من الذي لا يحب عمرو دياب؟!

تاريخ النشر: السبت، 31 أغسطس، 2019 | آخر تحديث:
عمرو دياب

حين تتزاحم الجماهير للتصوير مع فنان، فإن كل فرد منهم في حقيقة الأمر، يسعى – دون أن يدري - للتصوير مع نفسه، لما يتمتع به الفن من قدرة مذهلة على خلق حالة من التماهي بين البطل ومعجبيه، حتى تذوب الفواصل البشرية بينهم، ويرى الفرد منهم في نجمه المفضل، انعاكسًا لما في ذاته من أحلام ورغبات.

فالجماهير تبحث عبر السينما والمسرح عمن ينوب عنها في معاركها ضد الفسدة والمجرمين، ضد الظلم والقهر، ضد الظروف التي تحول دون إتمام قصة حب. تبحث عمن يجسد خيالاتها وأحلامها البعيدة، فيختفي ويطير ولا يموت، وحين بحثت الأنظار عن بطل خارق من نوع أخر، قادر على اختراق القلوب والوجدان بصوت أشبه بالسحر، دون أن يخفت بريقه عبر السنين، أو يتأثر شبابه المتجدد وكأنه يسير عكس الزمن، لم يكن هناك سوى عمرو دياب!

"أنا جوة دماغي حاجات.. هتغيَّر وجه الكون"

أحدهم وضع على السوشيال ميديا صورة لجميع ألبومات "الهضبة"، وكتب:"مفيش مرحلة في حياتك، ولا موقف مريت بيه، إلا وهتلاقي صوت عمرو دياب موجود فيه بأغنية من أغنياته" فعلق البعض ساخرًا:"إلا موقف العاشر" فجائه الرد:"إسمع رصيف نمرة خمسة مرتين"!

لكن عمرو دياب نفسه، لا يعرف سر هذا النجاح والجماهيرية الطاغية، والحفاظ على المركز الأول طوال هذه السنين، لأتذكر وأنا أتأمل مسيرته ومشواره الفني، مقولة الراحل نجاح الموجي في فيلم "131 أشغال" حين قال: "لو كنا عرفنا سر النجاح كنا نجحنا.. بس المشكلة إنه سر، هانعمل إيه؟!"

فالأصل في النجاح أصلًا ألا تسير على كتالوج مُسبق، وتتبع خطوات كيف تصبح ناجحًا في 10 خطوات. بل تصنع كتالوجك الخاص المليء بالتجربة، والتعلم، والمحاولة والإصرار، وأنت لا تعرف إلى أين ستصل، لكنك على تمام اليقين بأن هناك وصول، يحمل تجربتك وبصمتك أنت، لا بصمات الأخرين.

هكذا صنع عمرو أسطورته الخاصة، مثلما صرح في أحد حواراته الصحفية قائلًا:"أنا الوحيد الذي لا يقلد عمرو دياب"!

في لقاء جمعني بالكاتب الصحفي محمد عبدالله، رئيس التحرير السابق لمجلة "الشباب" التي كانت واحدة من أهم وأنجح المجلات المصرية والعربية في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، والذي عاصر بدايات نجاح عمرو ثم اعتلائه عرش النجومية، أخبرني أن الهضبة قال له ذات مرة: "كل اللي عملته إني حاولت وأنا مؤمن إن مفيش محاولة وتعب غير ووراه قيمة وهدف هيتحقق، بس عمري ما تخيلت إني هحقق كل ده.. أنا حققت حاجات كتير ما كنتش أحلم إنها ممكن تحصل أصلًا"، لكن نظرة لمشوار عمرو منذ خطواته الأولى، ستجعلك على الأقل تكتشف أن أغنية "آيس كريم في جليم" التي كتبها العبقري د.مدحت العدل، وأداها عمرو بهيئته الشبابية المتمردة على رمل الشاطيء في إسكندرية، هي ملخص مسيرة نادرة التكرار، امتدت لأكثر من 35 عامًا.

"أنا مش مألوف إمبارح.. لكن للجاي مألوف"

هكذا ذهب الطفل عمرو عبد الباسط عبد العزيز دياب حين كان عمره 6 سنوات برفقة والده، إلى محطة الإذاعة المحلية في بورسعيد، ليفعل الشيء الذي يؤمن به في نفسه، وهو الغناء على طريقته الخاصة غير المقلدة، وبمشاعره وأحاسيسه كما هي، فغني (بلادي بلادي) كعمرو دياب، لا كسيد درويش، دون رهبة أمام محافظ بورسعيد، الذي أعجب بصوته وأهداه قيثارة، ليخرج الطفل من الإذاعة حاملًا ما هو أغلى من الهدية، وهو الثقة.

وبعد بعد نشوب حرب 1967 غادر بورسعيد، شأن كل سكان القناة، وذهب مع عائلته إلى قرية والده في الشرقية، ولسان حاله يردد تلك الكلمات التي سيغنيها بعدها بسنوات في فيلم سيصبح أيقونة نادرة، لها خصوصية وحالة متفردة بين باقي الأفلام المصرية والعربية.

