عبر أسبوع مليئ بالعروض والفعاليات قدمت الدورة الثانية لمنصة الشارقة للأفلام (14-21 ديسمبر) حالة من الزخم السينمائي الجيد والواعد، وذلك بعد أقل من عام من انطلاق دورتها الأولى في يناير 2019.
وحسب مؤسسة الشارقة للفنون وهي الجهة المنظمة للمنصة، فإن الموعد الأساسي للفعالية السينمائية قد تحدد في ديسمبر من كل عام، وأن الدورة الأولى التي أقيمت في يناير جاءت متأخرة عن موعدها الرئيسي لأسباب لوجيستية.
في دورتها الجديدة حاولت المنصة الوليدة أن تثب بخطوات واسعة تجاه التشكل في إطار احترافي وجاذب، متلافية عدد من مشكلات وسلبيات الدورة الأولى، حيث شهدت هذه الدورة دعوة مخرجي الأفلام المشاركة بعد أن كان أغلب صانعي الأفلام قد غابوا عن حضور الدورة الأولى، كذلك تم تقليص عدد أيام المصنة من تسع أيام إلى سبع أيام فقط، وهي مدة مناسبة لضمان كثافة الفعاليات وتقارب المدد الزمنية التي يقضيها صناع الأفلام خلال العروض.
كذلك شهدت هذه الدورة تقليص عدد الأفلام المشاركة إلى 50 فيلم فقط، وهو رقم معقول في سياق منح الأفلام مساحة تلقي جيدة، كما يسمح باختيار مستوى أكثر قوة ومتانة فنية لا يمنحه عدد أكبر من الأفلام خاصة، في ظل غياب مدير فني للمنصة واعتمادها على مجموعة العمل الشابة الخاصة بالمؤسسة، والتي لا شك بذلت جهدا كبيرا في الاختيار وبرمجة الأفلام، وإن ظلت الغلبة النوعية والعددية لصالح الأفلام التجريبية والتي تعتبر جزءا هاما بالنسبة لنشاط المؤسسة في مجال الفنون المعاصرة -أشهرها بالطبع بينالي الشارقة- ولكنها لا تمثل بالنسبة لشرائح واسعة من محبي السينما وهواتها نوعية جاذبة، رغم ما تحتاجه المنصة من المزيد من الأشعاع السينمائي المحفز والجاذب، لتثبت أقدامها وسط التظاهرات السينمائية العربية والمحلية، خاصة بعد ثبوت توقف مهرجان دبي السينمائي هذا العام، وتحول الشارقة إلى الإمارة الوحيدة التي تنظم حدثيين سينمائيين؛ هما مهرجان الشارقة لسينما الطفل ومنصة الشارقة للأفلام، وإذا اضفنا لهما معرض الشارقة الدولي للكتاب وبينالي الشارقة وأيام الشارقة المسرحية لوجدنا أن المارة الصغيرة الهائدة تحتكر بأريحية وعن استحقاق أكثر النشاطات الثقافية والفنية وجاهة في حاضر الإمارات العربية الحالي.
من الجبل إلى أطفال البحيرة
من أبرز السياقات الإيجابية التي تنجزها منصة الشاقة منذ دورتها الأولى هي منحة الإنتاج السنوية لمشروعات الأفلام الروائية القصيرة، وتعنى بمساعدة ودعم صناع هذه الأفلام من شباب المخرجين وتصل إلى 20 ألف دولار، وقد فاز هذا العام الفيلم الفليبيني "أطفال البحيرة" للمخرج ايمرسون رييس والفيلم الأمريكي ليلى، وأخيرا للمخرج جوليان الكسندر وقد عرض كلاهما في افتتاح المنصة بالإضافة إلى الفيلم السوري "من الجبل" للمخرج الشاب فيصل الأطرش، وهو فيلم روائي قصير يحكي مقطع هام من حياة المناضل السوري الشهير الأمير سلطان الأطرش.
