"عايز أبقى حاجة" .. جملة قالها للموسيقار هاني شنودة في أول المشوار، وبعدها بخمس وثلاثين عامًا حقق "كل حاجة" !
أن تحلم، وأن تصبح .. جملتين بينهما رحلة طويلة قطعها عمرو دياب القادم من بورسعيد حاملًا على كتفيه عشرات الأحلام المشحونة بطموح لا ينطفيء، وعنفوان موجة تضرب شط القناة، ودأب تلميذ يسعى للجلوس على مقعد الأستاذ.
#أنا_الهضبة سلسلة خاصة على مدار أسبوع كامل احتفالا بعيد ميلاد عمرو دياب .. صور ومقالات وفيديوهات ولقاءات نادرة تراها وتقرأها لأول مرة في Filfan
مرت السنوات وأصبح الشاب الباحث عن فرصة للغناء مع فرقة "الشياطين" على مسارح بورسعيد، نجما يشدوا فوق أضخم مسارح لندن ونيوروك وباريس، يقف جنبًا إلى جنب بجوار ريكي مارتن وإنريكي جلاسيوس وبريتني سبيرز ليتسلم جوائز الموسيقى العالمية من أمير موناكو، وتعترف به موسوعة "جينيس" كأكثر فنان حطم الأرقام القياسية في الشرق الأوسط .
عمرو دياب "روشتة" نجاح تمشي على قدمين، يغني في آخر ألبوماته طالبًا نصيحة "عم الطبيب" في الحياة ، وهو لا يدري أنه تحول إلى "طبيب" شخص مبكرًا أمراض العصر التي صَلَّبت شرايين الأغنية المصرية، فأعاد لها حيويتها وشبابها، ومنحها أكسير الشباب الدائم مهما مر الزمن !
اقرأ أيضًا : أهم 15 أغنية في مشوار عمرو دياب.. مسيرة تعدت الحدود الجغرافية والزمنية
هو فقط كان لديه حقوق ملكية عبارة "أول مرة" ، كل تجربة جديدة حملت توقيعة، الكلمة الجديدة خرجت من قاموسه، اللحن المختلف عبَر إلى الآذان عبر صوته، الإيقاعات الموسيقية الجريئة المتفردة طهاها في مطبخه الفني، كل جديد عرفناه بمذاق عمرو دياب ونكهته، وهذا كان أول علاج في روشتتة الفنية .
لا يمل ولا يكل
لا يعترف عمرو دياب بثلاثة أشياء .. الملل، الإحباط، اليأس، ولهذا فحالة الشغف التي تملكته في ألبومه الأول "ياطريق" مازالت تصاحبه حتى الأن. مثلًا في ألبومه الأخير "سهران" ظل يبحث ويفتش ويدخل ستوديوهات الصوت حتى اللحظات الأخيرة من فجر ليلة طرح الألبوم ، لديه دائمًا الوقت لكل ماهو جديد .
لا يراهن على الماضي
السبب الأول في اختفاء كثير من الأصوات التي حلقت في سماء التسعينات كان الإرتكان على نجاحات سابقة، ولكن عمرو دياب مؤمن بسُنة الحياة.
يقول دائمًا : "لو دامت لغيرك ما وصلتلك"، ولهذا يثق أن الزمن لايرحم، والجمهور يتغير، ولهذا بنى عبر سنوات قاعدة جماهيرية من أجيال متعاقبة ظلت مخلصة لصوته، وهو في المقابل أخلص لأذواقهم المتغيرة، احترم ثقافة وأفكار كل جيل، غنى عنهم ولهم، ولهذا سيظل القاسم المشترك بين رجل أربعيني وشاب في مطلع العشرين أغنية لعمرو دياب.
