FilFan.com
FilFan.com تاريخ النشر: الثلاثاء، 26 نوفمبر، 2019 | آخر تحديث: الثلاثاء، 26 نوفمبر، 2019
الفيلم الجزائري أبو ليلى

نقلا عن نشرة مهرجان القاهرة السينمائي 41

‬بعد‭ ‬تجربتين‭ ‬قصيريتين‭ ‬الأولى‭ ‬»غدا‭ ‬الجزائر»‭ ،‬والثانية‭ ‬»الجزيرة»،‭ ‬أين‭ ‬يستيقظ‭ ‬رجل‭ ‬على‭ ‬خليج‭ ‬صغير‭ ‬لحظة‭ ‬شروق‭ ‬الشمس،‭ ‬ماراً‭ ‬عبر‭ ‬مدينة‭ ‬الجزائر‭ ‬الموحشة،‭ ‬يقطع‭ ‬الأمتار‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬تفصله‭ ‬عن‭ ‬الحرية،‭ ‬يستيقظ‭ ‬أمين‭ ‬سيدي‭ ‬بومدين‭ ‬وهو‭ ‬كاتب‭ ‬سيناريو‭ ‬ومخرج‭ ‬سينمائي،‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬في‭ ‬الإخراج‭ ‬عام‭ ‬2005‭ ‬في‭ ‬»كونسرفتوار‭ ‬ليبر‭ ‬دو‭ ‬سينما‭ ‬فرانسيز»‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬وانتقل‭ ‬بومدين‭ ‬بعدها‭ ‬للعمل‭ ‬كمساعد‭ ‬مخرج‭ ‬في‭ ‬مشاريع‭ ‬عدة،‭ ‬ليجد‭ ‬نفسه‭ ‬تائها‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬رفقة‭ ‬شخوص‭ ‬فيلمه‭ ‬»أبو‭ ‬ليلى»،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يرسم‭ ‬طريقا‭ ‬فلسفيا‭ ‬يدفع‭ ‬مشاهد‭ ‬شريطه‭ ‬السينمائي‭ ‬ليعيش‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التخبط‭ ‬والهذيان‭ ‬اللذين‭ ‬يعيشهما‭ ‬بطل‭ ‬الفيلم‭ ‬»آس»‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬دوره‭ ‬بإقناع‭ ‬شديد‭ ‬الممثل‭ ‬سليمان‭ ‬بن‭ ‬واري‭ ‬ويرافقه‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬نحو‭ ‬المجهول‭ ‬صديقه‭ ‬»لطفي»‭ ‬رجل‭ ‬الشرطة‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬دوره‭ ‬الممثل‭ ‬إلياس‭ ‬سالم‭.‬

«أبو‭ ‬ليلى»‭ ‬يحيلك‭ ‬منذ‭ ‬الوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬جزائر‭ ‬بداية‭ ‬التسعينيات،‭ ‬وتفشي‭ ‬ظاهرة‭ ‬الإرهاب‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬النخبة‭ ‬من‭ ‬صحفيين‭ ‬ومحامين‭ ‬ومثقفين،‭ ‬ينطلق‭ ‬أمين‭ ‬سيدي‭ ‬بومدين‭ ‬من‭ ‬جريمة‭ ‬قتل‭ ‬أحد‭ ‬المحامين‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬إرهابي‭ ‬يدعى‭ ‬»أبو‭ ‬ليلى»،‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬يقرر‭ ‬الفرار‭ ‬بعيدا‭ ‬إلى‭ ‬الصحراء‭ ‬وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬أعين‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬الذين‭ ‬قام‭ ‬بقتل‭ ‬أحد‭ ‬أفرادهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العملية،‭ ‬وكان‭ ‬»آس»‭ ‬شاهدا‭ ‬على‭ ‬الجريمة‭ ‬ومنها‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬نفسية‭ ‬وأصبح‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬صراع‭ ‬نفسي‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والهذيان‭ ‬والانفعالات،‭ ‬التي‭ ‬تقوده‭ ‬لاحقا‭ ‬لارتكاب‭ ‬جرائم‭ ‬قتل‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬عائلة‭ ‬بأكملها‭ ‬لأنه‭ ‬خيل‭ ‬له‭ ‬أنها‭ ‬حيوانات‭.‬

