بمحض الصدفة أمسكت المخرجة أمل رمسيس بخيط الحكاية التي بنت عليها فيلمها التسجيلي "تأتون من بعيد". فقد كانت البداية مع مقال منشور في إحدى الصحف الإسبانية عام 2003، يكشف عن المسكوت عنه في الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت في ثلاثينيات القرن الماضي، ويركز على دور العرب الذين ناضلوا ضد فرانثيسكو فرانكو. جذب الأمر انتباهها، وقررت خوض رحلة بحث طويلة لتعرف أكثر عن الحرب، وتعثر بين حكايات آلاف على قصة إنسانية تتحدث من خلالها عن هذه الفترة المهمة.
الصدفة مفتاح الإجابة على الكثير من الأسئلة التي قد تشغل بالك عقب مشاهدة الفيلم، المشارك ضمن مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة في مهرجان الإسماعيلية السينمائي الدولي. فبعد 4 سنوات، عثرت المخرجة على ضالتها في كتاب عن الرحالة العرب يتضمن جزءًا مترجما عن مذكرات المناضل الفلسطيني نجاتي صدقي. من هنا بدأت رمسيس في التواصل مع ابنته الصغرى هند، التي فتحت أمامها صندوق ذكريات عائلتها التي تشتت ووطنها الذي سلب عنوة.
يحكي "تأتون من بعيد" عن أخوة لا يتحدثون نفس اللغة، يجتمع شملهم بعد سنوات من الفراق والمعاناة. فقد انحاز الوالدان لأفكارهما ومبادئهما الشيوعية، في وقت شهد فيه العالم الكثير من الاضطرابات؛ بداية من الحرب الأهلية الإسبانية، مرورا بالحرب العالمية الثانية، وبعدها النكبة الفلسطيني، ثم الحرب الأهلية اللبنانية. ولكن الثمن كان غاليا، فلم يقتصر على الزج في السجن، والتشتت في بقاع الأرض، وإنما الحرمان من رؤية الابنة الكبرى لسنوات طويلة ونشأتها بعيدا عن أبويها وشقيقيها في ملجأ روسي، مجردة من حقها في العيش في كنف أقرب الناس إليها.
تتحدث رمسيس في الندوة التي أقيمت عقب عرض الفيلم في المهرجان، قائلة: "المسار السياسي يشكل حياة البشر، وقرارات البشر تؤثر على المسار السياسي". وأوضحت أن الفيلم لا يقدم حكاي العائلة على اعتبار أن هؤلاء الأشخاص ضحايا، وإنما كان أمامهم خيارات دوما.
وأكدت على أنها خلال مرحلة التصوير علمت بأن الأم يهودية الديانة، لكنها احترمت رغبة العائلة في عدم التركيز على هذه النقطة، خاصة وأنها شخصيا لم تكن تميل إلى بلورتها لأنها ستشتت الانتباه عن جوهر الفيلم الذي يؤكد على أن الصهيونية تعتبر امتدادا للفاشية في العالم.
وأشارت إلى أنها تعلقت بهذه العائلة، لأن الأب نجاتي صدقي، يذكرها بوالدها الذي كان شيوعيا أيضًا، وظل متمسكا بمبادئه إلى النهاية. أضافت: "شعرت بأنني أقدم تكريما إلى والدي".
وحول توصلها إلى الابنة الكبرى، التي تعتبر الشخصية الرئيسية في الفيلم، أوضحت أنها عرفت عنها بالصدفة من خلال حديث شقيقتها الصغرى. وقد فوجئت بذاكرتها القوية عندما سافرت إلى روسيا للحديث معها، حيث تمتلك ذاكرة بصرية مذهلة، رغم تقدمها في العمر، مكنتها من سرد الكثير من التفاصيل، بعضها لم تكن حاضرة أثناء وقوعه.
وعند سؤالها عن الصعوبات التي واجهتها، ذكرت أن أولها كان حاجز اللغة، فعلى سبيل المثال، في أول مرة التقت فيها بالابنة الكبرى لم تتمكن من فهم ما ترويه لأنها لا تجيد الروسية، وقد احتاجت إلى مترجمة تلخص لها الحديث أثناء المقابلة. وظلت لمدة شهور غير مدركة لكم التفاصيل التي حكتها الابنة حتى حصلت على ترجمة كاملة وتأثرت بكل كلمة.
تمزج رمسيس بين المواد الأرشيفية وصور حديثة لحروب واقعة في الوقت الحالي، لتؤكد أن شكل الدمار واحد في أي زمان ومكان. وقد كان الحصول على هذه المواد الأرشيفية إحدى الصعوبات التي واجهتها، نظرا لأن تكلفت الدقيقة الواحدة 1500 يورو، ولم يكن هناك تمويلا آنذاك. مضيفة أنها اضطرت لتصوير بعض مشاهد الفيلم بنفسها وبمساعدة زوجها نظرا لقلة مصادر التمويل، كما أنها عملت على مونتاج الفيلم وحدها.
وعن اختيارها لأغنية "نشيد الأممية" للمطربة الراحلة ريم بنا، قالت إنها سمعت الكثير من الأغاني لكن هذه الأغنية تحديدا مست قلبها، لذلك طلبت من بنا استخدامها في الفيلم، فوافقت الأخيرة على الفور دون الحصول على مقابل مادي.
أخيرا، أوضحت أمل رمسيس أنها فضلت اللغة الإسبانية للتعليق الصوتي، نظرا لأنها متماشية مع حالة الفيلم الذي يركز على حكاية أشخاص عايشوا فترة الحرب الأهلية الإسبانية، مستدركة أنها لم تحبذ اللهجة العامية المصرية أو اللغة العربية الفصحى لأنهما بعيدتان عن روح "تأتون من بعيد".
اقرأ أيضًا:
الإسماعيلية السينمائي الدولي يفتتح دورته الـ21 بنوستالجيا سمير صبري.. وعد لطلاب معهد سينما
تفاصيل الدورة الـ21 للإسماعيلية السينمائي الدولي.. برنامج مخصص لأفريقيا وتغيير من العام المقبل