إبراهيم الشامي ... عمدة ممثلين الـ"الهيبة"
في تاريخ السينما المصرية، ممثلون أفذاذ يتسمون بالهيبة، دون نظر إلى طبيعة الأدوار التي يقدمونها، حسين رياض وزكي رستم وأحمد علام ومحمود مرسي على سبيل المثال. يفرضون الاحترام كأنهم الأب الذي لا يجوز التساهل في حضرته، وتحيطهم هالة هي مزيج من عصير القوة والحنان والقسوة.
في مواجهتهم، يتسلح المشاهد بالحب الذي يختلط بشيء يشبه الخوف، وما هو بالخوف، لكنها هيبة اللقاء مع الكبار أصحاب الحضور؛ وإلى هذا الفصيل ينتمي إبراهيم الشامي. شيء ما في تكوينه الجسدي وبريق عينيه ووقع صوته القوي الحاسم الواثق، يوحي بقوة الشخصية التي لا تعرف التساهل ولا تسمح بالتبسط والتجاوز عن الأعراف والتقاليد. الأمر لا يقترن بتجسيد شخصية عنيفة شرسة ذات نفوذ، ففي أدوار الشامي الشعبية الطيبة المتسامحة، يطل الملمح نفسه ولا يتوارى. السر لا يكمن في النشأة العسكرية للممثل الكبير فحسب، لكنه أيضا وثيق الصلة بطبيعة موهبته التي تتكىء على الانضباط الفني الصارم الذي يعادي الانفلات والتسيب الفوضوي.
..................
في "الزوجة الثانية"، 1967، ينتقم العمدة عثمان، صلاح منصور، من الفلاح المتمرد أبو العلا، شكري سرحان، ويتهمه بالسرقة، فضلا عن التلويح بجريمة قتل لم يتم التعرف بعد على مرتكبها. يصل المأمور إبراهيم الشامي ورجاله، ومنذ البدء لا يرى الفلاح متهما، بل إنه يبادر بإدانته وضربه ومطالبته بالإرشاد عن المسروقات!.لا تحقيق ولا حرص على العدالة واحترام القانون الذي يمنع الإدانة على هذا النحو.
يجلس المأمور على مائدة العمدة، ويلتهم الطعام كالأسد الجائع المتحفز في نهم وشراهة، لكن هذا الانهماك لا يحول دون قيامه بإملاء محضر تحقيق وهمي يدين الفلاح ويحاصره ويثبت التهمة ضده. في المحضر المصنوع بحرفية عالية، يسأل ويجيب ويستعين باسم الخفير حسان دون أن يتيح له فرصة الكلام. مثل هذا التحقيق المزيف المسجل في أوراق رسمية باسم القانون، قد يقود "أبو العلا" إلى سجن طويل، لكن المأمور لا يفكر في العدل ولا يبالي بآدمية الفلاحين ولا يميز بين التهام الطعام والتهام المتهم البريء.
تصل الكوميديا السوداء إلى ذروتها عندما يقول المأمور جادا، وهو منشغل بجدية مماثلة في مواصلة الأكل بشراهة، إن العمدة رجل طيب!، وطيبته هذه تفسد الفلاحين وتشجعهم على التمرد!.
لا يملك من يتأمل أداء إبراهيم الشامي إلا أن يجزم بأنه مأمور من سلالة مآمير، فهو مسلح بهيبة السلطة المستبدة الباطشة، زيا وصوتا وقدرة على إلحاق الأذى في سلاسة صادقة لا افتعال فيها أو شبهة تمثيل. يجمع في المشهد الواحد بين غطرسة القوة مع الفلاح الضعيف البائس ورقة النفاق مع العمدة، أما أسلوبه في تناول الطعام فيؤكد أنه يحترف المهنة في الريف المصري القديم، ويحتفظ بآليات التعامل الموروث.