في العام الماضي كانت المنحة من نصيب اثنان من صناع السينما الإماراتية، ولكن فيما يخص منح هذا العام فقد اتسعت لتشمل كل دول العالم، وهي مسألة تستحق المراجعة، لأن السينما المحلية والإقليمية العربية تحتاج إلى هذا النوع من المنح أكثر مما تحتاجه صناعة السينما في العالم رغم وجاهة الشكل، بل أن جزءا هاما من تموضع المنصة في أذهان وخطط صناع السينما العرب، هو انحيازها لهم على مستوى الدعم وعروض الأفلام الأإلى خاصة بعد الفراغ الهائل الذي خلفه توقف منحتي سند وإنجاز، اللتان كانتا أهم منح الإنتاج لصناع السينما العرب.
تجريبية ولكن
هذا العام كان من الواضح استمرار تعاطي المنصة مع السينما التجريبية بصورة واضحة، رغم الحضور الروائي والوثائقي المميز، وشهدت غالبية اللقاءات المخصصة للنقاش خلال أسبوع الدورة الثانية تركيزا على المواضيع العملية والمتعلقة بأساليب الإخراج والتطور التاريخي للسينما التجريبية، والدور الذي يمكن للسينما أن تلعبه في استدعاء الذاكرة وتمثيل الطبيعة، بحسب الكلمة المدرجة في مقدمة الكتالوج الخاص بالمنصة للشيخة حور القاسمي رئيس المؤسسة المنظمة.
ولكن في مقابل هذا التركيز الواضح على مفاهيم السينما التجريبية خلال اللقاءات أحرزت المنصة تقدما إيجابيا فيما يخص إدراج ما يعرف بالملتقى التشاركي بين صناع الأفلام، حيث تم خلال فعاليات الدورة الثانية إطلاق هذه الفعالية والتي تمنح فرصة للمخرجين الشباب للقاء المتخصصين ومناقشة المشاريع الجديدة، ومحاولة إيجاد شركاء إنتاج محتملين لهذه المشاريع، وقد حضر الملتقى التشاركي الأول كل من المخرج الإماراتي نواف الجناحي والمخرج والمنتج الإماراتي هاني الشيباني والمنتجة الأردنية رولا ناصر واللبنانية لينا متى مدير قنوات MBC 2 و4 وMAX، إلى جانب أسماء مثل الكاتبة والمخرجة ريتشي مهيتا والسيناريست فيدريكو بيها والمخرج والمنتج رامي ياسين.
يعتبر الملتقى التشاركي خطوة هامة في سبيل تأسيس حوالة الحوار العملي والتفاعلي الذي تحتاجه صناعة السينما العربية الشابة، خاصة فيما يتعلق بتبادل الخبرات أو المعلومات أو توفير نوافذ لخوض المشاريع المؤجلة والمستقبلية غمار التنفيذ والإنتاج.
إلى جانب الملتقى التشاركي فقد أقدمت المنصة على منح مساحة لبداية دروس السينما، التي أصبحت ضرورة فنية في كل المهرجانات والتظاهرات السينمائية التي تريد ترسيخ نفسها كحدث مؤثر في سياق الفعاليات السينمائية السنوية، وهو ما تم تحقيقه هذا العام تحت عنوان في دائرة الضوء، حيث استضافت المنصة المخرج السوري الكبير محمد ملص في درس سينمائي مختصر ومكثف أداره المخرج السوري الشاب نزار عنداري، الذي كان قد أنجز قبل شهر واحد عرض فيلمه فتح أبواب السينما- محمد ملص والذي عرض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي في دروته الـ 41.
كان هذا اللقاء هو أحد اهم وأبرز لقاءات المنصة كلها، لأن الحديث فيه انصب بالأساس على السينما دون غيرها من الفنون أو السياقات الإبداعية، مثلما كان الأمر في العديد من اللقاءات الأخرى بالمنصة، والتي كانت الفنون المعاصرة طرفا أساسيا فيها.