"وهعاند أيوة هعاند.. دايما من غير تسليم"

عناد الهضبة جعله ينتقل للقاهرة عام 1982 وهو شاب بسيط لا يملك سوى الحلم وإيمانه بنفسه، ليلتحق بالمعهد العالي للموسيقى العربية، وداخله أفكار ربما كان لا يجيد شرحها والتعبير عنها في اللقاءات الإعلامية التي أجراها في بداياته، لكنه كان يجيد ما هو أهم بكثير من الكلام، وهو الفعل، والتجريب، والمحاولة، بلا أي يأس أو إحباط.

عاند وصايا عمالقة الغناء على شكل الأغنية المصرية والعربية، فكسر القواعد وقدم أغانيه بطريقته الخاصة، في وقت كانت الجماهير هي الأخرى تبحث عمن يقدم لهم لونًا وشكلًا مختلفًا يواكب روح وإيقاع العصر الذي تغيرت ملامحه وشكل ونمط الحياة فيه، فصنع جمهورًا يدين له بالولاء والانتماء، وليس مجرد "سميعة" طرب يريدون من يسليهم فحسب.

دافع عن وجهة نظره بثقة وثبات حين تعرض هو وجيله للهجوم من محمد عبدالوهاب، دون أن يخشى تاريخ الرجل الملقب بـ "موسيقار الأجيال"، فاحترم جمهوره منطقه وأدبه في النقاش، واعتزازه بما يقدم من لون خاص به، وخرج مكتسبًا المزيد من الإيمان بما يقدم.

زهد في الظهور الإعلامي، في الوقت الذي كان كل مطرب جديد يتفنن في الوصول للإعلام، والحديث عن نفسه، وخالف كل ما هو متبع، فكان ذلك سببًا في أن تزداد قيمته، ويشتاق الجميع لظهوره النادر.

تمرد على المظهر الذي يطلّ به المطربين على جمهورهم في الحفلات، وظهر كشاب له طريقة ملابسه الغريبة، وأداؤه الذي قد يتندر عليه البعض الآن، بما فيهم عمرو دياب نفسه الذي قال في أحد لقاءاته ببرنامج "سكوت هنغني":"ببص لشكلي وقتها وبقول إيه اللي أنا كنت لابسه ده؟!" لكنه وقتها صنع موضة تناسب الثمانينيات والتسعينيات، وسار خلفه الآلاف، واختلاف الزمن لا يعني أن نحاسب أحدًا في زمن أخر بمعايير هي نفسها اختلفت وتغيرت.

لم يسع فقط للتجديد في ألحانه وتوزيعاته، لكنه طوّر من مظهره المتجدد والمتغير في كل ألبوم جديد يصدره، سواء في ملابسه التي كانت تفتح خط موضة جديد يتهافت عليه الشباب في الأسواق، أو حتى قصة شعره ولونه.

وحين هاجمه أحد المنتجين القدامى بعد أن توقف عن التعامل معه، وقال:"عمرو دياب خلاص كبر وراحت عليه"، اتخذ من هجومه دافعًا لينهمك في التدريبات البدنية القاسية لمدة 8 شهور، حتى ظهر في مظهر شبابي، موفور الصحة، مفتول العضلات ببوستر "ليلي نهاري"، الذي تشعر أن عمرو لعب فيه بعداد الزمن، وعمل إعادة ضبط المصنع!

كل خطوة من خطواته كانت متمردة، جريئة، تكسر ما يعتقد الكثيرون أنه غير قابل للكسر، ليفعل حينها ما يؤمن به، دون أي حسابات أخرى للعواقب، أو اكتراث بآراء المُنظرين والأوصياء الذين يهاجمونه في الصحف والمجلات والبرامج، ليزيدوا – دون قصد - من إيمان وحب الجمهور له.

بالطبع لم يكن نبيًا ولا قديسًا، لكنه حتى في أخطائه، كان شديد الذكاء في إدارة المعارك والأزمات، بعقلية لا تقل عن وهج موهبته ونجاح أغنياته.

باختصار، لم تتوحد الجماهير مع عمرو دياب، أو الهضبة، أو الأسطورة، لأنه يرتدي ثوب البطل الخارق الذي ينوب عنهم في معارك سينمائية مع خصوم وهميين على الشاشة، مستندًا على الخدع والمؤثرات التي تضفي عليه قدرات غير حقيقية، بقدر ما كان هو نفسه بطلًا حقيقيًا بكل ما له وكل ما عليه. استطاع أن يبني مجده على كسر الحواجز، وتحدي ما اعتقد غيره أنه مستحيلًا فإذا به ممكنًا، ليقدم نفسه مطربًا ناجحًا، وإنسانًا لا يشيخ، ورجلًا عاشقًا مليئًا بالمشاعر التي تنعكس على أغانيه، فتلهب أحاسيس جمهوره الذين عاشوا معه كل حالات وصور الحب، ونموذجًا بشريًا بدأ من تحت الصفر حتى أصبح ثريًا لديه كل متع الحياة بكده واجتهاده، وكأنه نال في مشواره وتجربته كل ما يحلم أن يناله إنسان، ليبقى هو نفسه أسطورة حية من لحم ودم لبشر عادي مثلنا، لكنه غير باقي البشر.

فمن الذي لا يحب عمرو دياب؟!

اقرأ أيضا للكاتب: "خيال مآته".. حلمي يصاب بالشيخوخة المبكرة!