بين الأدب والسينما
إذا كان الفارق بين روايات الأدب وأفلام السينما، هي قدرة الأولى، على استعمال لغة الكلمات لوصف شعورية الشخصيات والتوغل في أعماقها، فأن للثانية، لغةً أيضاً، لكنها لغة تستغني عن الحروف بالبصريات، عن الكلمات التي تقال على الألسن، بالنظرات التي تقولها العيون. وإذا تفاوتت قدرة الأفلام على خلق هذه الحالة البصرية فلا شك، أن أمجد أبو العلاء قد نجح في حكي تلك اللغة، في فيلمه "ستموت في العشرين"، بشكل يجعله أشبه بالرواية السينمائية.
ربما الحالة الروائية ترجع إلى كون الفيلم مقتبس عن قصة قصيرة لحمور زيادة، عن ذلك الشاب، "مزمل"، الذي تم لعنه منذ طفولته، بسبب نبوءة تنبأت بموته عند بلوغه سن العشرين، ليعيش طوال حياته وهو بانتظار الموت، ومن حوله يذكرونه بذلك كل يوم.
إرث العادات وجرأة في الطرح
في أحد لقطات الفيلم، نرى مزمل وهو يسير في زقاق ضيق، وهو يسير بين حائطين، يكادا يعصراه، فيلامسهما كأنه يحاول النجاة، في لقطة تذكرنا، بونيس، بطل فيلم المومياء لشادي عبد السلام، والحقيقة أن التشابه ليس مجرد تحية لفيلم عبد السلام، بل أنه يتشابه مع أيضاً في الدلالة الدرامية للقطة، فونيس، فور اكتشافه لحقيقة عمل أهله في سرقة الآثار وحجتهم في ذلك إنها عادتهم وعادات آبائهم وجدودهم، يشعر أنه ينسحق بهذا الضغط من حوله.
مزمل مثله مثل ونيس، محمل ومنسحق، بعبء عادات أهله وعشيرته، فاعتقادهم وإيمانهم الغير المشكوك في قول عرافهم، جعل من حياة مزمل كابوساً، الأطفال يتنمرون عليه ويدعونه بابن الموت، وحتى الكبار لم يعتقوه ومنهم أمه التي تجهز لكفنه، الكل لعنه ماعدا اثنين، حبيبته، ومرشده، "سليمان"، ذلك الغريب السكير الذي هجر القرية، وتجول بين البلاد، وصار هو الآخر ملعوناً لدى قريته، بسبب اختلافه عنهم.
لكن الفارق بين سليمان ومزمل أن سليمان أذنب بالفعل، فقد سافر وعاش حياته، بكل ما بها من متعه وتصوير وأفلام ونساء أما مزمل فهو مذنب بذنب لم يقترفه، ذنب الموت وبناء عليه، فقد عاش حياته كله يغفر لهذه الذنب عن طريق تجنب الذنوب والمعاصي، أي تجنب الحياة فكما قال سليمان فأن حياة مزمل صفحة بيضاء ازداد بياضاً.
سليمان يمثل المعلم والمرشد لمزمل، وهو بكل حق مرشد غير تقليدي عما نراه عادة في الأفلام، فهو لا يعظه ولا يلقي عليه الحكم، بل يريه الأفلام والبلاد التي زارها، ويحثه على اقتفاء أثر شهوته والاستسلام للغواية، فاذا كان لابد له أن يحاسب على ذنب، فليحاسب إذا على ذنب اقترفه، لا على ذنب لم يقترفه.
يجب الإشادة هنا بجرأة أبو العلاء في هذا الطرح، فبدلاً من أن يلجأ الابتدال العاطفي لجذب التعاطف، وهو ما كان يمكن بسهولة أن يفعله، ليس فقط بسبب فكرة الفيلم بل وسبب ومحيطه المليء بشخصيات مهمشة وفقيرة، لكن أبو العلاء اختار الابتعاد عن كل ذلك، وأن يكون طرحاً جريئاً ومغايراً وسينمائياً أيضاً.
لغة سينمائية ناضجة
والسينمائية هنا، تتمثل في اختزال اظهار العواطف، والاكتفاء بالنظرات ولغة الجسد لإيصال الحالة المرادة، فمثلا، نحن هنا لدينا زوج يعود لزوجته وابنه بعد غياب سنين، لكن الفيلم لا يتماهى في إظهار مشاعر الزوجة والابن نحو الرجل، بل يكتفي بنظرة من هنا، أو كلمة من هناك، أو بأن يجلس الأب على صدر أبيه وهو نائم، ونراه يكرر نفس الحركة مع سليمان، لإيصال فكرة أن سليمان هو بالفعل أب لمزمل، في حركة بسيطة لكن شديد الحسية والصدق.
الفيلم ملئ بمثل هذه التفاصيل، وهي نقطة تحسب لأبو العلاء كمخرج، فهو بالفعل متحكم للغاية بلغته البصرية ودلالتها، التكوينات البصرية داخل الكادر، الألوان، القطعات المفاجأة والنقلات الرمزية، حركة الكاميرا وثباتها أيضاً، كل ذلك يقول ما لا تقوله الكلمات، والأجمل إنها ليست مفتعلة، بل أساسها هو الدراما، وهو تمكن ونضج شديد من مخرج، يقوم بصناعة فيلمه الأول.
جانب سلبي
إذا كان هناك نقطة سلبية في الفيلم، فهو انحيازه للفكرة على حساب شخصيته الرئيسية، فنحن نرى رد فعل الأم والجيران والزملاء على لعنة مزمل، لكننا لا نتوغل في صراعه الداخلي مع نفسه، مع إيمانه هو بفكرة لعنته من عدمها. فصحيح أن الفيلم لجأ للاختزال في مناطق كثيرة، لكن صراع مزمل هنا مع نفسه ومع إيمانه أو كفره، هي أزمة هوية ووجودية، كانت تستحق أن يفرد له مساحة واهتمام أكبر.
هذه نقطة سلبية ليست هينة وتقلل كثيراً من كمالية الفيلم، لكنها في نفس الوقت لا تقلل من قيمته، التي لا يمكن إنكارها.
مرثية الحياة
جميعناً كمزمل، نعلم أننا سنموت، صحيح أننا لا نعلم التوقيت، لكننا مثله، نضيع وقتنا بالتفكير في نهاية الحياة بدلاً من أن نستمتع بها، وبذلك، تصبح حياتنا عبارة عن مرثية حزينة، لكنها مرثية تتلي على الأحياء بدلاً من الموتى، وفيلم "ستموت في العشرين"، هو التجسيد البصري والرواية السينمائية لهذه المرثية.
اقرأ أيضا
بطرحة سوداء.. صفية العمري على السجادة الحمراء في الجونة
وصلة غزل بين منى زكي ومينا مسعود والأخير يتساءل: أين حلمي؟!