من يمتلك تاريخا وتراثا سينمائيا وفنيا وثقافيا مثل ما نملكه؛ يحق له أن يعيش واثقا رافعا رأسه لعنان السماء، ومن لديه شباب موهوب، مثل الكوكبة الجميلة التي أمتعتنا على مدار ساعتين في عرض "سينما مصر"؛ يحق له أن يفتخر بماضيه ويطمئن لحاضره ويحلم بمستقبله، وبمجرد فتح "كُتيّب" المسرحية وجدت المخرج المبدع خالد جلال يردد معي نفس المعني قائلا: "إنني في هذا العرض لا أفخر فقط بماضي مصر، بل أفخر أيضا بمستقبلها"
كانت المفاجأة الأولى مع أول خطواتي داخل مسرح مركز الإبداع الفني بدار الأوبرا المصرية، عندما وجدت المخرج ومدرب الفنانين ومكتشف المواهب وصاحب العرض والرؤية المبدع خالد جلال يستقبل ضيوف العرض ويجلسهم في أماكنهم بنفسه، إلى هذه الدرجة لا يترك تفصيلة صغيرة، ربما يراها البعض لا تستحق، إلا ويشرف عليها وينفذها بنفسه، لإيمانه أن الجمهور بشكل أو بآخر يمثل جزءا مهما من الفضاء المسرحي.
على مدار حوالي ربع الساعة جلس الجمهور أمام مشاهد متفرقة من فيلم "الليلة الأخيرة" يتم إعادتها مرات ومرات، بينما يدخل الممثلون إلى خشبة المسرح تدريجيا بهدوء دون قطع اندماج المشاهد مع أحداث الفيلم التي يتم إعادتها.
ومن هذا الفيلم الذي كتب له السيناريو والحوار يوسف السباعي وصبري عزت، وأخرجه كمال الشيخ عام 1963، وقام ببطولته فاتن حمامة ومحمود مرسي وأحمد مظهر، والتي ظلت فاتن حمامة طوال أحداثه تقاتل لتثبت أنها (نادية) وليست شقيقتها (فوزية) كما يريد كل من حولها إيهامها، من هذه الفكرة ينطلق العرض المسرحي، الذي قدم قراءة جديدة لفيلم من روائع السينما المصرية، بعد 56 عاما.
دون الحديث عن تفاصيل العرض أو حرق فكرته، جلسنا لمدة تزيد على الساعتين نستعيد أجمل ذكرياتنا مع مقتطفات من تاريخنا السينمائي، شريط من الأحداث والأفلام والإبداع يمر أمام عينيك، بكل ما يحمله من ذكريات عامة، وما تحمله أنت من ذكريات خاصة، في أجمل تجسيد لمصطلح "القوة الناعمة" الذي يتردد كثيرا ولا يفهمه البعض، الفن الذي يجعلك تفتخر وتعرف من أنت ... ومن الآخرون.
صراع "نادية" التي تبحث عن نفسها وحقيقتها، و"شاكر" من يحاول أن يبقيها غائبة تائهة، اشترك في تقديم مشاهده عدد كبير من الممثلين (العرض شارك به 67 ممثلا شابا) يكملون جمل الحوار، وكأن الفنان انقسم إلى 10 على المسرح، في هارموني شديد وإيقاع منتظم لا يخرج المشاهد من تركيزة وتعايشه من الحدث، أدار المخرج خالد جلال هذا الصراع بحرفية شديدة رغم صعوبته، وربطه ربطا قويا وناعما بمشاهد متنوعة من أجمل أفلام السينما المصرية قديما وحديثا.
إلى أن تمكنت "نادية" أخيرا من الوقوف في وجه "شاكر"، الذي يريد إبقائها تائهة، ويعلن لها صراحة أنه عاش يكن لها الكره والغيرة بسبب تفوقها عليه في كل شيء، القبول والعلم والفن والروح حتى اللهجة، فتعلن له أنها تعرف جيدا من تكون ولا يمكن له أو لغيره أن يقضي عليها أو ينهيها مهما كانت قوته، في رسالة لا يخفي على أحد رمزيتها.
الحديث عن تفاصيل العرض، والتناغم بين الفنانين، والمواهب الحقيقية سواء في التمثيل أو الغناء، وطريقة استخدام الفضاء المسرحي الضيق بحرفية شديدة وسرعة شديدة، وتحرك الممثلين بسرعة في الظلام حاملين قطع الديكور الخفيفة التي تم استخدامها، كلها قدرات تستحق التقدير والتحية، تحسب للفنانين وللمخرج الذي قام بتدريبهم، حتى حفظوا كل سنتيمتر من المسرح.
رسائل سريعة:
- المخرج خالد جلال: تحية حب واحترام وتقدير، فقد قدمت رسالة صعبة ومهمة بشكل فني جميل نجا من الوقوع في فخ الكلاشيهات والخطابة الرنانة، وأثبت أن "القوة الناعمة" أكثر أهمية وأشد قوة من ألف صاروخ.
- "ستوديو المواهب" مدرسة فنية أثبتت أمرين، الأول أنها لا تقل عن أكبر مؤسسات الفن في العالم، قدم على مدار عمره القصير عددا كبيرا من المبدعين في مجالات التمثيل والغناء والإخراج والديكور، والثاني أن مصر ستظل كبيرة بأبنائها وولادة للمبدعين.
- "سينما مصر" عرض يستحق أن يُخصص له مسرح كبير يستوعب أعدادا كبيرة من المشاهدين، ويستحق أن تسخر له وزارة الثقافة كل إمكانياتها ليصل لأكبر عدد من المشاهدين خاصة الشباب، وفي انتظار أن يقوم بجولة طويلة للعرض في المحافظات.
- لا أعرف من المسئول عن هذا، لكني أتمنى لو تم تسجيل العرض تليفزيونيا، فنحن بحاجة لمادة فنية ذات قيمة نشاهدها مع أبنائنا في المنازل، إذا كنا حقا نريد أن نعرف حقيقتنا ونعرف مَنْ نكون.
اقرأ أيضا للكاتب
10 أسباب تفسر الحب الكبير لعزت أبو عوف
كريم محمود عبد العزيز ... ابن "الساحر" الذي أصبح "حراق"
"الممر"... يفتح الطريق لبطولات الجيش المصري إلى شاشة السينما