عبد العظيم عبد الحق ... الجد الطيب

تاريخ النشر: الأحد، 29 ديسمبر، 2019 | آخر تحديث: الأحد، 29 ديسمبر، 2019
الفنان عبد العظيم عبد الحق

مشهد قصير لا يُنسى في "عندما يأتي المساء"، 1985، المأخوذ عن قصة قصيرة لنجيب محفوظ. العجائز أصدقاء العمر، عبد العظيم عبد الحق وبدر نوفل وإبراهيم الشامي، يحيطون برفيق سهراتهم اليومية ويواسونه عند وفاة حماته. الحزن المصنوع المفتعل يكسو الوجوه المليئة بالتجاعيد، وعندما يعلن فريد شوقي عن عمر الراحلة، التي تبلغ من العمر عتيا، يعلق الصيدلائي الصعيدي أنطون، بعفوية مرحة ذات نكهة ساخرة ساحرة:
- مسكينة.. اتخطفت!

تنفجر ضحكات من يرهقهم ادعاء الحزن، ولا يملك المشاهد بدوره إلا أن يستغرق في قهقهة هستيرية يمحو بها بعض الهموم التي تسكنه.

أحمل قدرا هائلا من مشاعر الحب والتقدير للأصدقاء الأربعة هؤلاء، يرحمهم الله جميعا، لكن عبد العظيم، أنطوان، أقربهم إلى قلبي. ليس لأنه من أبناء محافظة المنيا مثلي، وليس لأنه ملحن الأغنية التي أعشقها وأدمن الاستماع إليها بصوت محمد قنديل من كلمات العبقري عبد الفتاح مصطفى:"سحب رمشه ورد الباب"، وليس لأنه ممثل موهوب من طراز فريد لا يشبه أحدا؛ بل لهذه الأسباب جميعا.

..................

كان العظيم عبد العظيم في الثمانين من عمره وهو يتألق ويصنع البهجة عبر تجسيده لشخصية الصعيدي المسيحي المرح، المقبل على الحياة والمولع بمغازلة النساء، المسرف في الفكاهة كأنه في مقتبل الشباب. لهجته الصعيدية المحببة أصيلة لا أثر فيها للافتعال والتصنع، فهو ابن البيئة الصعيدية المحيط بخباياها، والأداء عفوي جذاب يقتحم القلوب. هذا ما نجده أيضا في "أرض النفاق"، 1968. رمضان بك أنيق رشيق متصابي بارع في الغزل، وما سلوكه هذا إلا التعبير الدقيق عن عالم النفاق والفساد الذي يستعرضه الفيلم. مع بداية وصلة من المديح الكاذب لمسعود، فؤاد المهندس، ينتهي مفعول حبة النفاق فيتغير المسار، ويصارح الرجل صاحب النفوذ بحقيقته المشينة. عندئذ يتفاعل عبد العظيم مع التحولات المباغتة بوجه بارع التعبير وصوت ينتقل من المرح والدعابة إلى الجدية والتجهم بلا عناء.

"أنطون" و"رمضان" عجوزان مختلفان في المكانة الاجتماعية وطبيعة الوسط الذي يتحركان فيه، ولا مشترك يجمعهما إلا المرح والتعلق بروح الشباب، أما الجد والأب في "ليلة عسل"، 1990، فيتسم بالكثير من العصبية في مواجهة جيلي الابن والحفيد، وهي عصبية مغلفة بالفكاهة وتتخللها الحكمة التي لا تُتاح إلا لمن يتقدم بهم العمر ويقفون على بوابة النهاية.

في الأفلام الثلاثة السابقة، يقدم عبد العظيم أداء احترافيا رفيع المستوى، في إطار المساحة المحدودة المتاح له أن يتحرك فيها، وهو ما نجده في أعمال أخرى تتباين فيها أدواره، وأبرزها :"السمان والخريف" و"السيد البلطي"، 1967، "الدرجة الثالثة"، 1988، "الأراجوز"، 1989؛ لكن الأمر يختلف عندما يجد الممثل القدير دورا يتوافق مع موهبته ووعيه وقدراته المتنوعة في التعبير.

...................

الشيخ عصفور في "يوميات نائب في الأرياف"، 1969، دور تاريخي ومن العلامات البارزة الراسخة في مسيرة عبد العظيم الإبداعية. يقدم الشخصية كأنها كُتبت له أو كُتبت من وحيه، وهيهات أن يغيب وجهه عن قراء رواية الحكيم مجددا بعد مشاهدة الفيلم.

نظرات عينيه العميقة الساخرة الفاضحة، وصوته الساحر المسكون بالوجع والشجن والحسرة في غناء المواويل:
"دور على النسوان
تعرف سبب الأحزان
ورمش عين الحبيبة
يفرش على فدان"

مفهوم السحر في صوته يتجاوز الشائع عن الجمال والقوة والعذوبة، ذلك أن البطولة للقدرة على التعبير.لا يغني هكذا إلا عالم بالموسيقى، لكن العلم وجمال الصوت لا يصنعان الإحساس المرهف الذي يتسرب تأثيره إلى كل من يسمع فيلوذ بالصمت ويهيم متأملا في فدادين الإحساس.

يؤمن المأمور، توفيق الدقن، بكرامات الشيخ، ويستعين به في العمل الأمني، ويراهن عليه للكشف عن خبايا الجرائم التي يحققها :"راجل مبروك وها يعرفلنا القاتل على طول"!.

