يُراقب "آرثر فليك" لقاء عشوائيا مع أحدهم في برنامج "موري" الشهير، يأخذ في دراسة حركات دَخلَة الضيف، حتى يحفظها عن ظهر قلب، وبما أنه سيكون ضيفا في نفس البرنامج لاحقا، فإنه يتدرب منذ الآن على أن يحظى بدَخلة موفقة، حتى وإن كانت لا تشبهه بالكامل، حتى وإن كانت منقولة عن غيره ومطبوعة على هيئته بخاصية النسخ واللصق!
ينتهي "آرثر" من حفظ دَخلَته، وينفذها بنجاح، وبعدها يجلس على الأريكة، ثم يبدأ إذا في التحضير للطريقة التي سيتحدث بها مع "موراي"، يحاول مرارا وتكرارا نطق الكلمات التي يعنيها صحيحة، والجمل التي يقصدها متوازنة، لكن أعصابه تخونه، وتأزُمه يغلبه، فلا يخرج منه إلا حديثًا هشًا، ابتسامة مرتعشة، ودقات قلب مسموعة. هو مازال يسعى لينال تقدير الناس، يَفنِي نفسه ليحظى بإعجابهم، وهذا بالضبط ما يُحفِز خوفه، ويُوقِظ مواضع نفسه المُمَزعة، التي طالما طالها الأذى منهم، ورغم ذلك مازالت تتوق لتوطيد أواصر العلاقة معهم!
فيلم Joker... تحفة سينمائية أم حكاية مرتبكة وغير محبوكة!
على العكس نراه في أوج ثقته بنفسه، عندما يذهب إلى اللقاء بالفعل، فهو الآن متحررًا، لا يقيده انتظار انطباع ما من أحدهم، لم يعد يُعنيه أحد، هو سيد الكل، متوهجًا، واثق الخطى يمشي ملكًا، متواريًا خلف الستار، مُتأهبًا بجسده ليرقص رقصته الأثيرة، لنفسه وأمام نفسه، يَدلف إلى المسرح بجسد متناغم، وروح طليقة، يُقدم دخلة مغايرة تماما غير تلك التي سبق واجتهد في تحضيرها، دَخلَة تلائمه أكثر، وتعبر عنه بشدة وكأنها مكتوبة بإسمه.
هو الآن متكاملا بنقصه، عادلا بظلمه، حرا بأسر نفسه له!
نفس المعنى يتكرر ثانية عند مقارنة حالة "آرثر" وهو يصعد سلم الحي الذي يقطنه، منهكا، بينما يبدو السلم بعيد المنال، لا نهائي الدرجات، وبين حالته قبيل نهاية الفيلم وهو يتهاوى من فوق نفس الدرج، بجسد صاخب ومتسق الحركات، وكأنه قد عثر أخيرا على إيقاعه الساحر الخاص.
تعرف على سينمات فيلم Joker في مصر
يقول "تشانك بولانيك" في رائعته الروائية "نادي القتال": "الخلاص يكمن في الوصول إلى الحضيض، فعندما تفقد كل شئ تصير حرا لتفعل أي شيء، عليك تحطيم كل شىء لكي تكون شخص أفضل"، وقد فعلها "الجوكر"، ولم يبقي على أي شيء ليخسره، فببساطة حينها فقط استطاع ملاقاة نفسه، والشعور بوجودها حية حقيقية.
الطريق إلى الخلاص
عندما تعرف مسبقا أن فيلم Joker سيُقدِم لشخصية "الجوكر"، أي سيُفند لك الأسباب التي تفسر وجود شخصية مثل "الجوكر" في هذا العالم. فعليك التخمين بأنه في موضع حرج، فالملابسات التي بصدد تناولها لابد وأن تبدو مقنعة، وخصوصا وأن "آرثر" الذي سيستيقظ في داخله غول "الجوكر" شاب طيب، مفرط الحساسية، ورغم أن مثل هذه التحولات لا تصيب إلا هؤلاء ذوي القلوب الهشة، إلا أن الجنوح إلى الضفة النقيضة لازال يتطلب مزيد من الضغوط الحقة.
ولكن مخرج وكاتب الفيلم "تود فيليبس" كان واعيا لتلك النقطة، فأحال بينها وبين سيناريو الفيلم، ولم يجعلها تنل منه، بل عمل بكد لكي تكون هي بذاتها موضع قوته. "فيليبس" بَنى تدرج الظروف التي خلقت "الجوكر" بحذق، ونجح في تجسيدها كمرحلة انتقالية مؤثرة وصادقة، تبدأ بعرض تلك الصراعات التي يخوضها "آرثر" يوميا مع عالم البشر من حوله، سواء في المعاملات اللئيمة التي يلقاها من زملائه في العمل، أو من جائعي الشارع التواقون لاسترداد كرامتهم المهدرة بيد الحكومة عن طريق فرض فتوتهم على المستضعفين أمثال "آرثر". إنها حرب نفسية ضارية يصبح فيها طرفا رغما عنه، تبدو هينة مقدورا عليها، لكنها بالتراكم ترسب في قاع روحه نهم الوحش.
ولكن بمفارقة ما يتطور شكل الضغط، ويأخذ منحى أعنف، عندما تتجمع عدة ملابسات بالصدفة لتخلق أزمة شديدة الاحتقان.