ولولا العجلة غير المفهومة والإصرار على ضغط الوقت وتكثيف الزمن الخاص باللقاء، لامتد حديث ملص الممتع والسينمائي جدا لعدة ساعات، وهو أمر غير مفهوم من إدارة المنصة التي تخلط في التعامل بين ممارسي الفنون المعاصرة وبين سينمائي كبير مثل ملص في درس سينما داخل تظاهرة سينمائية بالأساس، والأغرب أن تكثيف وضغط الوقت الخاص بلقاء ملص جاء لحساب افتتاح معرض فنون يابانية على هامش المنصة وبشكل غير مبرر أو مفهوم!
فهل يعقل أن يتم إنهاء لقاء مع سينمائي جاد وكبير في تظاهرة سينمائية بالأساس لصالح نشاط هامشي لا علاقة له بالسينما مثل افتتاح معرض!
هذا النوع من الخلط غير المفهوم لا شك أنه لو استمر في الدورات القادمة سوف يؤدي إلى تأخر وصول المنصة للمكانة التي تستحقها، كحدث سينمائي هام وإطلالة مرجوة يحتاجها الوسط المهرجاني العربي.
ولكن لا يعني وجود تداخل سلبي في بعض السياقات الخاصة بمعارض الفنون المعاصرة وفعاليات المنصة أن المسألة تخلو من أي ايجابيات بل على العكس، فمعارض الفنون المعاصرة أصبحت جزءا من الكثير من الفعاليات السينمائية ولكن أي معارض وأي فنون؟ هذا هو السؤال!
فعلي سبيل المثال، يبدو معرض الفنان اللبناني أكرم زعتري (في مقابل التصوير) -والذي افتتح قبل نحو ثلاثة شهور من المنصة واستمر خلالها- واحد من المعارض التي يمثل وجودها على هامش المنصة - ولو بشكل غير مباشر- هذا التكامل المطلوب لطرح سياقات تكميلية ومفاهيمية تخص العلاقة بين السينما وفلسفة الصورة في إطارها الأشمل، فمعرض زعتري هو نتاج تعاون ما بين مؤسسة الشارقة للفنون - منظمة المنصة- وبين المؤسسة العربية للصورة التي ساهم زعتري في تأسيسها عام 1997، حيث يركز المعرض على ما يسميه الفنان تشكيلات الصور إذ أن الصور الفوتوغرافية- التي هي جزء أساسي من تاريخ السينما- أثرا من حياة وأحداث الماضي.
وكما الفيلم "يمكن للصورة أن تثير ردود فعل متباينة سواء كانت محل عناية واهتمام أو ضحية أهمال وتلف، فعلى الرغم من أن التقاط الصورة يحدث في لحظة واحدة إلا أن طريقتنا في النظر إليها تختلف مع الزمن، فأحيانا ما تتبدل العناصر الجمالية في المادة نفسها نتيجة لاتصالها بالبيئة السياسية والاجتماعية والطبيعية" - من مقدمة حور القامسي عن معرض اكرم زعتري.
إن وجود معرض مثل "في مقابل التصوير" في نفس توقيت المنصة، لهو إشارة هامة جدا لصناعها والقائمين عليها لكيفية التعاطي ما بين تظاهرة سينمائية ومعرض من معارض الفنون المعاصرة، لأن التقائهم يشكل توسعا لمداركنا ونظرتنا للصورة والفيلم على حد سواء، كشكل من أشكال الفنون الحديثة أو كسجل واقعي وتاريخي يوثق العالم من حولنا.
خيال الوثائقي
على الرغم من الحضور الواسع لفئة الأفلام التجريبية، إلا أن تجليات الفيلم الوثائقي القصير والطويل تبدو أكثر بريقا وجاذبية خاصة مع كون الكثير منها مفعما بالمغامرة المحسوبة والنضج الملفت والصورة المؤثرة، من سوريا فاز الفيلم الوثائقي القصير "خيال" للمخرجة زينة قهوجي بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في فئة الوثائقي، الفيلم إنتاج 2017 وهي مسألة يجب التوقف أمامها بالانتباه من قبل القائمين على المنصة، لأن الأفلام التي تعود إلى سنوات سابقة تجاوزت العامين تضر بسمعة التظاهرة، خاصة إذا ما أراد أصحاب الأفلام المنتجة حديثا المشاركة في مسابقة المنصة.
