في وقت سابق، التقينا بالمدراء الإقليميين في الشرق الأوسط لإحدى شركات التوزيع الرقمي، التي نجحت في أولى صفقاتها بمصر بالتعاقد مع النجم عمرو دياب، كانت خطوة بداية قوية ولفتت الانتباه للشركة بالطبع. وقتها تحاورنا حول رؤيتهم للغناء في مصر، ماذا يقدمون في المجال وكيف سيدعمونه، كيف يتربّحون، وما هي خططهم المقبلة.
تطرق الحديث للمهرجانات الشعبية وتحديدا عن إمكانية التعاون مع الفنان محمد رمضان مستقبلا، فكان رد ممثلي الشركة أن لهم مستوى معينا في اختيار أهم النجوم في الوطن العربي، ويسعون جاهدين على ألا يتغير هذا المستوى لآخر أقل منه، إذ يرون أن المهرجانات الشعبية لها استراتيجية خاصة بها، وأنهم إذا أرادوا الاتجاه لهذا النوع الشعبي من الأغاني فسيتم اختيار الفئة الأولى منها، ليبتعد الرد _بلباقة وذكاء_ عن محمد رمضان ويشير للنجاح الشعبي للفرق الغنائية، مثل شارموفرز وكايروكي ومسار إجباري وغيرهم.
كان ردًا متوقعًا بالنسبة لي، لكن ما لا أتوقعه هو رد فعلهم لو كنّا قد سألنا عن إمكانية تعاونهم مع حمو بيكا ومجدي شطة وحسن شاكوش وعلي قدورة ونور التوت!!
أمس، فعلت شركة روتانا للصوتيات والمرئيات هذا الأمر غير المتوقع بالنسبة للشركات المنافسة الأخرى، وأعلنت تعاونها مع مغني المهرجانات حمو بيكا، في أغنية جديدة. بالطبع تعرضت روتانا لهجوم كبير، ليس من الجمهور (لأن الجمهور لا يهتم بالتعاقدات ومن يعمل لصالح من، بل بالمُنتَج فقط)، ولكن من عدد من نجوم الفن الذين نددوا بما فعلته الشركة، واعتبروه سقطة كبيرة لتاريخها، وإهانة للسوبر ستارز الذين تتعاون معهم. وكان لـ بيكا نصيبه الأكبر من الإساءات فوصفه أحد المواقع الإخبارية الشهيرة بـ"الجاهل"، وصحفيون معروفون وصفوه بـ"التافه المقرف اللي ملوش قيمة"... إلى آخره من كلمات التحقير والإهانة.
حسنا، فلنتناول الموضوع من جوانبه كافة ببساطة..
كيف نلوم جاهلا على جهله وفي نفس الوقت لا نرغب في تعليمه وتقويمه؟ شباب ظهروا في لون غنائي معين وحققوا نجاحا كبيرا وانتشارا لم يحققه أي سوبر ستار في الوطن العربي، بدلا من أن نهاجمهم لماذا لا نقوّمهم فنيا؟! فمثلا أغنيتي "بنت الجيران" و"عود البطل" لعمر كمال وحسن شاكوش حققتا حتى الآن نصف مليار مشاهدة على يوتيوب، مَن مِن النجوم الكبار حقق ذلك؟
اقرأ أيضا: لا تخافوا على أحمد زكي من محمد رمضان
البعض سيقول وهل أرقام المشاهدات هي مقياس النجاح والفن الراقي؟ نعم مقياس النجاح، ألف باء الدخول في أي صناعة هو العمل تحت مبدأ العرض والطلب، أي شركة أو منتج يقول إنه ينفق أمواله لأجل دعم الصناعة الفنية وليس المكسب والشهرة فهو كاذب، الجمهور هو الهدف والغاية الوحيدة، من يحظى بالانتشار لدى الجمهور ويحبونه يصبح نجما، شركات الإنتاج لا تصنع نجوما، بل تستثمر في المواهب للكسب المادي، أما الجمهور فهو الذي يصنع النجوم لأنه لا يحظى بأي مكسب مادي من ذلك، بل بالعكس يدفع أموالا مقابل الاستمتاع بالفن.