في مواجهة تحفظ وكيل النيابة، أحمد عبد الحليم، يسعى المأمور إلى إقناعه بأهمية الشيخ الفنان المجذوب، مدللا على خطورته بنماذج من خدماته السابقة :"راجل مبروك قوي.. دا مرة دلنا على بندقية واحد متهم مدفونة في قاع الترعة"!.

هل يتحقق الأمن ويسود الأمان بالاعتماد على الدجل والشعوذة والكرامات الخارقة لأدعياء الولاية؟. المثير للدهشة أن إيمان المأمور بكرامات عصفور لا يحول دون الاعتداء عليه بالضرب في ساعات الغضب، ولا يمنعه من تحرير محضر تشرد لأنه، بحكم القانون، عاطل بلا عمل!.

يعي عبد العظيم عبد الحق طبيعة الشخصية كما يقدمها الحكيم في الرواية ويريدها توفيق صالح في الفيلم، ويحلق مستعينا بأدواته الخاصة التي تضيف أبعادا وأعماقا تثري وتغني. إنه فنان يحمل لقبا دينيا-اجتماعيا لا يتوافق مع سلوكه الغرائبي، والفن هواية تنفيسية في مجتمع مغلق متعنت بقدر ما هو منفلت كما يليق بالازدواجية المهيمنة على الجميع. يطير عبد العظيم بأسلوبه خارج السرب، ويتمرد على مسيرة القطيع، لكنه خاضع في نهاية الأمر لقواعد صارمة تحكم السرب والقطيع.

صوت الممثل الكبير علامة تمنح الفيلم خصوصية وطزاجة، كأنه الموسيقى التصويرية التي لا تُفرض من الخارج، بل إنها تنبع من تفاعلات الداخل. لا شك في هامشيته وتواضع مكانته، ولا شك أيضا في جاذبيته وحضوره الطاغي وعملقته التي تناطح المأمور ووكيل النيابة المثقف المهزوم المأزوم. يغيب قليلا فيتلفت المشاهد بحثا عنه، ومع ظهوره تسطع البهجة.

يحتاج خارقو الموهبة مثله إلى مخرجين يؤمنون بقدراته ويحسنون توظيفها، ومن هنا يتحقق إنجازه مع شادي عبد السلام في "المومياء"، 1969، ومصطفي العقاد في "الرسالة"، 1976.

لا غرابة في انتباه شادي عبد السلام إلى موهبته المتفردة، والاستعانة به في فيلمه غير المسبوق. مع المخرج الذي يسبق الزمان ويتجاوز المكان، يتوهج عبد العظيم ويتحول إلى عنصر أصيل في منظومة العمل الراقي الذي يبدو استثنائيا غريبا في تاريخ السينما المصرية، وقد يقول من يشاهدون الفيلم وتألق المشاركين فيه: طوبى للغرباء.

لا يشك المشاهدون لحظة أن عبد العظيم عبد الحق خارج لتوه من معبد مصري قديم، وصوته العميق العتيق لابد أن يكون أيضا موغلا في القدم. خطواته تشبه أجداده القدامى، وعصاته موروثة عنهم مثل ملابسه، والميراث الأهم في روحه التي لا تشبه أرواح المعاصرين.لصوته رنين مخيف منعش كأنه هابط من آلة الزمن، وانضباطه الحركي يسهم في صناعة لوحات متقنة الصنع بلا شائبة، فياله من ممثل.

أفكر كثيرا: كيف لصاحب الجسد الضئيل النحيل أن يظهر عملاقا على هذا النحو؟، وأصل إلى الإجابة المقنعة المشبعة: العملقة في دهاليز الروح وليست في الشكل الخارجي طولا وعرضا.

من يصلح لشخصية النجاشي في "الرسالة" غير عبد العظيم؟. لابد أن مصطفي العقاد يفكر ومن معه على هذا النحو، قبل أن يقع الاختيار على الممثل العملاق.
ملك من سلالة ملوك، ومسيحي مخلص يسكن المسيح داخله. طيب متسامح بقدر ما هو حازم حاسم قوي، وصوته آمر يستمد سلطته من هيبة لا تتطلب جهدا لإظهارها، وفي عينيه سحر يخضع له المحيطون به. يستمع إلى أفكار دعاة الدين الجديد في ثبات انفعالي يليق بالملوك، ويقدم دروسا لمن يسرفون في ردود الفعل الساذجة التي تطيح بالمصداقية.

قبل عام من رحيله، يقدم عبد العظيم آخر مشاهده السينمائية في "الإرهاب والكباب"، 1992. لا شيء يتغير في جوهره النقي الأصيل وهو على مشارف التسعين من عمره، ذلك أن الهواية مفتاح شخصيته، والبساطة العفوية التلقائية سر تفرده. ها هو راكب الأتوبيس يصرخ في كتلة السلبيين المحنطين النمطيين :"يا جبنا.. ياللي صوتكو ما يعلاش إلا في الفارغة.. خليكو في اللي انتو فيه.. ربوا العيال.. وروقوا نفسكو ليلة الخميس.. ويوم الجمعة اتوضوا وروحوا صلوا.. جتكم ستين نيلة".

نعم أيها الجد الطيب. إنهم يستحقون لعناتك، ويدفعون ثمنا فادحا للرضا بالقهر والهوان، والتمسك بحياة ماسخة يتوهمون أنها الشيء الوحيد المتاح بلا بديل.

--------------
نقلا عن "البوابة نيوز"