اقتربنا من نهاية العام، واقتربنا من ختام المهرجانات السينمائية العالمية والعربية والتي ستكون هذا الشهر مع مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، لعام ٢٠١٩، وفي لمحة سريعة، نستطيع ان نقول بكل ثقة أن السينما المغاربية للروائي الطويل استطاعت أن تكون في المقدمة مقارنة بأفلام من أقطار عربية متنوعة، مع غياب واضح للفيلم المصري، وصعود ملفت للسينما السودانية تحديدا مع فيلم ( ستموت في العشرين) للمخرج أمجد أبو العلاء، ومن بلاد الشام استطاع الفيلم الفلسطيني (ان شئتم كما في السماء) للمخرج إيليا سليمان أن يكون في الصدارة، ولفت الفيلم اللبناني ( ١٩٨٢) للمخرج وليد مونس الانتباه كونه التجربة الأولى له في الروائي الطويل، في المقابل لم يكن الحضور من منطقة الخليج العربي مؤثرا في الأشرطة السينمائية، لكن ثمة ترحيب بالسينما السعودية وان كان المنجز متواضعا، وهنا نتحدث عن فئة الأفلام الروائية الطويلة، اذا هي سنة سينمائية عنوانها المغرب العربي ومفاجأتها سودانية، الا أن نرى باقي الأفلام العربية في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي هذا الشهر.
فمهرجان الجونة السينمائي أصبح المنصة التي تستقطب الأفلام العربية في عرض أول أو عرض ثاني بالأكثر بعد عرضه في مهرجانات عالمية مثل برلين وكان، وهذا ما يعطي لمحة شاملة عن مستوى الأفلام العربية، التي كانت أفضل إصداراتها موقعة بنون النسوة، ومع أنني ضد التصنيف النسوي للأفلام، ووضعه في خانة سينما المرأة، لأن السينما هي سينما ولا يجب تأطيرها بعناوين أميل الى انها تجارية اكثر منها انصافا لدور المخرج سواء كان امرأة أم رجل، وهذا موضوع اخر، لكن المفارقة أن هذا العام بالفعل كان حضور مخرجات عربيات هو اللافت، تحديدا من صنعن أفلامًا من المغرب العربي الذي تاريخيا قدم نوعًا مختلفًا من الصناعة، والتمكن يحضر معهم دائما بكل عناصر الفيلم، نص، تمثيل، إدارة مخرج، ، لذلك تشعر وكأنك تشاهد فيلمًا أوربيًا من حيث الشكل، لكن القصة عربية جدا.
للحديث بشكل مفصل سيتم تناول الأفلام المغاربية الثلاث، آدم من المغرب للمخرجة مريم توزاني، وأحلام نورا للمخرجة هند بوجمعة من تونس، وبابيشا للمخرجة مونيا مدور من الجزائر.
آدم
أثناء مشاهدتك للفيلم المغربي آدم للمخرجة مريم توزاني، تشعر بأن الحكاية شخصية، وتم تجسيدها سينمائيًا، تدرك أن دور الطفلة وردة ليس عابرًا بقدر ما هو تعبير عن انعكاس براءة الأطفال وأنهم لا يكذبون، فوردة هي التي دفعت والدتها عبلة التي أدت دورها لبنى الزبال) لان تحمي سامية الحامل بطريقة غير شرعية( بناء على مسميات) المجتمع في منزلهم والتي أدت دورها ( نسرين الراضي)، الذي بات يحوي يتيمة وأرملة وحامل تنتظر وليدها كي تمنحه لعائلة تتبناه.