"خيال" هو مشروع تخرج المخرجة الشابة التي درست في بلجيكا ثم عادت لدمشق لتبدأ مشوارها هناك، وانضج ما في "خيال" هو ذلك التفاعل ما بين الشكل والمضمون، فالمضمون الذي يتحدث عن ارتفاع حالات الطلاق بين المهاجرين واللاجئين السوريين في أوروبا - خاصة حالات تخلي النساء عن أزواجهن- حيث يطرح أسئلة كثيرة عن مفهوم الحرية وفهم الذات ومواجهة الواقع مقابل الموروث والمفروض والقائم.
أما الشكل فقد عمدت المخرجة إلى أسلوب الكادرات الثابتة المنفصلة المتصلة، لا يوجد حركة بصرية بالمعنى التقليدي ولا يوجد يضا ثبات، فعلى الرغم من أن اللقطات بلا حركة وأقرب للفوتوغرافيا، مما يعكس التأثير والحصار وثبات الخطوط الاجتماعية والموروثة، إلا أن المحتوى مفعم بالحركة والثورية والغليان، إن الهاربين من جحيم الحرب الأهلية والقمع السياسي يجدون في ابتعادهم عن الوطن فرصة للتحرر من قيود شلت أرواحهم ووضعت ذواتهم في أطر غير مقبولة نفسيا.
أهم سؤال يطرحه "خيال" هو: هل وصل التردي الروحي والنفسي والإنساني في المجتمعات القمعية والمشتعلة بالحرب داخليا وخارجيا إلى أن يتأثر ارتباط عاطفي مثل الزواج بالصورة التي تجعل أنه لولا الحرب والفرار ما تحرر هؤلاء الأزواج -النسوة منهم بالذات- من قيود رابط شعوري بلا حب أو تفاهم أو قبول للطرف الأخر؟
اختارت المخرجة الأبيض والأسود لتحييد أي تأثير أو تمايز بين الحكايات أو الأزواج، فاللون يمثل انحياز ما والغربة في بلاد باردة تكتسي بلون رمادي، خاصة مع كونها تفرز مشاعر غريبة لم تكن لترى النور أو تبزغ على سطح النفوس لولا الهروب واللجوء والابتعاد عن الأصول والجذور والتقاليد، ومن هنا جاء الأبيض والأسود إفرازا شكليا للمحتوى وليس حلية بصرية للفكرة.
وفي سياق متصل مع قضايا اللاجئين، ولكن من وجهة نظر المقيم وليس القادم، قدمت المخرجة الفرنسية من أصل مغاربي هند مديب فيلمها الوثائقي الطويل "باريس ستالينجراد"، والذي عرض ضمن برنامج العروض الخاصة قبل شهر واحد في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
سبق لمديب أن قدمت فيلمها الهام "ألكترو شعبي"، والذي عرض في دروة مهرجان الإسماعيلية عام 2014، واعتبر واحدا من أهم الأفلام التي سجلت الحالة الداخلية للفئات الشعبية المرتبطة بأغاني المهرجانات ضمن حراك 2011.
في فيلمها الأحدث قدمت مديب ضورة خشنة، عبر كاميرا محمولة ومخفية بين جنبات ذلك الرفض الإنساني لأوضاع اللاجئين الأفارقة في باريس، قبل شهور قليلة من انطلاق حركة السترات الصفراء.
عثرت مديب بالصدفة الفنية على ذلك التناقض بين اسم محطة المترو الباريسية التي تقع فيها هيئة إغاثة اللاجئين الفرسية وبين اسم المعركة الشهيرة التي وقعت على حدود أوروبا أبان الحرب العالمية الثانية، وشكلت نقطة تغير محورية في تاريخ القارة كلها ونقصد بها معركة ستالينجراد.