وهل ما تقدمه المهرجانات يعتبر فنًّا؟ نعم فن، سواء أحببته أم كرهته، وافقت عليه أم لم توافق، هؤلاء النجوم الذين سبّوا شباب المهرجانات هل يستخدم أحدهم المواصلات العامة ويحضر الأفراح الشعبية ليرى حجم الانتشار الضخم لهذا اللون من الغناء؟! مَن مِن النجوم الكبار الذين تزدحم جنبات الطرق ببوسترات أعمالهم الفنية لديه نصف هذا الانتشار؟ رغم أنه انتشار بلا أي دعاية على الإطلاق.
أيضا من لديه سلطة الرقابة على أذواق الجمهور، ليجبره على حب فلان وكره آخر، أو الاستماع لذلك المطرب دون غيره، أو يقول هذا فن راقي وهذا مبتذل، كلمة "الفن الراقي" في حد ذاتها كلمة مطاطة لا معنى لها، هل هناك شروط معينة له؟ لو أن شخصا يقدم "فنا راقيا" من منظورك الشخصي، لكن أعماله لا تحقق النجاح المطلوب، هل نقول عليه ناجحا؟ وهل من المفترض أن تظل شركات الإنتاج تنتج له، لمجرد كونه فنانا جيدا بدون مكاسب مادية؟... ما هكذا تقوم الصناعة الفنية أبدا.
قبل عشرات السنوات، سُئل الفنان عادل إمام في حوار صحفي: "هل شباك التذاكر هو مقياس النجاح الوحيد؟ البعض يقول إن أفلامه ناجحة لكنها لم تحقق نجاحا في شباك التذاكر"، فأجاب بأن "من يقول بأنه قدّم فيلم جيد ومتشافش ده كداب، لأن الجمهور لو لقى حاجة حلوة تشده هيدخلها، الجمهور ملوش مصلحة في نجاح أو فشل عمل فني، كل مصلحته في الاستمتاع اللي بيدور عليه في الأعمال الفنية.. لو ملقاش المتعة دي في فيلم هيسيبه ويروح واحد تاني.. التاني ده هيجيب فلوس كتير ويتشاف أكتر ويبقا اسمه فيلم ناجح.. شباك التذاكر والأرباح هما المقياس فقط".
لو طبقنا هذا الكلام الآن، سنجد أن من يخاف من انتشار المهرجانات، شخص لا يثق في جودة ما يقدمه ولا إقبال الجمهور عليه، فلنضع كل الألوان الغنائية على مائدة واحدة ويختار الجمهور منها ما يشاء، من فرض تلك الوصاية الفنية على أذواق الجمهور ويحق له أن يسب ويهين ويسفه من أشكال فنية معينة، لمجرد أنها لا تعجبه.
اقرأ أيضا: ما ذنب رجاء الجداوي؟!
الموقع الشهير الذي وصف حمو بيكا بالجاهل ووضع صورته إلى جانب طبيب الغلابة، ما علاقة حمو بالطبيب؟ هل كان سببا في فقره؟ لماذا نحمله مسؤولية تردي أحوال فئة معينة من الشعب، هل أنفقت الدولة أموالها على شباب المهرجانات فأدى ذلك لإهمال الأطباء مثلا؟ بالطبع لا، لا علاقة لهذا بذاك أصلا، لأنه صناعة مثل غيرها تقوم على وجود منتجين يستثمرون ماديا في المواهب الفنية. هو فقط شاب قدم أغاني معينة حصدت ملايين المشاهدات، بل إنه بعد الشهرة اعتذر عن المهرجانات التي بها ألفاظ بذيئة وحذفها من يوتيوب، وتعهد بألا يقول مثل هذه الأمور مرة أخرى.
وكذلك عمر كمال وحسن شاكوش عندما اعتذرا عن جملة "خمور وحشيش" في أغنية "بنت الجيران" وحذفوها منها؛ الشباب يتعلمون من أخطائهم بمنتهى البساطة ولا يجدون حرجا في الاعتراف بذلك، عكس نجوم كبار يصرون على الخطأ والكبر وادعاء النجاح رغم أن الجميع يشهد بفشلهم، أو على الأقل أنه راحت عليهم!
