرية، وقصة ميكا رغم نمطيتها النسبية إلا أنها تعتبر عمل نموذجي موجه لشرائح الفتيان والمراهقين، أنها محاولة الأجابة على سؤال اصبح ملحا لدى شرائح كثيرة من الأجيال العربية الجديدة التي يدهسها واقع مر نتيجة لمخرجات النظام السياسي والأجتماعي فيصبح كل همها أن تلقي بنفسها في قاع شاحنة او باطن مركب لكي تصحو على المال والنور والحرية المزعومة في اوروبا.
يتحرك ميكا من بلدته الصغيرة إلى المدينة الكبيرة وهو يحلم بالسفر إلى مارسيليا وهناك يلتقي بنموذجين هامين يخلقان المرايا الحقيقية لأنعكاس ازمته، النموذج الأول هو الحاج العجوز الذي يصطحبه للعمل كمساعد له في النادي الكبير، والذي يمثل ميكا نفسه عقب سنوات من العمل في الخدمة دون أكتشاف لموهبة أو تلقي لعلم أو تطور في عمل، أنه يحكي لميكا عن طفولته التي هي نفسها طفولة ميكا الكئيبة التي يعيشها، وها نحن نرى حاضرة وندرك مستقبله دون أن ينطق بكلمة.
أما النموذج الثاني فهي مدربة التنس التي تؤمن بموهبة ميكا في اللعب، وتشجعه وتدفعه لكي يعثر على حلمه ويحاول ان يحققه دون أن يكون في حاجة لأن يحرق نفسه – في المغرب يطلقون على المهاجر غير الشرعي حراقة لأنه يقوم بحرق اوراقه الرسمية لكي لا يتمكنون من ترحيله- هذا النموذج القادم ايضا من نفس الشريحة لكنه عثر على موهبته وطورها ومضى في طريقه إلى النهاية حتى اصيبت وعادت إلى وطنها لكي تهدي رحلتها إلى طفل جديد لا يزال أمامه أمل في أن (يكون).
صحيح أنها لولا اصابتها لما عادت ولكن الأًصابة في حد ذاتها هي ما دفعتها لأن تصبح مدربة لكي تعيد خلق معجزة التحقق مرة أخرى كما خلقت منها هي وخرجت إلى العالم بشكل شرعي ومفعم بالقوة والصلابة.
في المباراة الأخيرة التي تمثل ذروة لحظة الأنعتاق الحقيقية يقدم المخرج إيقاع جذاب ونهاية واقعية، فميكا لا يفوز لكنه يثبت نفسه، يتحقق ويعثر على حلمه وتنجلي أمامه –وأمامنا- حقيقة ذاته- ويؤكد المخرج بصريا على هذه اللحظة عبر شريط الصوت حين نسمع هتافات المدرجات لميكا رغم أنه خسر المباراة لكنه تحقق بقوة وتواضع، وعبر لقطة النسر التذي يراه ميكا وهو مستلقي ارضا ليذكره ويذكرنا بالنسر المتشكل من السحاب في اللقطة الأولى ولكنه هنا وعقب رحلة ميكا يتجسد ويصبح نسرا حقيقيا متحققا يحلق بحرية منعتقا من اثر الخيال والسحب وفاردا أجنحته بأتجاه الشمس والمستقبل، ثم يدمج المخرج نظرة الطفل بموقع الطائر المحلق ليصبح هو نفسه جزء من عملية التحليق ويرى ذاته الصغيرة وهو مستلقي على ارضية الملعب والكل يحيط به ويهنئه لكنه في الحقيقة ليس هناك بينهم أنه بعيدا يطير نحو حلمه وحريته بلا توقف.
وفي الفيلم الفلسطيني 200 متر يصبح سؤال الحرية اكثر قسوة من الفيلمين السابقين، لأن ميكا كان يبحث عن حرية طبقية أكثر مما هي حرية في المكان، وسام كان يبحث عن معنى الحرية في الأختيار، معنى أن يكون لديه الحرية في أن يحب وان يقترن بمن أحب دون قيد أو شرط، أما مصطفى بطل الفيلم الفلسطيني فيبحث عن حريته داخل وطنه، حرية أن يعيش مثل أي مواطن عادي يعيش في أي وطن عادي، لا ارض محتلة يمزق شرايينها جدران عازلة.