يُطرد "آرثر" من عمله نتيجة تلفيق خبيث من صاحبه، تمنع الحكومة تمويل الجلسات النفسية التي كانت الحل النصف جيد لاستقرار حالة "آرثر" العقلية، أما الطامة الكبرى تكمن في اكتشافه لحقيقة مرض أمه العقلي، والذي كان سببًا في سوء معاملته منذ الطفولة وجعله عرضة للحالة النفسعقلية التي أضحى عليها الآن. ربما كانت مثل هذه الظروف هي ما يقصده "بولانيك" بتوصيف "الحضيض"، ذلك الحضيض الذي لا يقبل بأقل من الموت أو الولادة، فإما أن يموت أمامه رجل طيب، أو يستيقظ من بين ضلوعه المسخ المنتظر.
نغمة حالمة للتَحَطم
يتحدى "بات مان/بروس واين" "الجوكر" في فيلم dark knight 2008، حينما يخبره متيقنا "أريدك أن تعلم أن ثمة أناس في هذه المدينة (غوثام) مازالت تؤمن بالخير"، فيجيبه "الجوكر" حينها وبدون تفكير" نعم، سيظلوا يفعلون ذلك، ولكن حتى تتحطم أرواحهم تماما"، إنه تقريبا يتحدث عن نفسه، عن قصة تهشم روحه، والتي قد نكون تخيلناها حينها وشعورا من العنف يرافقها جنبا إلى جنب مع شعور القهر، ولكن المخرج "تود فيليبس" حينما اختار أن يجسدها في عامنا هذا في فيلم Joker آثر أن ينفي عنها صفة العنف، حتى وإن لم يستطع أن يبدل من القهر شيئا. فنرى مثلا "آرثر" في أحلك لحظات انتشاؤه بالعنف، يجنح إلى الرقص، سواء برقة توحي بالتحليق كما شاهدناه يفعل بعد ممارسته القتل لأول مرة في المترو، أو برعونة وصخب كما فعلها في المشهد التالي لقتله صديقه اللئيم وقبل أن يذهب ليقتل مجددا في برنامج يذاع على الهواء مباشرة.
عذرا واكين فينيكس... لدينا علاء مرسي "الجوكر المصري"
فكرة ربط تحطم روحه بالرقص، تعود مجددا لتأكيد ملازمة هذا التحطم للتحرر بشكل ما، كما أنها قد أضفت على قصة تهاوي "آرثر" وتحوله لغول مُتعطش للإنتقام نعومة تليق بالرقة التي عهدناها فيه منذ أول مشهد في السيناريو، أنت لم تستغربه بعدما أصبح قاتلا، ولم تشعر بالخوف منه ولو بمثقال ذرة حينما قرر أن يقتل مجددا وبدم بارد، وإنما تبدو متوحدا معه، تستمع إلى موسيقاه الداخلية حتى وإن تغيرت موجاتها.
تضافر مع كل هذا، تلك القدرة المذهلة التي يمتلكها "واكين فينيكس" مُتحكِما في أدائه، ومُجسدِا ببراعة لذلك التحول الناعم لـ"آرثر"، مشاهد كُثر اختلطت فيها نظرة تَوَعُده بدموع حسرته وبقايا نقاؤه، ومشاهد أكثر امتزجت فيها نفضة ثورته بإرتعاشة وجعه وغربته، كان طفلا ببساطة حينما يقتضي الأداء، واستطاع أيضا أن يكون غولا كسيرا لايزال يملك طفلا يطل من قلبه وعينه، هكذا بدى في مشهد استضافته البديع مع "موري"، ومشهد تَزَعُمه لحركة الفوضى في الشارع، إضافة إلى مشهد الختام، وغيرها من المشاهد الأخرى.
صورة ذكية
قدم المخرج "تود فيليبس" عدة لفتات بصرية ذكية، قد لا يسعك تمييزها بوضوح لكنها ساهمت حتما في تهيئة الأجواء المقبضة التي اتسم بها الفيلم، وسللها إلى روحك بإمتياز.
فنرى تلك اللقطات القريبة من حركة ساقي "آرثر" حينما كانت تسأله طبيبته عن يومياته، إضافة إلى التركيز البصري على حركات يديه، وهو يعافر في تكتيف الواحدة منهما بالأخرى، تلك الربكة الجسدية الظاهرية، كانت توحي بحالة "آرثر" الداخلية المتدهورة أكثر مما تبدو بمراحل.
مشهد آخر ساهم "فيليبس" بصريا في تكثيف وقعه المخيف، وهو المشهد الذي قتل فيه "آرثر" الثلاث شبان، حيث مهد قبلها عن ما سيقع من فاجعة، حينما كانت إضاءة لمبات المترو تنقطع لفترات محسوبة، فيظلم المكان تماما، بينما نرى الشباب وقد تغيرت أماكن تواجدهم فجأة، في الوقت الذي كانوا يلتفون فيه حول "آرثر" استعدادا لضربه بدناءة، وهم يدندنون. هذا إلى جانب زن الصفير المزعج الذي اعتلى شريط الصوت بعدما أخذ يطلق أكثر من رصاصة على أحد منهم وقد حاول الهرب، في دلالة واضحة طبعا على ما أصابه من تشوش بعدما استفاق وأدرك أنه قام بقتل ثلاثة أشخاص.
اقرأ أيضا:
5 حقائق ربما لا تعرفها عن واكين فينيكس بطل Joker.. لا يلتقط سيلفي مع المعجبين لهذا السبب
فيلم Joker.. الأسد الذهبي يعيد النظر لأفلام الكوميكس