لا إدراك لقيمة الحضور إلا باختبار الغياب.. ولا رؤية لمفردات التكوين إلا بفراغ الخلفيات..
الزخم مربك والفسحة مطلوبة للاستقبال والتلقي والإدراك. وهذا هو حال الفن، فما يجعلنا ندرك دور البطل هو دور مسانده. ذلك الواقف خلفه. الأمر أشبه بصناعة الأهداف في مباراة لكرة القدم، أقرب لما يجري بين لاعب يُـهيِّـئ الهدف و"يباصي" الكرة، وبين الهدّاف المُسدد الذي يسجل الهدف باسمه.
في مغيب الشمس يسير دونكي شوت الفارس البطل المغوار على حصانه ومن خلفه يسير سانشو بانثا تابعه الأمين حاملًا درعه، يمتطي دونكي شوت حصانه في حين يعتلي سانشو بغـله، المفارقة والتمايز جدٌ واضحين بين الشخصيتين سمتاً وهيئةً لكنهما يؤسسان للصورة النمطية بين البطل وصديقه تماما كما أسست هذه الرواية للفن الروائي الحديث.
ضخم الجثة وقصير القامة مسالم وبسيط يتوخى السلامة وعدم الخوض في المشاكل ويقبل بمساعدة البطل.. تلك هي سمات سانشو بانثا الذي قبل بمساعدة دونكي شوت مقابل أن يوليه حكم إحدى الجُـزر التي سيفتحها الفارس المغوار. أسس سانشو لصورة صديق البطل النمطية في الأدب الروائي، وتوالت الصور التي تعكس هذا البطل الثاني أو ظل البطل.
يُـعرِّف معجم المصطلحات السينمائية البطل المساند بأنه الممثل الذي لم يرتفع بعد لمرتبة الأبطال، ولكنه يؤدي دوره بدقة وبراعة، ولا تقل أهمية هذا الدور كثيرا عن دور البطولة، وقد يعبر عنه باسم البطل الثاني. البطولة نفسها تحوَر مفهومها وظهر البطل الضد في عالم تعيس.. ولكن منذ كان متى كان العالم سعيداً؟!!
أغلب التعقيد ينجم من رؤيتنا للمشهد من منظور البطل.. هل البطل الثاني هو بديل له؟؟ نسخة مصغرة من البطل.. مستنسخ يحمل ظلاله، مرآة تحرِّف صفاته إغداقا أو تقتيرا؟!
ماذا لو استعرنا منظور البطل الثاني وروينا عنه؟!! هل يُـسمـح لنا؟!
انحصرت أغلب أدوار البطولة الثانية بين دورين إثنين إما صديق البطل أو خصمه، طرفي نقيض لكنهما استحوذا على هذا الموقع. لعله يكون صديقا طريفا كما كان عبد السلام النابلسي لفريد الأطرش أو لعبد الحليم في أفلامهما، ربما كان خصمه كما كان "رءوف علوان" بالنسبة لسعيد مهران في اللص والكلاب. وربما جمع بينهما فيكون الصديق اللدود الذي يتأرجح بين الوِد والخصومة كما "هرم" غريما "للشيخ حسني" في الكيت كات.
الغريب أن هناك ممن تصدُّوا للبطولة المطلقة بعد تاريخ من البطولة الثانية ولم يستقبلهم الجمهور الاستقبال الحافل، فحلاق السيدات حين قام به عبد السلام النابلسي لم يتقبله الجمهور كنجم أوحد. وُصِـم النابلسي بصفة صديق البطل ومارست الجماهير نوع من الحصار عليه حيث يلزم حدوده الفنية التي ألفها الجمهور نحوه.
الأمر لم يكن بذات النهاية مع إسماعيل يس. فبعد سنوات من مساندة الأبطال ككمال الشناوي وفريد الأطرش وجد موطئ قدم له في صفوف البطولة، وانفرط عقد من البطولات لسلسلة من الأفلام باسمه، مرة في البحرية وأخرى في الطيران وثالثة في البوليس، وأخريات في حديقة الحيوانات أو متحف الشمع أو مستشفى المجانين أو حتى حين يقابل ريا وسكينة.
حدث أن نمت شخصية درامية من رحم أحد الأفلام لتتكاثر خارجه في سلسلة إنشطارية، فمن مجرد مشهد في فيلم الناظر صلاح الدين حقق الفنان محمد سعد نجوميته عبر استثمار شخصية "اللمبي"، التي ظهرت في 4 أفلام ومسلسل. اللمبي الذي كان شخصية ثانوية لا دورا مساندا يتمدد في سلسة من الأفلام، هنا يبرز رجل الخلفية ويتقدم للصفوف الأمامية، لكنه رهين الهزل والسخرية وكوميديا الفارس.