كم من أغنية أو عمل فني اكتسح السوق وقت نزوله، لكن أين هو الآن؟ استمتع به الجمهور وقتها وانتهى، لا يصمد أمام التاريخ سوى المواهب القوية الجيدة، لماذا يستمع الجمهور لأم كلثوم حتى الآن، وعبد الحليم ووردة وفيروز وغيرهم، لماذا يتواجدون حتى الآن رغم ظهور مئات المطربين من بعدهم؟ لأنهم قدموا شيئا يستطيع البقاء لفترات طويلة رغم اختلاف المزاج الشعبي للجمهور مرارا وتكرارا، هذا المزاج الذي يلعنه بعض النجوم الآن، لمجرد أنه لا يتوافق مع أهوائهم.
النجاح الآن صار للأغاني السريعة المبهجة، أو بمعنى أدق "اللي بترقّص"، لأن الأحوال العامة كلها أزمات وضغوط ومعاناة، فأًصبحت وكأنها متنفس للبهجة ومرتبطة ارتباطا وثيقا باللحظات الممتعة في حياتهم من أفراح ومناسبات واحتفالات. لم يعد أحد يتأمل الكلمات والقصائد، لا بد أن يعلم كل العاملين في مجالات الإعلام والفن والصحافة أنهم يتعاملون الآن مع مستمع ومشاهد وقارئ ليس لديه وقت للتأمل والبحث والاختيار، الناجح هو من يستطيع جذب الانتباه أسرع، فالأحوال تغيرت وذائقة المتلقي نفسها تغيرت، ومع ذلك يرفض بعض النجوم الاعتراف بهذا الأمر حتى لا يواجهون الواقع بأن هناك من يعتبرونه أقل منهم موهبة لكنه أكثر نجاحا.
نجاح المهرجانات وانتشارها وتبني الشركات الكبرى لها فنيا لن ينقص من قيمتك كفنان لا تحب هذا اللون الغنائي وتقدم غيره، قدم ما تشاء، لو كان جيدا سيبقى لماذا تخاف من نجاح غيرك إلى هذ الحد؟ في الواقع ربما انفعالك يأتي من كونك ترى نفسك في طبقة أعلى وأرقى من أن يستوي فيها شباب الحارات الشعبية مع النخبة والصفوة التي تعيش على ذكرى النجومية التي حصدتها في سنوات العمل الأولى.
أتمنى أن تستمر شركات الإنتاج في تبني المواهب الفنية لشباب المهرجانات، وتساعدهم على النجاح والانتشار، وتقوّمهم فنيا، وتقدم لهم استشارات ونصائح موفقة، ليخلو هذا النوع من الابتذال والألفاظ البذيئة، بل وربما يتطور لما هو أفضل مستقبلا.
ميزة المهرجانات التي لا يمتلكها أكبر نجم في مصر، أنها تحقق نجاحا شعبيا خالصا بـ"زيرو تسويق"، أغنية يضعها مجموعة شباب على يوتيوب فتنتشر من تلقاء نفسها انتشار النار في الهشيم.. بسيطة ولكنها في الوقت نفسه ليست سهلة لمن لديهم مقومات التسويق.
باختصار، لا تخف على فنك وموهبتك إن كنت ترى أن ما تقدمه جيدا، ادعم منح الفرص للجميع، ولا تنس أن الجمهور هو الرقيب الأول والأخير ولست أنت مهما بلغت نجوميتك ومكانتك الفنية... لأنه ربما ينتصر عليك هذا الشاب الذي تصفه بالجاهل لأنه بسيط وعفوي ولا يحقد على غيره ولا ينكر نجاح الأخرين، هو فقط يعترف بأنه بياكل عيش بينما البعض يدّعون الزهد لأجل الفن، وهم أول من يعلو صوتهم عند تخفيض الأجور!
اقرأ أيضا: