في عام 2007 قدم الروماني كرستيان مونجيو فيلمه الأشهر "أربعة شهور ثلاثة أسابيع ويومين"، لينال سعفة كان الذهبية ويكون أحد الأفلام المؤسسة لما سمي بالموجة الرومانية الجديدة، بحكاية مقتصدة دراميًا كاشفة سياسيًا عن فتاة تقوم بإجراء عملية إجهاض غير شرعية في ظل الحكم الشيوعي لرومانيا. وفي 2020 تأتي المخرجة الأمريكية إليزا هيتمان بفيلمها "أبدًا نادرًا أحيانًا دائمًا Never Rarely Sometimes Always" الذي يمتلك حكاية مقاربة، لتنتزع جائزة لجنة التحكيم الخاصة (الدب الفضي) من مهرجان برلين، وتغلق قوسًا فتحته السينما الرومانية قبل 13 عامًا.
هناك الكثير من التشابهات التي يمكن لمسها بين الفيلمين، لكننا سنبدأ بالاختلافات التي تجعلنا نقول أن فيلم هيتمان امتداد فني وزمني يغلق القوس ويضع قضية الإجهاض في سياق كوني معاصر مُشبع، سنحتاج بعض السنوات حتى يتمكن صانع أفلام آخر من إضافة المزيد إليه.
رومانيا تشاوشيسكو كانت دولة شمولية، تقمع الحريات وتدخل في أدق التفاصيل الشخصية لمواطنيها، وأمان الجسد ـ أي جسد ـ وحريته كانت على المحك للجميع بلا استثناء، وبالتالي فقضية كحق الإجهاض يستحيل عمليًا مناقشتها بمعزل عن الحريات بشكل عام، حتى لو سلمنا بأن المرأة تعاني تاريخيًا من قمع مجتمعي إضافي يزيد عندما يمارسه ذكور مقموعين على النساء المحيطات بهم.
أما أمريكا 2020 فهي على النقيض، مجتمع مفتوح يكفل الحريات الشخصية ويحميها، لكنه حتى وفي ظل تقنين عمليات الإجهاض، ظلت أوتمن (الوجه الجديد سيدني فلانيجان في أداء مدهش) مضطرة لخوض رحلة بالغة القسوة للتخلص من جنينها.
"الفتاة" التي لا نعلم عنها الكثير
أوتمن طالبة في المدرسة العليا، عمرها 17 سنة، تعيش في بلدة صغيرة بولاية بنسلفانيا، يبدأ الفيلم بها تؤدي أغنية في عرض المواهب الخاص بمدرستها ليقوم أحد الطلبة بالتنمر ضدها صائحًا "عاهرة"، لترد له الصاع لاحقًا خلال السهرة قبل أن نتعرف بشكل مبسط على أمها الداعمة وزوج الأم العنيف. وفي نهاية الليلة نفهم ـ وإن كنا لا نتأكد ـ من وجود جنين في رحم الفتاة الشابة.
تتعمد هيتمان ألا تحوّل بطلتها لضحية، ألا تقدم تفاصيل قصتها بشكل معتاد وتخفي الكثير من المعلومات الرئيسية، والد الجنين مثلًا، لكنها في المقابل تؤسس لامتلاك أوتمن لكل التناقضات التي يمكن أن تمتلكها مراهقة في عمرها، فهي بالغة الضعف لا سيما في مجتمع ضيق مغلق كبلدتها، وفي الوقت نفسه لديها من القوة الداخلية ما يجعلها قادرة على الانتقام ممن أذاها، وعلى خوض رحلة نحو مدينة نيويورك من أجل الإجهاض، بعد أن تعلم أن الجراحة مستحيلة في ولايتها دون موافقة أولياء أمرها.