على أن المثال الأكبر في الترقّي من الأدوار الثانية إلى الأولى يجسِّـده الثنائي محمد هنيدي والراحل علاء ولي الدين اللذان لمعا نجمهما بعد سنوات من الأدوار المساندة في أفلام شهيرة.
ذا الثنائي تزامل في أكثر من فيلم قبل أن يشق كل منهما طريقه للنجومية في سلسلة ناجحة من الأفلام غيرت خريطة النجومية في سينما التسعينات ومدشِّـنة لمصطلح سينما الشباب.
علاء ولي الدين كان أيقونة بهجة من خلال أدوار ثانوية لافتة إما من خلال جودتها أو من خلال مظهره الضخم، لا ينس أحدٌ منا محاولته للانتحار من أعلى مجمَّع التحرير في "الإرهاب والكباب"، أو مناجاته لنفسه أمام المرآة في فيلم "النوم في العسل"، قبل أن يتولى بطولة أفلامه كعبود على الحدود، والناظر، وابن عز، بمعدل فيلم كل عام حين برق شهابه آخر خمس سنوات من عمره قبل أن يرحل عن عالمنا 2003.
جيل "الكامننا"
لم يجد أي من المفسرين معنى لهذه الكلمة التي ظل يرددها محمد هنيدي في الأغنية التي شارك محمد فؤاد بها لتكون فاصلة لجيل من النجوم الشباب, ولكنها صنعت نجوميته في فيلم "إسماعيلية رايح جاي"، فبعد أدواره اللافتة كشخصية ثانوية في أفلام هامة كإسكندرية ليه، يوم حلو ويوم مر، وسارق الفرح، والهروب، ويا مهلبية يا.. يلفت هنيدي انتباه صُـنَّـاع السينما فيقدمونه في البطولات المطلقة.
نجاح هنيدي الجماهيري حمل في طياته بعدا آخر بخلاف عائدات شباك التذاكر؛ فلأول مرة نرى نجما ضيئل الحجم تحتل صورته الأفيشات، إنه الأمل الذي يلهمه للجماهير من صعود المثابر الموهوب الدءوب ذو الشغف وهو ما وجدنا أصدائه في شخصيات أفلامه التي جسَّدها وكانت الأكثر نجاحا حيث الجنوبي الذي يحرز هدفا في العاصمة وفي جامعة خاصة لا تقبل إلا أبناء الصفوة في "صعيدي في الجامعة الأمريكية"، أو المغترب الذي يلقى عنت المجتمعات الغربية ويواجه عدوه الصهيوني في المهجر كما في "همام في أمستردام"، أو الميكانيكي الذي يريد الصعود إجتماعيا للزواج من محبوبته الأعلى مكانة وبعد إقصاء غريمه يحصل عليها كما في "بلية ودماغه العالية"، أو في الإعلامي المجتهد الذي ينتزع فرصته المهنية في ظل مناخ غير نزيه يولي الأمر لمن لا يستحق كما في "جاءنا البيان التالي".
قدّم هنيدي عبر أفلامه وعبر رحلة صعوده الفني هذا النموذج للنهايات السعيدة وتدرج في سلم النجومية من العتبات الصغيرة واعتلى الدرج للقمة. تماما كما الحال حين صعد الفنان سامح حسين بشخصية مساعد البطل الساذج الذي يُوقِع البطل دوما في المشاكل في مسلسل "رجل وست ستات" ليقوم بعده ببطولة عدة مسلسلات وأفلام مثل: عبودة ماركة مسجلة واللص والكتاب وحاميها حراميها.. اللافت قيام سامح بشخصيتين في أكثر من مسلسل وكـأنه نهم قديم للتشخيص جرَّاء سنوات في خانة المساندة.
يتكرر الأمر نفسه الآن مع نجوم مسرح مصر الذين شكلوا مع الفنان أشرف عبد الباقي بطولة جماعية انشطرت لاحقا بحيث تحمل كل حفنة منهم مسلسلا جديدا في رمضان. لعلهم الأوفر حظا في شباب الفنانين حين قام علي ربيع ومصطفى خاطر وحمدي المرغني ودينا محسن ورفاقهم ببطولات تليفزيونية بعد سني قليلة من العمل المسرحي. كان أول موسم لهم في العام 2014 وقد وفَّرت لهم إطلالة منتظمة أسبوعيا على شاشة التليفزيون فرصة الانتشار، فما لبثوا أن تمت الاستعانة بهم في أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية، ومن مشاركتهم الخجولة كأدوار مساندة إلى بطولة مطلقة.