انطلقت المخرجة توثق بكاميراها الأحداث وليس في بالها رؤية محددة أو خطة للفيلم، فقط موقف إنساني نابع من رفضها الداخلي لما يحدث لهؤلاء اللاجئين من قبل المؤسسة الفرنسية التي بدلا من إغاثتهم تعمل على قتلهم معنويا عبر تفصيلات بيروقراطية، كل الهدف منها تفسيخ قضيتهم ودفعهم للجريمة أو مخالفة القانون من أجل ترحيلهم او اعتقالهم، بدلا من مساعدتهم بما يليق بكونهم بشر لفظتهم أوطانهم المحترقة بالعنصرية والحرب والكراهية.
إن من أهم علامات نضج التجارب الوثائقية هو أن يحتوي الفيلم على حالة اكتشاف مؤثرة وملفتة، وأن يشعر المتلقي أن المخرج ذاته ينقل له حالة الدهشة والتبصر التي انتابته أثناء تحقيق الفيلم.
يمكن القول أن "باريس ستالينجراد" يحتوي على تلك الطاقة الناضجة المفعمة بالحماس لاكتشاف الحكاية التي تتشكل عبر صفوف اللاجئين وخيامهم وأوضاعهم القاتمة في شوارع باريس، إنها معركة أوروبا القادمة أو ستالينجراد القرن الحادي والعشرين أو كما تقول المخرجة في تعليقها الصوتي: "بعد أن كانت الحرب على حدود القارة أصحت في داخلها، ولكن من هي الأطراف المتحاربة ولماذا؟ وإلى من سيكون النصر في النهاية؟".
تعثر المخرجة على شخصية سليمان الشاب السوداني القادم من كردفان، يحمل في داخله طاقات الشعر وخفوت لأسى لاضطراره الهرب من أسفل الجبل الجميل الذي يحن إليه، تمسك كاميرا مديب بأثر سليمان ولا تتركه، تفسح شريط الصوت لقصائده العامية التي تعكس جانبا من مآساته وتقوم على أنسنة الحالة السياسية المقبضة التي نراها في صورة مواجهات عنيفة مع الشرطة أو مطارادات بوليسية لهم، ومن باب سخرية القدر أو الواقع أن البلدية عندما تريد منع هؤلاء من الاعتصام أو التجمع في مخيمات بدائية في انتظار قرارات اللجان وكشوف الطلبات فإنها تغلق كل المساحات العامة لصالح حدائق ومتنزهات أطفال وشباب باريس، الذين يرتدون سترات صفراء أثناء اللعب في تلك المساحات، دون أن تدري الحكومة أو الدولة أن تلك السترات سوف تتحول بعد شهور قليلة إلى رمز ثوري ضد سياسيات الفساد الاقتصادي والمجتمعي في باريس نفسها.
وكعادة الوثائقي فإنه دوما ما يجذبه الهامشي والمهمل ويشده إلى البحث عما ورائه أو عما يمكن أن يفرزه من واقع فوق الواقع، وفي فيلمه "طرابلس يوم الأحد" يتابع المخرج اللبناني محمد مراد الشريط الملاصق لفرع النهر الخامل، حيث يقام سوق طرابلس لتجارة الخردة.
يلتقط المخرج بدون تعليق صوتي ذلك التماثل ما بين خردة الآلة وخردة البشر، يقترب من بائسي السوق وأصحاب الفرشات الذين يتحدثون عن حياتهم وتجارتهم وكأنهم نفوس تعرضت (للتكهين) أي صارت مثل الخردة التي تبيعها، حالتهم الاقتصادية والإنسانية تشي بعمق الأزمات التي يتعرض لها قاع المجتمع في لبنان، وهو صورة ربما يكون الحراك اللبناني الحالي مكملا لها على مستويات كثيرة.
يصور المخرج عبر الكاميرا الطائرة بزاوية عين الأله الشريط الممتد للسوق بجوار فرع النهر، ويعطي هذا التجاور تناقضا بين مصدر الحياة (الماء) ومنتهاها( الخردة) وتخلق الزاوية العلوية حالة تعالي أو هجران لهذا الواقع الصعب بكل مشتملاته.
الدنيا حفلة !
