صار وجود السينما النسوية في المهرجانات أمرًا مفروغًا منه، نقطة قوة مسبقة يمتلكها أي فيلم من إخراج سيدة، ويا حبذا لو كان موضوعه متعلقًا بالأمر نفسه، لتكون فرص الفيلم الاختيار على الأقل ضعف فيلم من إخراج رجل يدور حول أي موضوع آخر، هذا بالطبع لو نحينا جانبًا عوامل الشهرة والتحقق المسبق التي قد تمنح بعض الأسماء الكبيرة للمخرجين أسبقية عن نظيراتهم.
آليات المهرجانات في الاختيار ورأينا فيها ليس موضوعنا، لكن ما يهمنا أن محترفي الصناعة والمتابعين المتمرسين صاروا ـ للأسف ـ يخفضون سقف توقعاتهم كلما أقدموا على مشاهدة فيلم نسوي، على افتراض مسبق ـ بحكم التكرار ـ بأن لموضوعه وجنس صانعته دورًا في اختياره. لكن كل فترة، تأتي الفرصة النادرة، بظهور عمل نسوي لمخرجة، متميز حقًا كقيمة سينمائية وفكرية مجردة، لا يحتاج لأي دعم يأتي من خارجه لإثبات جدارته. إلى هذه النوعية ينتمي "بروكسيما Proxima"، فيلم المخرجة الفرنسية أليس وينوكو الذي ظهر ليلفت الانتباه في مهرجان تورنتو السينمائي المقام حاليًا.
فيلم فضاء نسوي، تركيبة لغوية غريبة في ظل اعتيادنا على مجموعة من التيمات المتكررة في أفلام الفضاء حتى وإن كانت بطلة الحكاية امرأة ("جاذبية" ألفونسو كوران نموذجًا)، لكن "بروكسيما" يمزج الأمرين: هوس الفضاء متمثلًا ساره (إيفا جرين)، عالمة الفضاء الفرنسية والأم العزباء التي تأتيها فرصة حلمت بها طوال عمرها للسفر في بعثة وكالة الفضاء الأوروبية إلى المريخ، وأزمة المرأة في العالم المعاصر الذي تتناقض شروطه مع مشاعر فطرية كالأمومة، ليطرح الفيلم سؤال: هل من حق الأم أن تحلم بالتحقق المهني؟
الواجب والجسد في مواجهة الحلم
في بداية الفيلم تسأل الابنة أمها "هل ستموتين قبلي؟".. سؤال طبيعي يمكن أن تسأله أي طفله، لكن سرعان ما يحمل أبعادًا أخرى بفهم قيمة وجود ساره في حياة ابنتها، فهي ولي أمرها الحقيقي في ظل انشغال الأب بعمله بعد الانفصال عن الأم، والفتاة الأقرب للملاك تعاني من صعوبات في التعلم رغم أن والديها من أصحاب الذكاء الفائق. باختصار، على ساره أن تبذل جهدًا أكثر من الطبيعي كي تكون أمًا مثالية، قبل أن يأتيها نداء الفضاء فيصير عليها أن تترك واجبها وتنطلق في رحلة مجهولة العواقب قد لا تعود منها أبدًا.
لاحظ هنا تراكب الأزمات، فهي ليست فقط أم تحلم بالنجاح المهني، وإنما هي أم لفتاة خاصة لها متطلبات خاصة تريد أن تتحقق في مجال محفوف بالمخاطر، تثبت التجربة إنه ذكوري أكثر مما يمكن تخيله، وأن رائد فضاء ناجح مثل شريك الرحلة (مات ديلون) بإمكانه أن يمارس بأريحية ما يمكن اعتباره تنمرًا جنسانيًا تجاه زميلته التي لا يراها صالحة جسديًا ونفسيًا لخوض مغامرة كهذه، قبل أن تتطور علاقتهما فيظهر الرجل وجهًا آخر مفاجئ، في أحد الانقلابات السارة (والشخصيات الواقعية متقنة الصياغة) التي يمتلئ بها الفيلم.