مشهد قصير بالغ الأهمية في الكشف بلغة فنية رفيعة عن التحالف المدمر بين الشرطة والإقطاع في مواجهة الفلاحين العزل من كل سلاح للمقاومة. قد يبدو المأمور قويا ذا سلطان وهيبة، لكنه في حقيقة الأمر يعمل في خدمة الطبقة التي تطعمه دون اهتمام بتحقيق الأمن والبحث عن العدالة.
إبراهيم أيضا هو من يقوم بدور المأمور في "الأرض"، 1970. إذا كان يدافع في الفيلم الأول عن مصالح وأطماع العمدة الفرد في مواجهة فلاح واحد لا يريد أن يستسلم ويذعن، فإنه في الفيلم الثاني يتصدى للدفاع عن مصالح موضوعية عامة للباشوات والبكوات من كبار الملاك، الذين يواجهون تمردا جماعيا لا يقتصر على فرد بعينه.
لا يظهر المأمور على مسرح الأحداث إلا بعد فشل قوات "الهجانة" في السيطرة على القرية المتمردة، بل إنهم يندمجون، وهم الفقراء المسحوقون المضطهدون، مع كتلة فقراء الفلاحين الذين يكابدون الظلم والقهر. في نظرات إبراهيم الشامي لوصيفة ما ينم عن إعجاب يجعل من رغبته في أن تعمل عنده خادمة ذات مغزى جنسي، وفي نهاية الفيلم يكشف عن قسوته غير المحدودة وهو يربط محمد أبو سويلم، محمود المليجي، في حصانه، وينطلق لينفجر الدم ويروي الأرض العطشى. لقطة تعبر عن انتماء الفلاح للأرض وتشبثه بها، بقدر ما تجسد قسوة مؤسسة الشرطة وتفننها في قهر وإذلال الفلاحين.
..................
لعل فصاحة إبراهيم الشامي وتمكنه اللغوي، فضلا عن أدائه الصوتي الرصين المميز، هو ما يدفع حسن الإمام إلى الاستعانة به في "بين القصرين"، 1964. الشيخ الأزهري الذي يخطب بصحبة القس ويقودان مظاهرة وطنية تعبر عن قيم ومبادىء ثورة 1919، ويعود الإمام ليجعل منه داعية من دعاة الإخوان المسلمين في "السكرية" :"إن الناس حولنا يحبون الألمان كراهية في الإنجليز، والحكومة والملك متحالفين مع الإنجليز. إذا.. أين موقفنا نحن؟.. ضد الجميع. لأنهم جميعا أعداء الأمة الإسلامية.. وعلينا أن نعلن موقفنا هذا صراحة أمام إخواننا المسلمين في المساجد.. وعلينا أن نقاوم بشدة إجراءات القمع التي تتخذها الحكومة ضد المواطنين".
الخطاب السابق لا يعبر بدقة عن فكر جماعة الإخوان، ومفردات مثل "القمع" و"المواطنين" لا وجود لها في قاموس الجماعة خلال سنوات الأربعينيات من القرن العشرين. يبدو الشامي أقرب إلى الممثل الإذاعي الذي يعتمد على الصوت وبراعة الإلقاء، ولا متسع هنا للحديث عن إبداع سينمائي في ظل شخصية غائمة بلا أبعاد أو أعماق.
يختلف الأمر كثيرا في "يوميات نائب في الأرياف"،1969، ذلك أن الشيخ حسن عمارة، البقال القروي المُعتدى عليه في قضية هزلية، يدلي بشهادته أمام المحكمة التي يدير جلستها القاضي الموسوس، شفيق نور الدين. بقال فصيح ذو لغة سليمة متماسكة، لكنه لا يقنع بالكلمات وحدها ويستعين بلغة الجسد في رواية حكايته، مصحوبة بوقفات مباغتة وتلعثم يتجاوز الأداء الصوتي الذي لا يصنع مشهدا سينمائيا.