لكن سنوات الصعود السريعة تلك لم تكن خيارا لفنانين آخرين لمعوا في الأدوار الثانية، ولعلهم يغبطون الجيل الجديد في هذا التحول السريع، فالفنان حسن حسني حصل على جائزة أفضل ممثل من مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان الإسكندرية عام 1993 وكان وقتها قد واشك الستين، ويعد من أكثر الممثلين حضورا في الأعمال السينمائية الشبابية التي يرى أن مشاركته فيها هي تكرار لما فعله معه الفنان القدير الراحل عماد حمدي حين أسند له دورا هاما في فيلم "سواق الأتوبيس" الذي كان نقلة وانطلاقة في مشواره الفني. كما أن حسن حسني الذي ملأ باقتدار هذه المساحة لسنوات عديدة تنقَّل من المسرح العسكري إلى المسرح القومي فالمسرح الحديث، كما عمل بفرقة تحية كاريوكا، وعمل لسنوات في الدراما التليفزيونية والأفلام السينمائية التي جسَّـد فيها البطولات الثانية وتناوعت أدواره بين الشرير غريم البطل وصديقه. نجومية حسني وإلتماعه جاءت بتأنٍ وهدأة، تماما كما جاءت نجومية الفنان أحمد راتب الذي احتل مكانته المميزة في الأدوار المساعدة منذ السبعينيات في أفلام (واحدة بواحدة، الحب فوق هضبة الهرم، الإرهاب والكباب، بخيت وعديلة، عمارة يعقوبيان). كما تميز في المسلسلات التليفزيونية (هند والدكتور نعمان، المال والبنون، أم كلثوم) وعُدَّ أحد أهم الوجوه التي يستعين بها الفنان عادل إمام في مسرحياته.
نجوم الخمسين
في العام الماضي يقوم الفنان ياسر جلال بأول بطولة مطلقة في مسلسل "ظل الرئيس" بعد سنوات من الأدوار الثانية والمميزة في مسلسلات: لن أعيش في جلباب أبي، بوابة الحلواني، أولاد حضرة الناظر، الفنار، يتربى في عزِّو، نور مريم، ساحرة الجنوب. الفنان الوسيم الذي لمع في الدراما التليفزيونية وكان وجها متكررا في أفلام جماهيرية مثل (الفرح، أمير البحار، شد أجزاء) يحصل بالنهاية على دور البطولة ويشفعه بمسلسل آخـر هذا العام "رحيم"، في حين يغيب الفنان طارق لطفي هذا العام بعد أن أحرز أول بطولة مطلقة له في الدراما التليفزيونية في مسلسله "بين عالمين". وجه طارق لطفي ألفه الجمهور عبر مشاركته الممتدة منذ بداية التسعينيات في أفلام مثل: دماء على الأسفلت، قشر البندق، صعيدي في الجامعة الأمريكية، بنتين من مصر، والعديد من المسلسلات بدءا من: حديث الصباح والمساء، السيرة العاشورية، سلطان الغرام.
اللافت أن كلا من طارق لطفي وياسر جلال جاءت إليهما النجومية وقد أتما الخمسين ربيعا أو قارباها.
أما عن الأدوار المساندة النسائية فلعل الفنانة زهرة العلا من أبرز من قمن بها، فقد احتلت البطولة الثانية لسنوات عمرها الفني وبإستثناء فيلم إسماعيل يس في الأسطول لم تستأثر بالبطولة النسائية رغم أدوارها المتميزة في أفلام مثل (دعاء الكروان، الوسادة الخالية، ردّ قلبي، أيامنا الحلوة، في بيتنا رجل..)، في حين نجد بداية مبشِّـرة للفنانة تهاني راشد بدورين متميزين في فيلمي ( أحنا التلامذة وصراع في النيل) واللذين كانا من اخراج عاطف سالم، لكنها لم تبرح أدوار البطولة الثانية وركَّـزت اهتمامها على الدراما التليفزيونية. اللافت أن هناك من الفنانات ممن تميزن في الأدوار المساندة اقتصرن على أدوار معينة ولم يبرحنها كفردوس محمد وآمال زايد وكريمة مختار اللاتي قمن بأدوار الأم في السينما المصرية.