يضعك‭ ‬أمين‭ ‬سيدي‭ ‬بومدين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬طرحه‭ ‬في‭ ‬جو‭ ‬عبثي‭ ‬وفضاء‭ ‬مفتوح،‭ ‬ولا‭ ‬يترك‭ ‬أدق‭ ‬التفاصيل‭ ‬رغم‭ ‬طول‭ ‬مدة‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬يتجاوز‭ ‬الساعتين‭ ‬وعشر‭ ‬دقائق،‭ ‬ربما‭ ‬يجد‭ ‬البعض‭ ‬الشريط‭ ‬السينمائي‭ ‬طويلا،‭ ‬ولكن‭ ‬للمخرج‭ ‬خياراته،‭ ‬ففي‭ ‬النهاية‭ ‬يثبت‭ ‬رؤيته‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬زماني‭ ‬ومكاني‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬الانتظار‭ ،‬فلا‭ ‬شيء‭ ‬يبدو‭ ‬لك‭ ‬واضحا،‭ ‬والاحتمالات‭ ‬دائما‭ ‬قائمة‭ ‬وكأننا‭ ‬أمام‭ ‬لعبة‭ ‬ومتاهة‭ ‬خيوطها‭ ‬غير‭ ‬واضحة،‭ ‬ويترك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬للنهاية،‭ ‬نهاية‭ ‬يعتقد‭ ‬المتلقي‭ ‬أنه‭ ‬وصل‭ ‬إليها خلال‭ ‬فترات‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬ولكن‭ ‬يعود‭ ‬بومدين‭ ‬ليتلاعب‭ ‬بالمشاهد‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬ويحيله‭ ‬لتيمة‭ ‬أخرى‭ ‬تتسم‭ ‬بالتيهان‭.‬

«أبو‭ ‬ليلى»‭ ‬طرح‭ ‬مغاير‭ ‬لظاهرة‭ ‬الإرهاب‭ ‬وآثارها‭ ‬النفسية‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة،‭ ‬فبلغة‭ ‬سينمائية‭ ‬بديعة‭ ‬يرسم‭ ‬أمين‭ ‬خيوط‭ ‬حكايته‭ ‬ويشد‭ ‬جمهوره‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ساعتين،‭ ‬يتركك‭ ‬تنتظر‭ ‬ويلعب‭ ‬على‭ ‬أعصابك،‭ ‬بأداء‭ ‬تمثيلي‭ ‬مقنع‭ ‬يستند‭ ‬على‭ ‬اشتغال‭ ‬داخلي‭ ‬للممثلين،‭ ‬خاصة‭ ‬بطلا‭ ‬الفيلم‭ ‬إلياس‭ ‬سالم‭ ‬وسليمان‭ ‬بن‭ ‬واري،‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬وظف‭ ‬تجربته‭ ‬المسرحية‭ ‬واشتغل‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬كثيرا‭ ‬ليظهر‭ ‬انفعالاته‭ ‬التي‭ ‬يرصدها‭ ‬المخرج‭ ‬جيدا،‭ ‬ويحسن‭ ‬استغلالها‭ ‬ضمن‭ ‬كادر‭ ‬الكاميرا،‭ ‬اضطراب‭ ‬الشخصية‭ ‬عند‭ ‬»آس»‭ ‬وتوجسه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وهذيانه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتوقف،‭ ‬عرف‭ ‬أمين‭ ‬سيدي‭ ‬بومدين‭ ‬ماذا‭ ‬يحتاج‭ ‬منه‭ ‬بالضبط،‭ ‬واختار‭ ‬بعناية‭ ‬فائقة‭ ‬شريكه‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬»لطفي»‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬دوره‭ ‬إلياس‭ ‬سالم،‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬يبرع‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬موقف‭ ‬سواء‭ ‬أمام‭ ‬الكاميرا‭ ‬أم‭ ‬خلفها،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬اعتاد‭ ‬على‭ ‬التمثيل‭ ‬والإخراج‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬التي‭ ‬يتفق‭ ‬الكل‭ ‬على‭ ‬جودتها،‭ ‬فإلياس‭ ‬سالم‭ ‬يشكل‭ ‬رفقة‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬السينمائيين‭ ‬انطلاقة‭ ‬بروح‭ ‬مغايرة‭ ‬للسينما‭ ‬الجزائرية‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الطرح‭ ‬أو‭ ‬القيمة‭ ‬الفنية‭ ‬للأعمال‭.‬

