هناك مقولة عظيمة لدالاس سميث، تُلخص كل ما نمر به اليوم في موسم الدراما الرمضانية، إذ يقول:"أصبح التلفزيون مؤسسة يقوم نشاطها، ليس على بيع البرامج إلى المشاهدين، ولكن على بيع الجمهور نفسه إلى المُعلنين"، وهو ما جعل من المسلسلات الدرامية فخًا لم ينج منه أحد بلا استثناء، لكن على الأقل هناك من يجعل عملية البيع بها شيء من المكسب، شيء من المتعة، شيء من البهجة مثل مسلسل "بـ 100 وش"، وهناك من يجعل عملية البيع خسارة فادحة للوقت والعقل والإدراك، مثل أغلب الأعمال الممجوجة التي بُلينا بها اليوم!
على مدار سنواتٍ طويلة، تم اختطاف الموسم الرمضاني، وتحويله قسرًا إلى موسمٍ مُشوّهٍ، شديد الابتذال والفجاجة، تذخر أعماله بأكبر جرعة من العنف والجريمة، إلى الحد الذي جعلها مرضًا في حد ذاته يستدعي العلاج والاستئصال، بعد أن كانت يومًا ناقلًا للعرض بغرض محاولة التشخيص والشفاء وتحريك الماء الراكد، أو على الأقل لنشر المتعة والتسلية –الحقيقية- بلا شُبهة استسهال أو ابتذال، فإذا بها اليوم وقد أصبحت ماءٍ آسن، يقتل شاربيه، وينشر في أجسادهم سمه الزعاف، ليتساءل الجمهور -العاقل- في كل موسم: ما الذي جرى لمسلسلات رمضان؟! وأين ذهبت تلك الدرر التي كان يلتف حولها ملايين الأسر من عينة "أبنائي الأعزاء شكرًا"، "ليالي الحلمية"، "المال والبنون"، "أرابيسك"، "لن أعيش في جلباب أبي"، وغيرها من الأعمال العظيمة، التي قدمها صناع كبار، من مؤلفين ومخرجين وفنانين، احترموا جمهورهم ومجتمعهم، فكسروا قاعدة بيع الجمهور للمعلنين، ولم يبيعوا لنا إلا الصدق والاحترام، قبل أن تدور عجلة الزمن وتتبدل المعايير والأصول، ليصبح كسر القاعدة هو القاعدة، وخرق الأصول هو الأصول، فعز العثور على من يستحق أن نراهن عليه، لكني كنت ولازلت أجد في نيللي كريم وكاملة أبو ذكري استثناءً نادرًا، لم يخذلني يومًا بدءًا من "ذات"، وصولًا إلى "100 وش"، الذي أعاد لنا وجه رمضان الجميل الذي افتقدناه طويلًا، حتى أني أشعر بالعمل آتيًا على نغمات أغنية عمرو دياب الجميلة "يتعلموا"!
"يتعلموا يتعلموا".. من إخراج الاستثنائية كاملة أبو ذكري، المرأة القوية التي تعي قدرها جيدًا ولا تتهاون أبدًا في حقوق المخرج وأصول الشغلانة، حاكمة السيطرة على أدواتها، وصاحبة الرؤية فيما تُقدم، عن قناعة واقتناع، وليس نزولًا على رغبة منتج أو نجم يفرض وصايته ويتدخل في عملها، والنتيجة هي ظهورها في أحداث "100 وش"، دون الحاجة لإطلالة جسدية، بقدر ما ظهرت بروحها، ببصمتها، بلغتها البصرية المميزة، حتى أن المشاهد يستشعر صوت ضحكتها المكتومة وهي تشاهد المباراة التمثيلية الرائعة خلف الكاميرات، وهي تقودها بإيقاعها المنضبط المتدفق الواثق، دون احتياج إلى حركات كاميرا سريعة، وتقطيعات مبالغ فيها من زوايا متعددة، مثلما يلجأ غيرها من المفلسين لمداراة فقرهم الفكري والإخراجي، بصورة تسرق الأنظار، وفي الوقت نفسه تُعطل عقلية المشاهد عن فهم المضمون ومتابعته، حتى لا يلحظ العوار على غرار كثرة البهارات في "الحواوشي" لمداراة طعم اللحم الفاسد.
"يتعلموا ويقلدوا.. ده مش بعيد يتعقدوا".. من الساحرة الرائعة نيللي كريم، التي أثبتت أنها سيدة كل الأعمال والنوعيات، وليست ملكة "النكد" وتقطيع الشرايين مثلما قال البعض سواء من فرط إعجابه، أو فرط غله وغيرته من تلك الموهبة الفذة نادرة التكرار.
ربما كان مسلسل "ذات" بداية عصر جديد أو علامة فارقة في تاريخ نيللي الفني، لكني في حقيقة الأمر أرى نضجها الفني الرائع منذ فيلم "أنت عمري" مع خالد يوسف، و"واحد صفر" مع كاملة وجيه أبو ذكري، فضلًا عن اقتناعي بخفة ظلها وقدرتها على تقديم أعمال كوميدية ناجحة، منذ ظهورها الساحر في "سحر العيون" بشخصية "كابر" الذي كان مليئًا بالتلقائية التي تدخل القلب بلا استئذان، مع الجميل الراحل الجميل عامر منيب، ثم دورها خفيف الظل مع هاني رمزي في "غبي منه فيه". انتظرت بعدها محطة نيللي الكوميدية القادمة، وأنا واثق مما يردده البعض اليوم في دهشة عن موهبتها الرائعة أيضًا في الكوميديا، وأتابع بعض ردود الفعل التي يعتريها الغرابة، وأتساءل: هل اندهشوا لأن جرعة الأعمال التراجيدية والنفسية التي قدمتها نيللي بشكل أكبر، قد أنستهم قدرتها الكوميدية التي تدلل عليها أعمال قدمتها بالفعل في هذا اللون، أم أنهم لم يشاهدوا تلك الأعمال بشكلٍ كاف؟!
"اللي عنده ضحكة زي ديّة.. واللي لون عيونه مش عادية".. من جديد أتحدث عن نيللي السوبر ستار، التي خالفت المباراة التنافسية التي تخوضها باقي النجمات الأخريات في تبييض الأسنان على طريقة "هوليود سمايل"، بخلاف الشد والنفخ والتركيب وكأننا في "ورشة" سمكرة للرد على البارد، أو عيادة تجميل تهتم بالشكل لا المضمون، وليس بلاتوهات رأس مال النجم الحقيقي فيها هي قدرته على الأداء والتعبير التلقائي الذي يُذيب الحواجز بين الشاشة والجمهور، وليس الـ"أوفر أكتينج" الذي جعل البعض يعتقد أن البراعة التمثيلية هي القدرة على الصراخ والمبالغة دون أي مبرر درامي.
لم أجد في شخصيتيّ "سكر" و"عمر" التي تقدمها نيللي وآسر ياسين، بكيمياء رائعة وبراعة منقطعة النظير نفس ما وجدته في أعمال أخرى نُسبت زورًا وبهتانا للحقل الكوميدي، وغلب على كتابتها وإخراجها وتمثيلها الاستظراف والمبالغة، كمن يُلقي نكتة سمجة على الجمهور ثم يظل يضحك مؤكدًا أنها تُضحك بشدة لدرجة أنها أعجبته هو شخصيًا! فإذا بنا وسط كل هذا الكم من الهراء، أمام عمل يُقدم كوميديا الموقف البسيطة السلسة، دون افتعال أو مبالغة، ويحترم عقلية الجمهور، دون التعدي عليها وإهانتها كما جرى على يد بعض "المُضحكين أو المستظرفين الجُدد".