التورط العاطفي وبشكل أدق الإنساني الذي من الصعب الاعتراف به، عندما تكون البطلات نساء من مجتمع عربي، هذا التورط الإيجابي يبدأ حين تقرر توزاني أن تحشر المشاهدين مع تلك النماذج في بيت صغير يمتد الى مخبز يطل على الشارع، تعتاش منه عبلة التي لا تبتسم خوفا، أنت ستعيش تفاصيل حياة من الممكن ان تشبه حياتك أو حياة جارتك، تلك النماذج الحاضرة تريد ان تكسر جدار صمت يسيطر عليه نظرة المجتمع، والمفارقة الغريبة ان لحظة السعادة أو الفرح أو الابتسامة التي تراها على وجه عبلة يكون سببها سامية الحامل ليس بطفل بحسب بل بهم مواجهة مجتمع بأكمله، عبلة التي كانت تستمع لوردة ومن شدة حبها لها أسمت ابنتها عليها، هي المطربة التي كانت القادرة على ان تجعل خصرها يتمايل لحنًا وطربًا، والتي بات الغبار على الأشرطة وجهاز التسجيل واضحا مهما حاولت تنظيفه، تأتي سامية لتعلنها ثورة دون قصد، بمجرد أنه تشغل الشريط، هنا تبدأ الحكاية، والتغير الواضح فعلا في وجوه الممثلين، حتى بالماكياج، والعيون اللامعة التي باتت اكثر وضوحا، تحديدا لعبلة التي لم تعط مجالًا لان يدق قلبها مرة أخرى، بحضرة جار يريدها منذ زمن.
اذا أنت ستعيش هذه التفاصيل المصنوعة بحبكة وبناء درامي لا يمكن ان لا تعلن إعجابك به، حتى من شدة تفاصيله ستنسى وضع سامية الحامل، ستعتقد لوهلة ان كل شيء على ما يرام، لكن الحقيقة ان ما يحوم حول الحكاية هو بالفعل قضية سامية التي تصبح معضلتها الرئيسية في إرضاع ابنها الذي ولدته وأسمته آدم ام لا، وهنا التفصيل موجع لكن يعرف معنى الأمومة، أن تسمع صراخ ابنك ولا تريدين إرضاعه كي لا تتعلمين به وهي المدركة بأنها ستمنحه لعائلة غريبة، تفصيل اختصر كل الفيلم وأوضح رسالته، غريزة الأم تنتصر وتقوم سامية لإرضاع ابنها بمشهد سيظل حاضرا في ذاكرة السينما العربية، وبسبب هذا المشهد تحديدا تستحق بطلته نسرين الراضي جوائز عدة، الغريزة تنتصر صحيح لكن قوانين المجتمع هي التي انتصرت بالنهاية، وهذا هو الظلم.
كل شيء في الفيلم مصنوع بعناية، الإضاءة فيه جزءً من الحكاية، تشعر بكل مكوناته، وإدارة الممثلين مع الكادر تؤكد على تمكن مريم توزاني من أدواتها.
نورا تحلم
من تونس التي ركزت في السنتين الفائتتين على موضوع داعش في افلامها، مما جعلها تقع في باب التكرار، تعود هذا العام بقوة مع فيلم ( نورا تحلم) للمخرجة هند بو جمعة وبطولة هندي صبري ولطفي العبدلي، هذا النوع من الأفلام يرتكز على قوة الأداء اكثر منه على حبكة الفيلم وآلية ادارتها، وهو أيضا يستمد نفسه من نظرة مجتمعية، لامرأة ابتسامتها وسع السماء، وهي نورا زوجة رجل يقبع في السجن، وأم لأطفال، والعاملة في مصبغة، والعاشقة في نفس الوقت لرجل اخر.
غير مكترثة بمن حولها، بهيئتها التي تدل على مستوى اجتماعي له علاقة بحي شعبي، تمشي بكل ألقها بثقة الجميلات، هي بالفعل جميله، بمقاييس القوة التي تطغى على لون شعرها وهيئتها وطريقة مضغها للعلكة، كل هذا ضرورة لوصف الشخصية الرئيسية في الفيلم، والتي من خلالها سندخل في تفاصيل أخرى لها علاقة بمعنى التملك، السيطرة الذكورية، القوانين المجحفة بحق النساء، لنموذج يئس من علاقة تجمعه مع رجل لص يخرجه من السجن ليدخله مرة أخرى، تتوقع من القوة التي تستشعر بها من شخصية نورا انها ستنتصر، وستكون في حضن حبيبها التي يرافقها وهي تحاول الطلاق غيابيا، لكن خروج الزوج من السجن يقلب المعادلة، لتتحول تلك الواثقة الى شخص آخر، ويبدأ مع ضعفها التهاوي، في كل السلم الدرامي للحكاية، حتى ان النهاية غزيرة واضحة وتدخل ضمن النهايات المفتوحة التي تعطي المشاهدين فرصة لتكهنها.