التغييب المتعمد للمعلومات مع إجادة صياغة المتاح منها يساهم في تحقيق الفيلم معادلة تبدو نظريًا مستحيلة، فأوتمن لا تطلب شفقة أحد بما في ذلك الجمهور، والمخرجة تستبعد عمدًا كل أدوات التماهي رافضة أن "يتوحد" المُشاهد مع بطلتها، لكنها في المقابل تنجح في جعل أوتمن هي "الفتاة" بمعنى الكلمة المطلق. ليست فتاة بعينها تتعرض لمحنة تسعى للخروج منها، لكنها تصير المعادل الموضوي لأي مراهقة تعيش عصرنا الحالي، بكل ما يحيط بها من عنف معلن وخفي، وهموم يصعب التخفف منها رغم كل ما يوفره العصر نظريًا من حريات.
الرفيقة والدرب والعالم المحيط
رحلة أوتمن لم تكن لتتم دون البطلة الثانية للفيلم، ابنة عمها وصديقتها الحقيقية الوحيدة سكايلر، والتي لا توفر فقط الغطاء المالي للرحلة عبر الدولارات التي تختلسها من المتجر الذي تعمل فيه، ولكن الأهم هو كونها الغطاء المعنوي لأوتمن التي كان على الصعب عليها ـ رغم ما تمتلكه من قوة ـ أن تخوض المغامرة وحدها، لا سيما بعدما تكتشف المراهقتان في نيويورك أن إنهاء حمل الفتاة المتأخر سيحتاج وقتًا أطول مما خططا له.
عبر الطريق إلى نيويورك والليلتين الإضافيتين اللتين تقضيهما الفتاتان دون أموال في مدينة هائلة لا ترحم الضعفاء، تقدم إليزا هيتمان لوحة بديعة للصداقة بين امرأتين شابتين. صداقة خالية من الميلودراما والبكائيات والمواجهات الكلاسيكية، علاقة بالغة الرهافة، الدعم يأتي فيها في صورة فهم متبادل دون حديث، لمسة يد تأتي في الوقت الصحيح، وقدرة على تغيير مسار النقاش عندما يصير الحديث عن الموضوع الرئيسي مؤلمًا.
"أبدًا نادرًا أحيانًا دائمًا" فيلم يخلو من الأحكام المطلقة على الشخصيات، لكنه متعاطف مع جميع نسائه بشكل واضح، متفهم لما تعانينه من ضغوط تدفعهن أحيانًا لارتكاب ما يراه الآخرون خاطئًا. وبالرغم من غياب الذكر الشرير العنيف الكلاسيكي الذي يحيل حياة النساء جحيمًا، إلا أن المخرجة الموهوبة تبرع في خلق شعور عام بالتوتر والتحفز في عالم يشكل كل رجل فيه خطرًا محتملًا إلى أن يثبت العكس، بل أحيانًا يظهر الخطر بعد أن يثبت هذا العكس.
وفي المشهد الذي استمد الفيلم عنوانه منه، ورغم أن جهلنا يستمر بحقيقة ما وقع لأوتمن، فإن إجاباتها على أسئلة الاستبيان السابقة للجراحة بأحد الخيارات الأربعة "أبدًا.. نادرًا.. أحيانًا.. دائمًا"، بل وسكوتها في مواجهة بعض الأسئلة، تفتح نافذة على ظلام عاشته هذه المراهقة ذات الوجه الطفولي الذي لا يوحي أبدًا بما رآه.
إلا إن أفضل ما في الفيلم، وتحديدًا في فصله الختامي، هو ما ينقله دون كلمات عن قدرة المرأة على تجاوز الصعاب، عن شعورنا بأن هذه الفتاة البسيطة التي خاضت مغامرة مؤلمة قادرة على تحطيم أعتى النفوس، ستتجاوز تلك الليالي الثلاث وتستكمل حياتها بصورة لو رأيناها لما توقعنا أن صاحبتها مرت بتجربة مماثلة. ستضع الخبرة في نفس المكان المظلم الذي أخفت فيه كل جروحها السابقة، وتستكمل حياتها كما يليق بامرأة شابة قوية أن تفعل.