أسطورة الضياع بين واكين فينيكس ومرضى الوسط الفني

تاريخ النشر: الثلاثاء، 28 يناير، 2020 | آخر تحديث:
واكين فينيكس

بعد فوز الفنان الأسطورة واكين فينيكس، بجائزة الجولدن جلوب كأفضل ممثل رئيسي في فيلم درامي "Joker"، صعد إلى المنصة ووضع الجائزة على الأرض، وألقى كلمته الصادمة التي كشف فيها عدم اهتمامه بالجوائز، مؤكدًا أنه لايرى أي منافسة حقيقية على تلك الجوائز، وأن كل هذه الجوائز ما هي إلا مجرد عرض تلفزيوني من أجل الحصول على أكبر عدد من الإعلانات، وجني المال للشركات الكبرى!

ثم واصل واكين صفع الجميع قائلًا: "كلنا نعلم أنه لا توجد منافسة بيننا، فهذا الأمر كله يتعلق بالحفل والإعلانات، وكأنه مسلسل تليفزيوني لا أكثر".

أثبتت كلماته الجريئة أن إبداعه في شخصية الجوكر، ورائه جوكر صغير يكمن في روحه وينبض تحت جلده. ربما تعرض لكل ما تعرض له الجوكر الكبير، من آلام، وصدمات وخذلان، لكن كل هذا القدر الهائل من المعاناة جعله رجلًا صريحًا، صادقًا، متصالح مع نفسه أكثر من تصالحه مع ما يجب أن يقال لإرضاء حفنة من المنافقين!

من المؤكد أنه اكتشف على مدار مشواره الفني حقيقة اللعبة القذرة.. لعبة أضواء مزيفة يتصارع الجميع على الوقوف تحتها في مسارح يجلس بها الموصوفون بالصفوة، في لحظات تفيض بالنفاق، والكذب، والحقد الدفين الذي تخفيه حلاتهم المبهرة، وفساتينهم الأنيقة، وكومة من المكياج الذي يُخفي عيوب الجسد، لكنه أبدًا لا يُجدي نفعًا مع أمراض النفس، ليرسمون ابتسامات مصطنعة من الأذن للأذن، أمام كاميرات يقف عليها مراسلون يسبون الجميع في جلساتهم الخاصة، ثم يتسابقون للتصوير معهم!

في سبيل الوصول لتلك اللحظات التي يصفها المخادعون بلحظات المجد، يخسر المرء مجده الحقيقي في الإيمان بنفسه، وموهبته، والقدرة على التعايش مع هذا العالم بشخصيته الحقيقية.. يتعلم كيف يصبح للنجاح والشهرة قوالب أخرى يترك على أعتابها ذاته الخفية، ويرتدي قوالب جاهزة تجعله لا ينال القبول وصك الاعتراف إلا وهو شخص أخر غير الذي كان، وحين يصل إلى حيث يطمح الملايين، يكتشف أنه ضل وتاه للأبد.

يكتشف أنه كان عليه مصادقة النقاد، والتقرب لرجال الصحافة والإعلام، وعدم الاصطدام بأرباب القنوات والبيزنس والسياسة، ومحاكاة البيئة الكاذبة والتلون بألوانها المختلفة، ليمثل على المجتمع في الواقع. بالطبع هناك حسابات أخرى من أجل الوصول والتحقق حتى في تلك البلاد التي نصفها بالمتحضرة.. فالأوساط الحقيرة تشترك دومًا في نفس السمات، بفارق اختلاف الجرعات والنسب!

هذه ماسورة مليئة بالعطن الروحي، وفيروسات النفس البشرية الأعتى من كل الفيروسات الأخرى الخطيرة التي تصيب الأجساد وتنشر الوباء.. والنتيجة؟! يخرج منها رجل مليء بالنقمة والإباء، ليثأر لنفسه بكلمات غاضبة مليئة بالحنق أمام العالمين في أكثر لحظات مجده وتألقه، رافضًا الاعتراف بهذا التكريم، إن كان ثمنه كل ما فقد من سلام نفسي وإحساس بالعدل والعدالة مثل واكين فينيكس.

أو يخرج منها رجل أخر يردد بكل جنون "أنا نمبر وان"، ويطلق على عمله "الأسطورة"، لتعويض ما أصاب جسده من رعشة وارتجاف في أكثر الليالي برودة، دون أن يزول أثرها من الروح رغم كل ما حقق من ثروة وشهرة ونجاح.. مسكين، أبدًا لن يشبع، ولن يشفي غليله أي انتقام أو صراخ.. لقد التبسته حالة لا شفاء منها، والسبب في ذلك كل من وقفوا أمامه، وصنعوا منه هذا المسخ الذي أصبح عليه، لذا ربما كان من العدل ألا يكف فرانشكشتاين عن إفزاعهم وإزعاجهم!

