عبد السلام محمد ... فنان ينوب عن ملايين المصريين

تاريخ النشر: الأربعاء، 9 أكتوبر، 2019 | آخر تحديث:
عبد السلام محمد

بجسده الضئيل النحيل، ووجهه المصري القح، وعينيه الزائغتين الحائرتين؛ ينوب الفنان القدير عبد السلام محمد عن ملايين المصريين، القدامى منهم والمعاصرين. هو مثلهم متعب مريض، يتعرض معهم للسلب الشرس المنظم منذ آلاف السنين، ومثلهم يقاوم بالفعل ما استطاع إلى ذلك سبيلا، أو بالحيلة والسخرية والصبر عندما تضيق الدنيا وتتجهم.

العاديون الفقراء البسطاء من أبناء الوادي لا يصعدون إلى المناصب العليا، وعبد السلام محمد لا تُسند إليه أدوار البطولة، ولا يطل اسمه في صدارة الأفيشات.يقنع بالقليل الذي لا يليق بحجم موهبته، ويغادر الدنيا في هدوء يتوافق مع حياة وديعة تخلو من الضجيج.

فلاح بلا اسم في "يوميات نائب في الأرياف"، 1969، يواجه اتهاما من النيابة بسرقة "كوز ذرة"!. لا ينكر التهمة بقدر ما يبررها :"من جوعي".

كأنما يريد المساعد الشاب لوكيل النيابة أن يفحمه عندما يطالبه بالعمل بدلا من السرقة، وتأتي إجابة الفلاح المعدم فاضحة للنظام كله، فهو يرحب بالعمل ولا يجده.

مثل هذا الفلاح المسكون بالأمراض والمقهور بالفقر والجوع، يجد في السجن مكانا أفضل. ألا يعني طعاما مجانيا مضمونا؟.

مشهد قصير غني بالدلالات ويعري جوهر النظام الذي يصنع الفقر ويضطهد الفقراء، ويأبى أيضا إلا أن يحملّهم مسئولية الخلل الاجتماعي الذي يدفعون وحدهم ثمنه.

الطعام المجاني في السجون لا يعني أنها البديل الآمن، فهي خاضعة بدورها للقوانين الطبقية التي تحكم الحياة المصرية، حيث السلطة والسيادة للسجناء الأغنياء الأقوياء، والإذلال والقمع من نصيب الفقراء الضعفاء.

في "ليل وقضبان"،1973، يقدم عبد السلام دورا قصيرا متميزا، فهو السجين الذي يعيش في ظل القاتل المحترف الجبار، أحمد أباظة، ويحظى بحمايته في عالم لا متسع فيه للرحمة. يدفع الثمن من شرفه متخليا عن رجولته، وعلى من يدينونه ويسخرون منه أن يتسلحوا بقدر من الإنصاف: هل يملك بديلا؟. شذوذه الاضطراري لا ينفي إنسانيته، وليس أدل على ذلك من عينيه اللتين يتابع بهما المآسي ويقدم شهادة عن الذعر والقهر ولعنة الخضوع .

الحياة خارج السجن، في القرية والمدينة معا، كابوس يتعذب فيه الفقراء، ولا فارق هنا بين نظام سياسي وآخر. في المهن الشاقة عذابات تجلب العلل والأمراض، وعند السقوط في الهاوية ، تفضي الطرق جميعا إلى الموت. في "الفرن"،1984، تتجلى حقيقة إن شيئا جوهريا لا يتغير في الواقع المصري. الحصول على عمل لا يمثل ضمانة للاستقرار المادي والمعنوي، ولا يعني الوصول إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة الإنسانية السوية.
عبد السلام ذو الجسد المهيأ للأمراض الفتاكة، عامل في فرن يملكه ويديره طاغية بلا قلب، عادل أدهم، والحوار بينهما يسبقه سعال عنيف ينبىء بالمرض المترتب بالضرورة على الظروف القاسية المصاحبة للمهنة :
"- الربو تاعبني قوي يا معلم.. عايز أروح للدكتور.
- طب ما تروح.
- يلزمني قرشين سلفة وابقى اخصمهم من يوميتي.
- أنا فاتح فرن ولا بنك تسليف؟.. يا جدع انت مش بتاخد يوميتك على داير المليم؟.. طب ليه بقى.. ليه بقى العين الوحشة دي".