هكذا تظل البطولة الثانية هاجسا يؤرِّق الفنانين انتظارا لفرصة الانطلاقة الكبرى، غافلين ما للظلال من جمال وجلال. وبنظرة سريعة على أين ذهبت الأوسكار لأفضل ممثلة/ ممثل مساعد نجد العديد من المفاجآت. فمن خلال مشهد واحد استطاع نيد بيتي الحصول على أفضل ممثل مساعد وذلك في عام 1976 عن دوره في فيلم "الشبكة"، وقد حصلت باتريس ستريت على أفضل ممثلة مساعدة عن نفس الفيلم من خلال مشاهدها التي لم تتجاوز 6 دقائق فقط من مدة الفيلم. وهي بذلك تحصل على لقب الممثلة صاحبة الدور الأقصر في تاريخ جوائز الأوسكار.
وفي عام 1998 تفوز جودي دينش بأفضل ممثلة مساعدة عن دور الملكة إليزابيث الذي قدمته في فيلم "شكسبير عاشقا"، وكانت وقتها قد بلغت الخامسة والستين، في حين سجَّـلت تاتوم أونيل أصغر أفضل ممثلة حين فازت بالجائزة عن فيلم القمر الورقي 1973. وكانت حينها في العاشرة من عمرها.
العديد من الفنانين قاموا بتضحيات من أجل الإيمان بالدور المرشحين له، فآن هاثاواي قامت بحلق شعر رأسها وفقد 11 كيلو جراما من وزنها لتلائم دورها في فيلم "البوساء" 2012 وقد حصلت من خلاله على أوسكار أفضل ممثلة مساعدة. الفوز جاء في بداية مسيرة هاثاواي المهنية حين بلغت الثلاثين، وهو نفس السن الذي حصل فيه الفنان "هيث ليدجر" على أوسكار أفصل ممثل مساعد عن فيلم "فارس الظلام" عام 2009، لكنه للأسف لم يتسلَّـمها واستلمها عنه والده ووالدته وأخته حيث توفى قبل حصوله عليها.
تاريخ الأوسكار يحمل بعض الغُصَّـة حين لم تجد إحدى الحاصلات عليه مكانا للجلوس فيه،وهو ما حدث للممثلة الأمريكية أفريقية الأصل هاتي ماكدانيال عن دورها في فيلم "ذهب مع الريح" 1939، فرغم حصولها على أفضل ممثلة مساعدة إلا أنه من المؤسف لم يكن لها مكان تجلس فيه ليلة حفل الأوسكار بجانب أبطال الفيلم فيفيان لي وكلارك جيبل، وذلك لسياسات العنصرية التي كان يتبعها نادي كوكونت جروف الجهة المستضيفة لحفل الأوسكار، ورغم أن دور هاتي ماكدانيال في الفيلم استحقت عنه التكريم إلا أنه حكم عليها بأدوار الخدم لبقية حياتها فلم تبرحها والتزمت بها.
وبإستثناء الفنان ديزيل واشنطون فلم يحصل فنانا غيره على أوسكار أحسن ممثل مساعد و أوسكار أحسن ممثل، ما يجعله فنانا إستثنائيا ففي فيلم المجد 1990 يفوز بأفضل ممثل مساعد ليعيد الوقوف ثانية في حفل الأوسكار في العام 2002 ولكن هذه المرة ليحصل على جائزة أفضل ممثل عن فيلم يوم التدريب.
في فيلم (نصف ساعة جواز) يدعي الممثل الصاعد عادل إمام بقيامه بدور البطولة مع الفنانة سعاد حسني في فيلم "امسك أنفي من فضلك" وذلك ليتباهى بنفسه (ولو كذبا) أمام جارته، لكنه في الواقع يقوم بتلقي الضربات بدلا من النجم السينمائي يوسف شعبان الذي يظفر بقبلة من الجميلة نجلاء فتحي، يتساءل عادل امام الذي يقوم بدور البديل في الفيلم: ما الأستاذ يوسف شعبان بيبوس؟ ليجيبه المخرج موضحا حدود كل فنان: الأستاذ يوسف شعبان يبوس لكن انت تنضرب بس.!!
حظ أقل من حظ البطل، بل ربما يحمل عن البطل حظه السيء.. في مسيرة عادل إمام الفنية قبَّـل العديد من فاتنات الشاشة وارتحل الممثل المساند إلى واجهة الأبطال في صعود درامي لافت من فنان يقوم بأداء دور البطولة الثانية إلى زعيم في الفن.