ما بين منزل مصطفى في طولكرم ومنزل زوجته وابنائه مئتي متر فقط يفصلهم الجدار العازل، ولكنه لكي يجتاز هذا الأمتار يحتاج إلى ان يقطع كيلومترات تبدو وكأنها لا نهائية، عبر رحلة تهريب وهرب، يختلط فيخا المشهد كله فلا يعود أحد يدري من الخصم ومن الحكم!
ينضم إلى مصطفى في رحلة اجتيازه الجدار فتاة نصفها أوروني ونصفها اسرائيلي – وهو ما لا نكتشفه البداية- هذه الفتاة تمثل الشق الثاني من سؤال الحرية في الفيلم : ما الذي يحدث في هذا البلد ولماذا؟
تمثل الفتاة محاولة فهم اسئلة الصراع والحرية في بلد محتل وممزق لكن الأجابة على تلك الأسئلة ليست بالسهولة التي يمكن أن تجيب عنها الكاميرا المحمولة التي تصور بها رحلة اجتياز الجدار دون تصاريح.
يضع المخرج متلقي الفيلم داخل اروقة المعابر وأمام سخافات قوات الأحتلال وتحت ضغط عصابات التهريب وفوق جمر الأنتظار لكي يجتمع شمل عائلة مصطفى.
يمنح المخرج بلاده احجاما واسعة من اللقطات لكي يعيد تعقيد السؤال أكثر، أنها أرض رحبة فلماذا لا تسع الجميع دون جدران مصمطة، إنها ارض جميلة فلماذا يسكنها قبح القهر والسلطوية الغامشة التي نراها في كل مرة يواجه فيها مصطفى وجها من وجوه جيش الأحتلال.
لا تقدم الكاميرا لقطات جمالية مجانية للبلاد المقدسة ولكنها تؤكد على مغزى سؤال الحرية وعداء الأخر! وكأن السيناريو يمرر الجدار العازل داخل اجساد الشخصيات الباحثة عن معنى لهذا السجن الكبير، ينجح في صنع حالة الخوف الدائم وكأن الكل يجلس في مؤخرة السيارة التي تحاول أن تعبر إلى الجهة الأخرى التي ليس من المفترض أن توجد بالأساس.
هذا ايضا فيلم يحكيه مخرجه ببساطة دون مزايدات تقنية سواء على مستوى الصورة أو الحكي، يختصر تاريخ الشخصيات في جمل قليلة، نعرف أن مصطفى لم يشأ أن يحصل على هوية اسرائيلية لأن هذا هو الأختيار الحر الوحيد الذي تبقى له وبالتالي هو يدفع ثمن هذا الأختيار الحر كلما اراد اجتياز الجدار الذي يظهر وكأنه أعلى حائط اسمنتي في العالم وأطول حاجز فاصل.
إنه فيلم رحلة تماما كتلك التي يقطعها سام بين سوريا وبلجيكا وتلك التي يجتازها ميكا بين فقره وحلمه وتلك التي يحتاج فيها مصطفى لأن يذهب إلى أخر الكرة الأرضية لكي يقطع فقط مئتي متر ليطمئن على ولده الصغير.
تبقى الأشارة إلى أن فيلم حارس الذهب والذي يعتبر أول بطولة في فيلم عالمي للممثل المصري الشاب أحمد مالك يحتوى على وجه أخر من وجوه الرغبة في الأنعتاق فالجمال الأفغاني الصغير يتورط في عملية نقل وتهريب الذهب المسروق من أجل أن يحصل على نصيب من المال يمكنه من الهرب من تلك البلاد الحارقة البعيدة ليعود إلى وطنه، هي رحلة عكسية لرحلة سام الهارب من جحيم الحرب والثورة في بلاده ولأنه لا يزال صغيرا فإن اكتشافه لقسوة العالم وضحالة نفوس البشر أمام لمعة الذهب يجعله اقرب لميكا الذي يكتشف ذاته والعالم في لحظة فارقة ظن فيها أن حريته تكمن في الهرب لكنه اكتشف أنها ترقد كلؤلؤة داخل محارة المواجهة.