لحدود الجسد أيضًا قيمة كبيرة تنتبه لها المخرجة أليس وينوكو التي كتبت السيناريو بمشاركة جان ستيفان برون. فالسفر للفضاء عمل جسدي شاق وليس مجرد نزهة، على ساره أن تحافظ على تركيزها وتتحمل تدوير جسدها بسرعات فائقة فيما يشبه أجهزة الطرد المركزي، عليها أن تركض 15 كيلومترًا في اليوم تحافظ خلالها على معدل ضربات قلبها، وعليها أن تجيب عن أسئلة من نوعية: هل تخضع لبرنامج علاجي يوقف دورتها الشهرية خلال الرحلة؟ أم أن عليها أن تتعامل مع آلام الطمث ومتاعبه على بعد سنوات ضوئية من الكوكب؟
هذا الفهم العميق لطبيعة عنصرين الحكاية: السفر للفضاء والراغبة فيه، يجعل من "بروكسيما" ما هو أكبر بكثير من مجرد مغامرة فضائية أخرى، يأخذ الفضاء بأفلامه الحالمة ويلقيه إلى أرض الواقع بما فيها من متاعب لا تترك مكانًا لحكايات البطولة السينمائية. واقع تجتهد شركات العلاقات العامة فيه كي يظهر رواد الفضاء في صورة مثالية مشبعة بالثقة في النفس، بينما في حقيقة الأمر تأكلهم الشكوك والخوف من فراق الأحباب للأبد.
أماكن ومشاعر حقيقية
نصف قيمة الفيلم تكمن في السيناريو، بصدقه وواقعيته وقدرته على طرح الأسئلة الكبرى في صورة دراما مؤثرة، جذابة ومتصاعدة. رحلة نفسية وجسدية نخوضها مع ساره التي ينبغي عليها أن تتظاهر طوال الوقت بأنها في منتهى السعادة والحماس (وهو حقيقي)، وأن شيئًا لا يكدر صفوها أو يجعلها تشك في قدرتها على القيام بالرحلة (وهو غير الحقيقي).
أما نصف القيمة الآخر فيتقاسمه بطلة الفيلم ومواقع التصوير. البطلة هي النجمة إيفا جرين التي تقدم هنا الأداء الأفضل طيلة مسيرتها، بفهم وإمساك مدهش بتناقضات الشخصية التي تجمع بين القوة والهشاشة، والتي تحاول أن تفعل دائمًا ما يفوق المطلوب منها، حتى تصطدم بحقيقة أن حتى هذا الجهد الذي لا يتوقف ليس كافيًا لجعل حياتها وأحلامها تسير بشكل سلس دون تعقيدات أو أزمات.
مواقع التصوير هنا بطل حقيقي، يضيف لتأثير الفيلم البعيد عن التصورات الهوليوودية التخيلية عن عالم الفضاء. وينكو صورت مشاهدها في مقر وكالة الفضاء الأوروبية وفي "مدينة النجوم" الروسية التي يقيم فيها رواد الفضاء ويتلقون تدريبهم. لا وجود للأبنية حداثية المعمار التي نراها في الأفلام الأمريكية، فقط نزل أشبه بالفنادق القديمة يسكنه رواد الفضاء خلال تدريباتهم الشاقة. لا وجود لبدلات الفضاء الخيالية التي يتقاتل أبطال هوليوود وهم يرتدونها، وإنما نرى بدلات الفضاء الحقيقية التي يمثل ارتدائها أو الخروج منها ورطة تحتاج معاونة آخرين، بأطرافها الثقيلة التي تجعل ممارسة أي عمل خلال ارتدائها وكأنه تمرين عضلات مجاني يقوم به رائد الفضاء.
أليس وينكو أتت بالفضاء إلي الأرض، وبالحلم إلى الواقع، فخلقت فيلمًا سيكون علامة مؤثرة في تاريخ السينما النسوية، بجمعه بين حُسنيي الهم والحرفة. هذا عمل مهوم يتحدث عن متاعب رائدة فضاء المتشابهة مع متاعب المرأة في كل مكان، دون أن يتنازل في سبيل ذلك عن مستوى جودة قد تكفل للفيلم ظهور ما في موسم الجوائز الذي يظل مهرجان تورنتو وأفلامه هي المؤشرات الأبرز لمساره.
اقرأ أيضا:
"يوم جميل في الحي".. توم هانكس جوهرة فيلم اعتيادي
طريق الأوسكار يبدأ من هنا: 20 فيلمًا تبدأ موسم الجوائز في مهرجان تورنتو