"التليفزيون بيحرق الممثل"
تلك واحدة من أكثر الجمل المحفوظة التي كان يرددها أي ممثل يرفض العمل في الدراما التليفزيونية في فترة الثمانينات والتسعينات والسنوات الأولى من الألفية الجديدة، لكنها اختفت حين قدم نجم السينما الأول عادل إمام مسلسل "أحلام الفتي الطائر" ثم مسلسل "دموع في عيون وقحة"، حقق المسلسلين نجاح مستمر حتى الآن، رغم أنه تم عرضهما منذ قرابة الأربعين عام، ولم تتجاوز حلقات أي مسلسل منهما الـ14 حلقة. الأمر نفسه تكرر في تجربة الفنان الراحل محمود عبد العزيز ومسلسل "رأفت الهجان" بأجزاءه الثلاثة التي لا يمل المشاهدين متابعتها حتى الآن.
نجاح تجربة عادل إمام ومحمود عبد العزيز يستند إلى أن الفنان الحقيقي يحقق النجاح مهما كانت وسيلة وصول فنه للجمهور، سواء كان ذلك مجانًا عبر شاشة التليفزيون أو من خلال ذهاب الجمهور إلى السينما والمسرح لمشاهدة أعمال الفنان.
معايير النجومية تغيرت مع تطور وسائل الإعلام ودخول الإنترنت كوسيلة إعلام جديدة قدمت مواقع التواصل الاجتماعي بأشكالها المختلفة، كونها وسائل أكثر تأثيرًا وأسرع وأسهل انتشارًا، فأصبح لدينا نجم جديد كل أسبوع، ثم يأتي نجم أخر يزيحه ليتوهج قليلًا، أوكما يقول التعبير الغربي "يحصل على الخمسة عشر دقيقة الخاصة به من الشهرة"، وقليلون هم من حققوا النجاح الحقيقي ولم تحرقهم الأضواء، لأنهم امتلكوا الذكاء الكافي للتعامل مع ضغوط النجاح.
هناك من خدمتهم مواقع التواصل الاجتماعي في تحقيق الشهرة خلال السنوات الماضية، بعدما تحول عدد من مقدمي الفيديوهات الساخرة وعارضات الأزياء إلى ممثلين محترفين، ووصل بعضهم إلى خطوة الأدوار الأولى في المسلسلات التليفزيونية، كذلك نجد أن الراقصة الأرمينية صوفينار والمطرب الشعبي أحمد شيبة كان لهما نصيب في دعم مواقع التواصل الاجتماعي بعد لفت الأنظار من خلال أغنتين لفيلمين لم يحققا أي نجاح يذكر مقارنة بنجاح تلك الأغاني.
تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على صناعة الفن أصبح لا يستهان به، وذلك بعد أن أصبح لعدد المتابعين وحجم تفاعلهم مع منشورات الفنان تأثير على فرص حصوله على الأدوار في الأعمال الفنية، بل أن بعض شركات الإنتاج الفني تضع ضمن ميزانية تسويق الأعمال بند للترويج للهاشتاج الخاص بالعمل الفني لكي يتصدر قائمة الأكثر تداولًا، في محاولة لإقناع الجمهور بأهمية العمل وضرورة عدم تفويته، لكن مع مرور الوقت سيتراجع الاعتماد على ذلك المعيار، لأن الغالبية من الجمهور لن تتابع عمل حتى نهايته لمجرد أن البعض يتحدثون عنه، ولن تشاهد مسلسل أو فيلم لمجرد أن الممثلة التي يتابعها الشباب تشارك في بطولته، الأمر يحتاج إلى أكثر من فستان مثير أو صور من داخل الجيم لكي يضمن الفنان نجاحه.
كما يواجه عدد من الفنانين أزمة في التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة هؤلاء الذين يفضلوا إدارة الحسابات بأنفسهم للتواصل مع الجمهور، فتصيبهم حالة من عدم الإتزان عندما يمروا بلحظات النجاح غير متوقعة، فيبدأ الفنان في محاولة "عصر" ذلك النجاح والحصول على أكبر قدر من التفاعل من خلال المنشورات المتتالية، قد تفلح محاولات الفنان وقد تتحول إلى فخ يحقق له الشهرة للأسباب الخاطئة التي لا يرغب فيها، الأمر يعتمد دائمًا على ذكاء اختيار الصور والتعليقات، وتقبل النقد والأراء السلبية، ولا شك أن إدارة الفنان لموهبته خارج الاستوديوهات لا تقل أهمية عن إدارة المخرج لها داخل الاستوديو.