"اللي عدى عدى عدى".. فكتابة عمرو الدالي وأحمد وائل قدمت درسًا في الكتابة التي تستحق أن نُطلق عليها كتابة كوميدية بحق، وسط هذا الطوفان من الرخص والابتذال. ورغم صعوبة وحساسية مثل هذه النوعية من الكتابة التي يسير فيها القلم على شعرة واهية بين الضحك والاستظراف، فقد نجح الثنائي في تقديم حبكة ومواقف طازجة وليست استنساخًا ماسخًا من إفيهات وحكاوي السوشيال ميديا مثلما جرت العادة مؤخرًا في كل الأعمال الكوميدية، بخلاف التجديد والحيوية التي انعكست على رسم شخصيات باقي شخوص العمل، وعلاقتهم ببعضهم، ودوافعهم، بميزان من ذهب، وبعض اللاوزم التي جعلت العمل واقعيًا منطقيًا رغم كونه –في الأصل- عمل كوميدي..
شخصية "سُكر" البنت البسيطة المتواضعة المستوى، طريقة مضغها للعلكة أو "اللبانة"، ووضع أحمر الشفاه. علاقة "عمر" بوالدته، ونقمته الشديدة على والده، أول شخص نصب عليه في حياته! وباقي الشخصيات المرسومة بعناية وتوزيع دقيق أخرج لنا كوميديانات أخرين كانوا يحتاجون لهذه الفرصة، بخلاف مواهب أخرى كانت موجودة بالفعل، وأعيد تقديمهم بطريقة أفضل.
إسلام إبراهيم، علا رشدي، دنيا ماهر، حنان يوسف، وغيرهم من الفنانين الذين أضافوا للعمل بقدر ما استفادوا منه، برعاية سيناريو متماسك، ومخرجة واعية، ونجوم ثقال بوزن نيللي وآسر، وما يحظون به من جمهور كبير التقطت عينه وباقي حواسه تميز باقي أفراد فريق العمل، فتم تصعيدهم.
ولعل أروع ما استشعرته في هذا العمل، هو مدى البساطة والتلقائية الشديدة في ثنايا أحداثه، حتى أنه في الكثير من المشاهد أجد الكثير من الشخصيات وهي تتحدث في نفس الثانية وتقاطع بعضها بفوضى حوارية مدروسة تشبه الواقع، الذي تتزاحم فيه الألسن على الكلام والتسابق على الحديث أولًا، بلا هذا الترتيب الممل والمفتعل الذي يحدث في توزيع طريقة الكلام بين شخصيات الأفلام والمسلسلات. بجانب الأحاديث الجانبية أو الـ side talks بين بعض الشخصيات مثل أي "قعدة طبيعية" أو "ميتينج عشوائي" بين مجموعة من البشر.
حتى تتر المسلسل نفسه، غناء نيللي كريم وآسر ياسين والمدفعجية على طريقة المهرجانات، جاء بديعًا ومجنونًا على نفس مستوى الجرأة التي يقدمها العمل، حتى أنه اعتمد على نوعية غناء المهرجانات لكن بكلمات حلوة وواضحة، بعيدًا عن الابتذال المخل المعتاد عليه في مثل هذه النوعية من الغناء، واستكمالا لحالة فنية جميلة متكاملة الأركان، سادها تجديد وتجريب كان بمثابة رهان نجح باكتساح.
كلمات أخيرة:
- المسلسلات الرائعة لا تتأثر بما يقع عليها من ظلم في توقيت العرض وعدد القنوات، وأكبر دليل نجاح "100 وش" الطاغي، حتى وإن لم يعرض على "100 قناة".
- تحدث المخرج السينمائي الشهير هنري بركات في مذكراته عن موهبة الفنانة الراحلة فاتن حمامة وقدرتها التمثيلية التي جعلته يفكر فيها لبطولة أغلب أعماله، حتى أنه كلما قرأ رواية أدبية بديعة، تقفز إلى ذهنه تلقائيًا صورة فاتن حمامة، فتعاون معها في 12 فيلمًا سينمائيًا شكلت علامات فارقة بتاريخ السينما المصرية. وأرى في كاملة ونيللي ثنائي قادر على صنع أسطورة جديدة كتلك الأسطورة الجميلة.
اقرأ أيضا:
حوار نيللي كريم : الكوميديا ليست غريبة عني و "100 وش" يحمل بصمة كاملة أبو ذكري