منذ اليوم الذي رحل فيه الإعلامي المخضرم الذي يصعب تكراره حمدي قنديل (82 عاما)، وأنا أسأل نفسي عن سر الحزن الثقيل الذي يحاصرني، هل لأنه المعلم الذي كان يعطي بلا مقابل؟ هل بسبب نبله وتفرد تجربته الإعلامية؟ هل هي السلاسة التي كان يصيغ بها جمله؟ هل بسبب مواقفه السياسية التي دائما ما كانت تنتصر لكل ما هو إنساني بعيدا عن الحسابات والمصالح؟ هل ملامح وجهه التي تحمل قدرا كبيرا من الذكاء والوضوح والطيبة؟
كل هذه التساؤلات وغيرها تقفز إلى ذهني وتحاصرني، في محاولة لفك طلاسم الحزن الكبير.. حاولت أن أصيغ جملا تشبهه منمقه، وسلسلة، بسيطة وعميقة في آن واحد تشبهه لأرثي بها آخر فرسان الإعلام النبلاء، لكنني قلت لنفسي "الكثيرون سيفعلون"، لذلك أعدت قراءة بعضا من حياته، وهنا توقفت كثيرا، حيث يبدو أن تجربة قنديل المميزة في الإعلام المصري والعربي، لم تكن هي سبب شغفي بقنديل الإعلام، وحزني الكبير عليه فقط، ولكن علاقته الفريدة بالفنانة نجلاء فتحي أو زهرة كما كان يناديها والتي دونها في كتابه وحكي عنها في الكثير من حوارته الإعلامية. استدعيت بساطته وهو يحكي وعدم خجله من ذكر نقاط ضعفه، وكيف تحدث بأريحيه عن عدم إنجابه، وكيف أنه ارتبك أمامها عندما سألته الزواج ورد عليها بكلمة واحدة وهي (عظيم، عظيم) حسبما جاء في كتابه "عشت مرتين"، وذكر الإعلامي الراحل أنه في عام 1991 أوفد التلفزيون المغربي فريق تصوير لتغطية مهرجان القاهرة السينمائي، وإجراء مقابلات مع عدد من الفنانين من بينهم نجلاء فتحي، التي لم تكن تشارك في المهرجان.
وحينما اتصل بها لترتيب المقابلة طلبت ألا تجرى في منزلها بسبب تجديدها للديكور، واقترحت أن يتم التصوير في منزل شقيقتها بمنطقة الدقي.
يقول قنديل إنه فوجئ أن اللواء محمد السكري وكيل اتحاد التنس هو زوج شقيقتها وكان على معرفة مسبقة به، حيث دعاه إلى العشاء وهناك وجد أن الجميع ينادي نجلاء فتحي بـ"زهرة"، ليعرف منها أن اسمها الحقيقي هو "فاطمة الزهراء" واندهش من بساطتها وتلقائيتها، ثم أخذا يتحدثا عن باريس وذكريات الثنائي فيها، وحينما انصرف كان ينوي أن يلتقي بها مرة أخرى.
وأكد قنديل وقتها أنه وجد فيها شخصية ستضفي على حياته البهجة، وبالفعل تكرر اللقاء عدة مرات، وفي فصل الصيف ذهبت مع ابنتها ياسمين إلى الإسكندرية فتبعها إلى هناك وتكررت اللقاءات.
بعد نحو أسبوعين من عودتهما إلى القاهرة، أجرى اتصالا بها وسألها كالمعتاد "عملتي لفة في النادي النهاردة؟" فأجابته "كتير.. أكتر من اللازم"، وحينما سألها عن السبب أكدت أنها كانت تفكر في أمر هام، وفاجأته قائلة "أنا هتجوزك النهارده"، ليرد عليها دون أن يدري "عظيم عظيم".
وبعدها سألته عما إذا كان لديه بطاقة تحقيق شخصية؟ لكنه لم يكن قد استخرجها بعد، فطلبت منه القدوم إلى منزلها في الخامسة ومعه جواز السفر، قائلة له "موافق ولا هترجع في كلامنا؟"، فأجابها "موافق أكيد".
ازداد إعجابه بطريقة عرضها للأمر، وحينما التقى بها سألها عن رأيها في حال قام بالمماطلة معها، أكدت له أنهما ليسا في قصة غرام مشتعلة، وهما بالغان وسبق لهما الزواج، وبالتالي لن تحزن عليه إن تنصل من الأمر، لأنه وقتها لن يستحق ثقتها التي وضعتها فيه.
تخيلت كيف لرجل شرقي تربي تربية محافظة_ ينتمي لمحافظة الشرقية_ أن يتمرد على كل عقد التربية، وذكورية التفكير، ومخاوف أي رجل من امرأة قوية وذكية وذات شخصية مستقلة، كيف له أن يتقبل عرضا بالزواج بتلك البساطة! كان من الطبيعي أن يخشى تلك المرأة يخاف من نجوميتها وتجاربها المتعددة، ولكن حمدي قنديل رجل نبيل يملك الكثير من الوعي، ومتسق مع ذاته، ومبادئه لا تتجزأ، يعرف كيف يكون المعني الحقيقي للحب والصدق وهاتان الكلمتان هما مفتاحه في كل تفاصيل حياته لذلك صار قنديلا للإعلام وقنديل حياة زهرة والتي أخذها إلى منطقة من السكينة والسلام، وهو كل ما كانت تبحث عنه بعيدا عن صخب الشهرة والنجومية والضريبة الكبيرة التي دفعتها من روحها.
اقرأ أيضا
#حكايات_القاهرة_السينمائي (1): دموع فؤاد المهندس التي لا يمكن نسيانها
#حكايات_القاهرة_السينمائي (2): تحدي تأسيس مهرجان سينمائي بعد 3 سنوات من الحرب