مؤخرًا حصل بعض الفنانين على شهرة لا ترتبط بموهبتهم بقدر ارتباطها بنمطيتهم، مثل أن يخرج الفنان في كل حواراته الإعلامية ليتحدث بطريقة غريبة وهو يرتدي أزياء غير مألوفة، ويتحدث بعفوية مصطنعة تخلطها الردود الصادمة، نموذج فعله عدد من الفنانين، لكن ذلك لم يضف إلى حجم موهبتهم الغير كافية لكي تلفت الأنظار.
أشهر تلك النماذج هي فيفي عبده التي تحولت إلى شخصية شهيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون ارتباط بما حققته في مشوارها الفني، لكن أهم نموذج للشخصيات النمطية هو المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم الذي صنع شهرته قبل وجود مواقع التواصل الاجتماعي بسنوات، من خلال شخصية مثيرة للجدل كان يظهر بها أمام وسائل الإعلام، حيث كان يحرص على ارتداء الأزياء الملفتة الغير متناسقة في الشكل والألوان مع تزيينها بالإكسسوارات الذهبية، إلى جانب الحديث بعفوية مخلوطة بسذاجة متعمدة في عدم فهم الأسئلة، لكي تخرج الإجابات بشكل طريف يلفت الأنظار.
شخصية شعبان عبد الرحيم المصطنعة لم تصمد كثيرًا وخفت بريقها، ورغم ابتعاده عن الأضواء، إلا أنه لم يخرج لكي يحدثنا عن عبقريته كممثل شارك هند صبري وصلاح عبد الله في بطولة أحد أفلام المخرج داوود عبد السيد أو كبطل مع سمير غانم في المسرح، كما لم يحدثنا عن قيمة نضاله ضد إسرائيل في أغنيته الشهيرة "أنا بكره إسرائيل"، لأنه لو فعل ذلك سيتحول إلى شخصية كوميدية تتناولها مواقع التواصل الاجتماعي لبضعة أيام وتحرق ما تبقى لها من أضواء، مثل من سبقوه إلى ذلك الفخ.
قبل عام من تعاون داوود عبد السيد مع شعبان عبد الرحيم في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي"، كان المخرج يتعامل في الاستوديو مع الفنان الراحل أحمد زكي بطل فيلمه "أرض الخوف"، والأخير رحل عن عالمنا في 2005، حين كانت مواقع التواصل الاجتماعي بعيدة عن الجمهور، لكنه بقى واحدًا من عباقرة التمثيل، لأنه كان يمتلك الذكاء الكافي لمعرفة قدر موهبته ومدى أهمية تقبل الجمهور له لكي يستمر، وهو أمر غائب عن عدد من الفنانين في الوقت الحالي.
أحمد زكي ليس الوحيد، هناك خالد صالح الذي رحل عن عمر 49 سنة، لكن بقت أدواره وجمله في الأفلام راسخة في ذاكرة المشاهدين، الأمر لا يحتاج إلى مواقع تواصل اجتماعي لكي يعترف الجمهور بعبقرية وموهبتهم، لأن الفنان ذو الموهبة الحقيقية لا يحتاج إلى ضجة مفتعلة لكي يثبت للجمهور حجم موهبته.
هناك خلط بين الفنان المثقف والمبدع، فليس كل محب للقراءة والإطلاع بأديب نوبل، وتقدير الإبداع مرتبط بما يقدمه الفنان وليس ما يمليه على الجمهور. أما أن يدعي أحدهم البطولة وجنون العظمة، فذلك لا يجعله فنان عبقري بل إنسان خفيف الظل يحاول لفت الأنظار، والسبيل الوحيد للتعامل مع حديثه بجدية هو منح جائزة الأوسكار لشعبان عبد الرحيم.
اقرأ أيضا:
مسلسل أم فيلم؟.. كيف سيظهر البابا شنودة على الشاشات؟