التجديد ثم التجديد
إنطلق عمرو دياب مع هاني شنودة "الأب الروحي" للموسيقى المصرية الحديثة، ولكنه لم يبق في محرابه طويلًا، إنطلق نحو الموسيقار فتحي سلامة أحد أهم الموزعين في تاريخ مصر الحديث، صنع مع فتحي خلطة موسيقية تخاطب جيل الثمانينات وشاركه في الرحلة الملحن الراحل خليل مصطفى ، وشوقي حجاب وعزيز الناصر وعصام عبد الله ، كلها أسماء سبقت مرحلة تالية أهم وأطول شاركه فيها حميد الشاعري وطارق مدكور -كقطبين للتوزيع الموسيقي- وأسماء في مجال التلحين يتصدرها رياض الهمشري وحجاج عبد الرحمن، والشعراء مجدي النجار، مدحت العدل وعادل عمر .
توالت المراحل الفنية في مشوار عمرو، وكان شعاره الدائم فيها التجديد، اكتشف اجيالًا من الشعراء والملحنين والموزعين وقدمهم للساحة مثل "جيل الألفية" الذي قدم فيه محمد رحيم وعمرو مصطفى وأيمن بهجت قمر وأحمد علي موسى ومحمد يحيى وآخرين كان عمرو دياب نافذتهم نحو عالم الشهرة .
الثقافة الموسيقية
لا يمكن أن تنجح في مجال دون أن تدرسة جيدًا، كانت هذه النصيحة التي عاش بها هاني شنودة مكتشف عمرو دياب، يحكي الموسيقار هاني شنودة في مذكراته أن والده "الصيدلي" طلب منه دراسة الموسيقى إذا قرر احترافها، التقط عمرو دياب تلك النصيحة من شنودة ودرس الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى بأكاديمية الفنون .
ذات مرة حكى لي الموسيقار الكبير ياسر عبد الرحمن سرًا من أسرار نجاح الهضبة وهو أنه "فاهم مزيكا"، حيث قال : " دياب من المطربين القلائل المثقفين موسيقيا ودرس التأليف الموسيقي، وفي بعض الأحيان يلتقط أخطاء غير واضحة في عزف الوتريات أو الآلات الأخرى ويراجع العازفين فيها".
هذه الثقافة الموسيقية انعكست على عمرو دياب الملحن والذي قدم على مدار مشواره الفني أكثر من مئة لحن أغلبها تحمل الطابع الشرقي الأقرب لقلبة، يصيغ عمرو دائمًا جملًا شرقية رشيقة تحمل رائحة الزمن الجميل، ثم يعرضها في فاترينة عصرية تخاطب الزمن بوضوح وجرأة .. اسمع تجربته كملحن لأغاني فيلم "أيس كريم في جليم"، أو لحنه الأخير الدرويشي الهوى في "عم الطبيب"، كلها ألحان تعكس ذوق موسيقار متفرد.
الهوية والرؤية الموسيقية
كم أغنية أعجبت عمرو دياب ولكنه لم يغنيها لأنها لا تشبهه ؟
لم تسيطر شهوة النجاح على ميزان اختياراته، فهو يعرف جيدًا أن له هوية متفردة، هو لا يشبه احدًا وهذا كان المادة الأولى في دستور تجربته، ولهذا يفهم عمرو دياب أنه له هوية فنية متكاملة من أركانها الأساسية تمازج الثقافتين العربية والغربية، وفي إطارها يصنع أكثر من هوية لمشروعاته الموسيقية المختلفة، يتعامل مع الألبوم باعتباره تجربة لابد أن تتكامل في عدد أغنياتها وطبيعتها وتمازجها الموضوعي والموسيقي، وحتى طبيعة الفصل الذي ستصدر فيه ، ولهذا ستجد اختلافا واضحًا بين ألبوماته الصيفية والشتوية، بداية من الملصق الدعائي وغلاف الألبوم والفيديو كليب، وصولًا إلى كلمات الأغاني وطبيعة الموضوعات .
عمرو دياب لم يكن إبن زمنه فقط، بل أصبح إبن كل زمن يعيش فيه، يبحر فوق أمواج التغيير العنيفة بذكاء بحار مغامر يعرف بوصلة الطريق في رحلة ينشد خلالها تخليد إسمه .