في "الدخيل"،1964، و"هروب"، 1970، و"عندما يأتي المساء"، 1985، و"عصفور بلا أنياب"، 1987، يقدم إبراهيم أدوارا قصيرة متقنة، لكن التميز والاختلاف نجده في "امرأة ورجل"، 1971، حيث يتخلى الممثل الكبير للمرة الأولى والأخيرة عن وقاره الراسخ الذي لايغادره. شيخ الخفر خميس منفلت منحرف يعرف الغزل الحسي العنيف، ولا يقاوم أنوثة وإغراء ناهد شريف!.
....................
"أيوب"، 1983، و"إعدام ميت"، 1986، و"كتيبة الإعدام"، 1990؛ هي الأفلام الأكثر شهرة في رحلة إبراهيم الشامى مع السينما. في أفلامه الثلاثة هذه يقدم شخصيات متباينة متفردة ذات خصوصية، مبرهنا على موهبة أصيلة تتجاوز النمطية ومايترتب عليها من ركود.
الأسطى محمود، صاحب المطبعة في "أيوب"، حرفي متواضع المكانة اجتماعيا واقتصاديا. لا متسع لمقارنته بعديله المليونير عبد الحميد السكري، عمر الشريف، لكن التعارض ليس قائما بين الفقر والاعتزاز بالكرامة. للرجل البسيط هيبة لا تخطئها العين في مواجهة أصحاب الملايين والنفوذ والمكانة الرفيعة، وأناقته لافتة في إطار إمكاناته المادية المحدودة. موافقته على طباعة كتاب عبد الحميد، بكل ما فيه من فضائح خطيرة، تنم عن شجاعة يدفع ثمنها فادحا بإحراق المطبعة التي لا يملك إلاها مصدرا للرزق. يرفض المساعدة المالية التي يقدمها عديله، ويرى فيها ما يخدش كرامته وكبرياءه:
"- دول عشرين ألف جنيه عشان توضب بيهم المطبعة.
- فلوس؟.. أستغفرالله العظيم.. لهو انت عايزني أقبل العوض يا عبد الحميد بيه؟".
الهيبة في أداء الشامي هنا لا شأن لها بالوظيفة، لكنها تنبع من القدرة على الإقناع بالتماسك والحضور القوي. يضفي على شخصية محمود بصمته التي لا تخفى، وهوما يتكرر في "إعدام ميت"، حيث الشيخ السيناوي مساعد الطوبي، قاتل ابنه الجاسوس منتصرا للوطن :"بإيدي أطهرك من الخيانة يا ولدي".
وجه إبراهيم الشامي، قبل عملية الطعن وبعدها، يترجم الانفعالات المركبة المعقدة التي تعتمل في أعماقه، حيث الصراع المحتدم بين الحب والواجب، أما الصوت الذي يمتلىء بالحزن والحسرة، فإنه الأداة التي يصل بها التعبير عن الأزمة النفسية إلى ذروته.
ممثل قدير يتقن التحكم في انفعالاته بلا إسراف مصنوع يشوه جلال اللحظة، وهو في "كتيبة الإعدام" يتألق في تقديم شخصية سيد الغريب، بطل المقاومة الشعبية في السويس، عند الحصار الإسرائيلي للمدينة في حرب أكتوبر 1973. بطل وطني شعبي من آحاد الناس، لا يفاخر ولا يثرثر بالكلمات الإنشائية الجوفاء، لكنه يعتمد الفعل ويقاوم، ويموت شهيد الغدر والخيانة. يغيب بالموت ويبقى حاضرا في أحداث الفيلم، وفي قلوب المشاهدين.
.....................
إبراهيم الشامي ذو مذاق مختلف في تاريخ السينما المصرية، وواحد من عشرات الموهوبين الجادين الذين لا يحظون بالشهرة الواسعة التي تصنعها مساحات الأدوار وضجيج الدعاية، لكنه جدير عند محبيه بالتقدير والاحترام. يرونه عظيم الحضور مهيبا، مشهودا له عندهم بالإتقان والأداء الاحترافي رفيع المستوى.
... وهل يطمع الفنان الحقيقي المحترم إلى غير ذلك من أوسمة ونياشين؟.
--------------
نقلا عن "البوابة نيوز"