هو فيلم جميل، مصنوع بطريقة جيدة، لكن قوته بأداء أبطاله.
بابيشا
هل يمكن أن تمتزج القسوة مع العذوبة، هل من الممكن ان نصف فيلمًا بالعذب بالرغم من قصته المؤلمة، هذا بالفعل ما يعكسه الفيلم الجزائري بابيشا للمخرجة مونيا مدور، وهو من الأفلام التي توصف بسينما المؤلف لان المخرجة هي الكاتبة، إضافة الى تعامل مدور مع الفيلم بنوع إدارة صعب وهو ملاحقة الشخصية الرئيسية التي لا تخرج من الكادر أبدا، وهذا النوع من الإدارة يجعلك تتيقن مدى التمكن في تشكيل الفيلم في صورته النهائية.
بابيشا مفردة محلية جزائرية تعني الجميلة، وهنا الجمال له علاقة ببطلة الفيلم نجمة التي أدت دورها الممثلة الشابة ديانا خضري وهي ليست وحدها بابيشا كل الفتيات في الفيلم هن كذلك، لان تجسيد معنى الجمال ليس مقتصرا فقط على الهيئة الخارجية، ثمة جمال من نوع آخر له علاقة بالحلم، بالشغف، بالتوق الى الحرية.
قصة فتيات في سكن جامعي، في فترة الثمانينات التي شهدت أصعب المراحل التي مر بها الجزائر حين سيطر الإخوان على شكل الحياة، لكن نجمة وصديقاتها الآتيات من مناطق مختلفة من البلاد لديهن طريقتهن الخاصة في الوقوف أمام هذا النوع من السيطرة، حتى لو كان عن طريق ارتداء ما هو ممنوع بشكل سري، المشاهد الأولى التي تبدأ بفرح وصخب وجمال تبدأ بالتراجع لمواجهة الواقع، حين تقتل شقيقة نجمة، فالقتل وقتها كان بالمجان، المشهد الذي قتلت فيه حين لم تلف نجمه وجهها لمواجهته واكتفت بسماعة هو الحبكة الرئيسية في الفيلم الذي ستبنى علية تفاصيل سير الحكاية، التي تبدأ من قرار نجمة التي تدرس تصميم الأزياء ان يكون مشروع تخرجها من القماش الذي كانت ترتديه شقيقتها لحظة موتها، وهذا القماش وطريقة ارتدائه حكاية أخرى، نصفه خشن ونصفه حرير، كانت ترتديه النساء اثناء مقاومة الاستعمار الفرنسي لتخبئة الأسلحة وإيصاله للثوار، هذا التفصيل موجع بكيف هذا القماش شهد بعد كل هذه السنوات من الاستقلال موت من نوع اخر لكن القاتل هذه المرة يتكلم الجزائرية.
اللهاث سيد الموقف في التحدي التي تخوضه نجمة، هي تدرك ان القوة الإسلامية طاغية حتى على قرارات مديرة الجامعة المتحررة، لكنها تصر، وتدعمها صديقاتها، وتبدأ بتحضير عرض الأزياء من ذلك القماش الذي تلطخ بالدم، تعتقد لوهلة انها نجحت، وهي الراعية لصديقات إحداهن معنفة من حبيبها والأخرة محجبة رغمًا عنها وحامل بطفل غير شرعي واخرى تريد ان تهاجر الى فرنسا، كل هؤلاء هن حكاية جزائرية خالصة، بطولاتها نساء وقعن واحدة تلو الأخرى أمام رشاشات ملتحية قضت على أحلامهن وفرقتهن اما موتا أو قهرًا أو خوفا أو هجرة.