فللشهرة حسابات أخرى.. وللمجد المزيف ثمنًا باهظًا تدفع من أجله كل ما هو غالي، لتنال قطعة كريستال تم التلاعب بعقول مليارات البشر لإقناعهم بأنها قطعة ماسية خالدة، يصعب تكرارها في الكون، أما الذي لن يتكرر حقًا هو ما خسروه من أجل الوصول لتلك اللحظات الكاذبة، التي يكتشفون فيها حقيقة الكريستالة التقليد، لكنهم يصرخون بجنون ويصفقون بحرارة لحفظ ماء الوجه بإخفاء شعور بغيض أنهم قد خدعوا، حتى يظل الباب مفتوحًا على مصراعيه لاستقبال المزيد والمزيد من الحمقى الذين يأتون بعدهم!

قليلون من فعلوا مثل واكين فينيكس وكشفوا اللعبة مبكرًا وعلى الملأ، حتى وإن كان ثمن ذلك هو تضحية محتملة بجائزة رفيعة مثل الأوسكار، التي تُحب أكاديمية الفنون أن تمنحها لمن يُبجلها ويمدحها ويصيبه الجنون بعد الفوز بها.

فعلها قبله المخرج السويدي إنجمار برجمان، أحد أهم مخرجي السينما في العالم عبر التاريخ، حين قام بكتابة خطاب لرئيس الأكاديمية، عبَّر فيه عن رفضه لترشيح فيلمه Wild Strawberries للأوسكار عام ١٩٦٠ مؤكدًا في خطابه أنه يرفض فكرة الجوائز بشكل عام، ويعتبرها إهانة للعقل، وقال إنه لو كان بيده الأمر لرفض مشاركة أي من أفلامه في أي مهرجان سينمائي، وطلب من الأكاديمية أن تتجاهله، وتتجاهل أفلامه مستقبلا، ولا تقوم بترشيحه أو ترشيح أيًا من أعماله لأي جائزة، وهو ما لم تفعله الأكاديمية التي رشحته لاحقا لـ٩ جوائز أوسكار بجانب فوز ثلاثة من أفلامه بجائزة "أفضل فيلم أجنبي"، كما منحت الأكاديمية جائزة شرفية لبرجمان، ولكنه أصر على موقفه ورفض الحضور لاستلامها!
مارلون براندو، جورج سكوت، كاثرين هيبورن، جان لوك، وودي آلن.. كل هؤلاء تعالوا على جوائز الأوسكار، ورفضوا استلامها، لكن تعاليهم الحقيقي لم يكن على الجائزة، بل على الزيف، على التقسيم المريب الذي يخلق صراعات طاحنة تُهين قداسة الفن وعظمته، ويُصيب أهله بكومة من العقد والأمراض والآلام، التي تصرفهم عن الإبداع الحقيقي، ومواصلة المسير لتحقيق مشروعاتهم.

الأمر نفسه تكرر في جائزة نوبل، أحد أرفع الجوائز في التاريخ الإنساني المُعاصر، لاسيما في مجال الأدب، حين رفض الكاتب جورج برنارد شو استلام الجائزة عندما فاز بها عام 1925، وأرجع رفضه إلى عدم إيمانه بأهمية الجائزة، وسخر منها ومن مؤسسها، ثم عاد واستلمها في العام التالي، دون أن يقبض قيمتها المادية، ثم كرر الكاتب الفرنسي والفيلسوف جون بول سارتر الأمر بعد حوالي 40 عامًا، حين رفض الجائزة بسبب رفضه لتسلم جميع الجوائز الرسمية، وبرر رفضه الحصول على جائزة نوبل، بأنه يرى أنه لا يستحق أى شخص أن يُكرَّم وهو على قيد الحياة.

الجائزة الحقيقية هي أنت، هي إيمانك بما تفعل، هي رحلتك التي عليك أن تستمتع بها وأنت تسعى في مشروعك على الرغم مما بها من ألم ومعاناة.. لا تجعل بحثك عن الجوائز والتكريمات والأضواء، يُفقِدك ما لن تعوضه آلاف الجوائز، حين تصبح أنت شخصًا أخر لا تعرفه، ويستحيل أن تعثر عليه مرة أخرى.