يشتغل‭ ‬أمين‭ ‬سيدي‭ ‬بومدين‭ ‬كثيرا‭ ‬على‭ ‬الغموض‭ ‬في‭ ‬عمله،‭ ‬لا‭ ‬يعطيك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بسهولة‭ ‬يبقيك‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬ترقب‭ ‬ماذا‭ ‬يحدث،‭ ‬يدفعك‭ ‬لبذل‭ ‬جهد‭ ‬فكري‭ ‬حتى‭ ‬تمسك‭ ‬خيوط‭ ‬الحكاية،‭ ‬فالأمر‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يعدو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سردا‭ ‬عاديا‭ ‬لأنه‭ ‬يعود‭ ‬دائما‭ ‬لنقطة‭ ‬البداية،‭ ‬وكأن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬البطل‭ ‬ولا‭ ‬أساس‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬يقودنا‭ ‬لمرافقة‭ ‬البطلين‭ ‬في‭ ‬رحلتهما‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الإرهابي‭ ‬»أبو‭ ‬ليلى»،‭ ‬وما‭ ‬حقيقة‭ ‬وجوده‭ ‬أصلا‭ ‬وفراره‭ ‬إلى‭ ‬الصحراء،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬طيفه‭ ‬من‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬»آس»؟‭ ‬أسئلة‭ ‬يتقاسمها‭ ‬المتلقي‭ ‬مع‭ ‬»لطفي»‭ ‬رجل‭ ‬الشرطة‭ ‬الذي‭ ‬يرافق‭ ‬صديقه‭ ‬والشك‭ ‬والخوف‭ ‬لا‭ ‬يفارقانه‭ ‬من‭ ‬»آس»‭ ‬المضطرب‭ ‬والباحث‭ ‬عن‭ ‬الثأر‭ ‬من‭ ‬الإرهابي،‭ ‬وهنا‭ ‬يثير‭ ‬المخرج‭ ‬مسألة‭ ‬مهمة‭ ‬وهي‭ ‬تبعات‭ ‬العشرية‭ ‬السوداء‭ ‬وآثارها‭ ‬المدمرة‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬المستهدف‭ ‬رقم‭ ‬واحد‭ ‬عند‭ ‬الإرهابيين‭.‬

يختلق‭ ‬المخرج‭ ‬حكايات‭ ‬هامشية‭ ‬لشخصيات‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬القصة‭ ‬الرئيسية،‭ ‬مثل‭ ‬الصحفية‭ ‬التي‭ ‬يرافقها‭ ‬شقيقان‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الصحراء،‭ ‬يعرفان‭ ‬طبيعة‭ ‬المنطقة،‭ ‬وتبحث‭ ‬عن‭ ‬توثيق‭ ‬أشياء‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬الشاسع‭ ‬ولكن‭ ‬الخوف‭ ‬يتسلل‭ ‬إليهم‭ ‬بمجرد‭ ‬سماعهم‭ ‬لأصوات‭ ‬غريبة‭ ‬ليقوموا‭ ‬بتتبع‭ ‬خطوات‭ ‬حيوان‭ ‬غريب،‭ ‬حيوان‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يطارده‭ ‬»آس»‭ ‬معتقدا‭ ‬بأنه‭ ‬الإرهابي‭ ‬»أبو‭ ‬ليلى»‭ ‬يؤدي‭ ‬دوره‭ ‬حسين‭ ‬بن‭ ‬مختار،‭ ‬ليرديه‭ ‬قتيلا‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬فيكتشف‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬فهدا‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬كهوف‭ ‬الصحراء،‭ ‬ولكن‭ ‬هذيانه‭ ‬صور‭ ‬له‭ ‬أنه‭ ‬ذئب‭ ‬بشري‭.‬

ارتكز‭ ‬الفيلم‭ ‬على‭ ‬مدير‭ ‬التصوير‭ ‬الياباني‭ ‬كانام‭ ‬أونوياما‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬صناعة‭ ‬تفاصيل‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬وأحسن‭ ‬تصويب‭ ‬كاميرته‭ ‬واستغل‭ ‬الفضاء‭ ‬الصحراوي‭ ‬بذكاء،‭ ‬موظفا‭ ‬الغرائبية‭ ‬بشكل‭ ‬بارع‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬تفاصيل‭ ‬الفيلم‭.‬

مما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬الجزائري‭ ‬الشاب‭ ‬أمين‭ ‬سيدي‭ ‬بومدين‭ ‬رسم‭ ‬طريقه‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السينما،‭ ‬منذ‭ ‬تجاربه‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الأفلام‭ ‬القصيرة،‭ ‬واستطاع‭ ‬أن‭ ‬ينتزع‭ ‬لنفسه‭ ‬رؤيا‭ ‬سينمائية‭ ‬جديدة ‬تستحق‭ ‬الوقوف‭ ‬عندها‭ ‬مطولا‭.‬