الفارق الشاسع بين عادل أدهم وعبد السلام محمد لا يقتصر على التكوين الجسدي وحده، بل إنه في جوهره يمتد إلى الهوية الطبقية أيضا. ليس مثل الفنان الموهوب هزيل الجسد في تجسيد الصراع غير المتكافىء، لكنه لا يعتمد على البنية الضعيفة الهشة وحدها، ويقول بعينيه الحزينتين الذابلتين المليئتين بالوجع أضعاف أضعاف ما ينطق به اللسان.

يتحقق عبد السلام ويتوهج في تعبيره العفوي الصادق عن أصحاب المهن الهامشية الصغيرة المتواضعة كما نجد في "ضربة شمس"، 1980، و"الغول"، 1983، و"المتمرد"، 1987، و"سمارة الأمير"، 1992، وما يشبه ذلك من الشخصيات المهمشة المنتمية إلى القاع الطبقي في المجتمع المصري. لا شيء عند هؤلاء إلا الفقر والقهر، ولا أحلام تداعبهم إلا الاستمرار في الحياة؛ مجرد البقاء.

مثل المصريين الذين ينوب عنهم، قد يرتقي عبد السلام قليلا في المهن التي يجسدها فيكون موظفا، لكنه لا يتجاوز عالم صغار الموظفين كما هو الحال في "الوزير جاي"، 1986. صابر أفندي أيوب، وللاسم رمزيته الفجة المباشرة غير المبررة، واحد من بؤساء الموظفين المتقاعدين أصحاب المعاشات الهزيلة، وفي رحلة سعيه لاستعادة حق ضائع في دهاليز البيروقراطية العتيقة، يتشكل جانب مهم من أحداث الفيلم الحافل بالسخرية اللاذعة من أمراض شتى متداخلة متشابكة متكاملة: النفاق والروتين والتفنن في تعقيد الحياة وتعكير صفوها.

تتسع مساحة الدور نسبيا فتظهر موهبة الممثل المتمكن، ويموت في بساطة وهدوء بعد الاقتراب من الوقوف على بوابة تحقيق الحلم الصغير وزيادة جنيهات قليلة تُضاف إلى معاشه الهزيل.

"النُص"، النشال البارع المرح صديق طالب الثأر والانتقام جابر في "دائرة الانتقام"، 1976، أهم الأدوار السينمائية في مسيرة عبد السلام محمد. كم هو مقنع صادق التعبير عن شخصية اللص الشعبي الظريف الطيب الشهم، الجدير بالحب والثقة دون ضغينة أو كراهية. يتوافق الرجل "الكادح" في سلاسة ورضا مع مهنته التي ينفر منها الأخلاقيون الشرفاء، وكم في هؤلاء من أوغاد يحترفون السرقات الثقيلة ويخفون حقيقتهم خلف أقنعة المناصب الرفيعة البراقة والثياب الأنيقة والوجاهة الاجتماعية المزيفة.

لا يخفي "النُص" مهنته ولا يخجل منها، ومن فرط براعة عبد السلام وصدقه وعفويته، يندفع المشاهد المحايد إلى الإعجاب الذي لا متسع فيه للنفور والإدانة الأخلاقية الزاعقة. البطولة في شخصيته للشهامة والوفاء و"الجدعنة"، وعلاقته مع جابر نموذج للصداقة المثالية كما ينبغي أن تكون، أما حياته الزوجية مع امرأة تفوقه طولا وعرضا، وتتمتع بأنوثة طاغية وجمال مثير لافت، فإنها تثير الابتسام لما فيها من مفارقة، ويتحول الأمر إلى قهقهة حافلة بالبهجة والنشوة مع كلمات "النُص" وهو يصفها متفاصحا بأنها " يُنبوع حنان"!.