يبقى أن نشير إلى أن العديد من تجرب السينما الخليجية الروائية والوثائقية أصبحت في طور من النضج والانغماس النفسي والمجتمعي في بيئتها المحلية، بصورة تجعلها واحدة من السينمات العربية التي تتشكل سريعا باتجاه التواجد والرسوخ، على الرغم من قصر عمرها النسبي بالمقارنة بسينمات مصر أو سوريا أو المغرب العربي كله.
يمكن أن نتوقف أمام نموذج للسينما الخليجية في سياقات النقد الاجتماعي المرتبط بطبيعة الكيانات المحلية، وذلك عبر الفيلم (السعودي) "الدنيا حفلة" للمخرج رائد السماري، فعلى الرغم من عنوان الفيلم المصاب بقدر من البساطة اللغوية حد السذاجة - حيث أن إضافة نكرة إلى نكرة في الغة العربية يقلل من شأن المعنى ويضعف الإشارة الباطنية للمجاز أو التشبيه المحمول على عنق الكلمات- إلا أن المحتوى الفيلمي نفسه يتجاوز بسطاة العنوان ليطرح في سياق عبثي أكثر من قضية من قضايا هذه البيئة المغلقة والغامضة، التي لا يعرف الكثيرون عنها سوى ما كان يقفز من فوق أسوار القصور من شائعات.
في الفيلم تحاول دنيا - والقصد في التشابه بين عنوان الفيلم واسم البطلة واضحة- أن تنهض بمفردها بصحبة اثنتين من صديقاتها بتجهيزات حفل التخرج الخاص بها، وذلك بعد أن غادر خدم القصر بأكلمهم دفعة واحدة نتيجة سبب طارئ - لا يهم مدى واقعيته- لتبدأ دنيا بالهبوط طبقيا وإنسانيا إلى مستوى الخدم أثناء عملية التجهيز، وتبدأ مع هذا الهبوط مظاهر العبث الواضحة نتيجة سياقات المظهرية والتفاهة والسطحية والطبقية التي تصبح أبرز الأسئلة المطروحة.
يبدو اهتمام دنيا بصورتها أمام غريمتها عنود، حيث يظهر المخرج شخصيته في لطقات واسعة تجعل من المكان/القصر حالة أسطورية سواء في غرف الاستقبال أو مائدة الأكل أو حتى الحمامات التي يحتوي أحدها على عشر أحواض، كأنه حمام أوتيل او مكان عام وليس منزلا خاصا.
ويبدو عنفها الطبقي حتى تجاه صديقاتها الائي عرضن عليها بكل مودة وحب أن يساعدنها، حتى أنها تجبر إحداهن على ذبح خروف والتلطخ بالدم، وفي النهاية تتحول دنيا إلى كيان مهشم لا يهمها سوى أن عنود شاهدتها في موقف ضعف - رغم هشاشة الموقف كله وسطحيته- ولكنه بالنسبة لشخصية مثل دنيا تتسم بالحماقة الطبقية والتعالي والخواء، فإن هذا يعني نهاية العالم- عالمها الفخم الفارغ- حتى أنها تستيقظ في اليوم التالي وقد تشوهت من أثر اختلاط الأصباغ على وجهها بالدموع والسهر، ثم تجلس لتأكل صورتها من فوق كعكة الحفل التي تحمل وجهها، وذلك بشكل فوضوي مقزز غير أدمي، يجعلها كأنها لم تعد في نفس المكانة الإنسانية، ولكنها صارت كائن استهلاكي منفر لا هم له سوى التعاطي مع المظاهر ومليئ بالخواء الداخلي دون جدوي، خاصة في اللقطة التي تحمل فيها قطعة ضخمة من الكعك أكبر من قدرة الشخص العادي على التهامها.
اقرأ أيضا:
ليلى علوي من الجلسة الحوارية في "الشارقة الدولي للكتاب": السينما نقلت الأدب العربي إلى العالمية
"من السويد للإمارات".. فرقة طرباند تنثر عبق الموسيقى في الشارقة