وجهه مبتسم دائما تعبيرا عن الرضا، وحبه لصديق السجن، المظلوم مثله، يخلو من الشوائب والعكارات. وعيه الطبقي لا ينتسب إلى عالم المثقفين النظريين المتحذلقين، ذلك أنه وليد التجارب والخبرات والصراع الذي لا يتوقف في غابة الحياة. لا يملك المشاهد إلا أن يحب "النُص" ويتفهم دوافع احترافه للمهنة "غير الشريفة"، تماما مثل تعاطفه مع الفلاح البائس مدقع الفقر الذي يسرق "كوز الذرة" لأنه لا يجد ما يأكله.

في "الحرام"، 1965، يتفوق عبد السلام في تقديم شخصية دميان، المجذوب الساذج الذي لايخلو من الخبث والدهاء، وبه تكتمل اللوحة الشاملة المقدمة عن واقع الحياة القروية المصرية قبل ثورة يوليو 1952. دور محدود المشاهد، وأسلوب تقديم هذا النمط من الشخصيات في السينما المصرية يعتمد على المبالغة والإسراف في الأداء الكاريكاتوري، لكن عبد السلام محمد يبدو تلقائيا لا تطرف فيه، كأنه يبرهن عمليا على أن هؤلاء ليسوا إلا جزءا من نسيج الحياة اليومية المصرية.

في "العملاق"، 1985، يتحول الاضطراب النفسي العقلي إلى مرض عضوي خطير يشل الجسد ويحول دون القدرة على الكلام والحركة. الشيخ المريض الفقير يحظى برعاية فائقة من زوجة ابنه وحفيدته، بعد سجن ابنه الوحيد، ويعيش معهما كأنه الميت الحي. في دور كهذا، يظهر معدن الممثل وتُختبر قدراته الحقيقية. يعبر عن حالته غير التقليدية بنظرات العينين المجهدتين وارتعاشة الشفتين وتقلصات الوجه المحطم بضربات السنين ومعاول الفقر المزمن. بأدواته هذه، يفرض عبد السلام حضوره وسطوته، وما الاحتياج إلى الكلام عند من يمتلك موهبة التعبير بالصمت؟.

قرب نهاية الرحلة مع الحياة والسينما معا، يبدع الفنان الكبير في مشهد لا يُنسى في "حنفي الأبهه"، 1990. المواجهة الصدامية مع الابن، عادل إمام، تصل إلى ذروة التوتر العنيف الذي ينبىء باقتراب الاعتداء على الشيخ المريض العجوز، المتشبث بالحفاظ على الشرف ومبادىء الأمانة والرزق الحلال. لا شيء يتسلح به في المعركة المتوقعة غير المتكافئة، على صعيد القوة الجسدية، إلا نظرات العينين، يعبر بها عن مزيج من الدهشة والاستنكار والاستغاثة والحسرة والوجع. ينتصر ويتراجع الشيطان الذي يسكن الابن المأزوم، فكيف يتمكن الممثل العملاق من تحويل الضعف والوهن إلى شجاعة استثنائية؟ في الإجابة يكمن سر عبد السلام محمد، الذي لا تفيد السينما المصرية من موهبته إلا قليلا.

قبل عامين من وصوله إلى عامه الستين، يغادر عبد السلام في هدوء وبساطة. عندئذ يتذكر عشاق المسرح القدامى أدواره البديعة في الستينيات، ومن ينسى "الفرافير" و"سكة السلامة"؟، أما المحصول السينمائي فيبدو محدودا على الصعيدين الكمي والكيفي.

عبد السلام "واحد من الناس"، ولعل عنوان كتاب الدكتور سيد عويس، عالم الاجتماع الكبير، خير تعبيرعن حالته ورسالته :"هتاف الصامتين".

رحم الله صامتا عظيما، يقول لنا أضعاف أضعاف ما يثرثر به البلغاء المزيفون.

--------------
نقلا عن "البوابة نيوز"

اقرأ أيضا للكاتب

إبراهيم قدري ... فيلسوف فيلم "الحريف"