للحديث عن "بني آدم"، فيلم المخرج أحمد نادر جلال المعروض حاليًا في القاعات المصرية، سيناريو عمرو سمير عاطف عن فكرة البطل يوسف الشريف، لا بد وأن نخرج من حدود الفيلم قليلًا لتوضيح قواعد درامية أساسية يمكننا من خلالها التفكير فيما شاهدناه على الشاشة.
في عالم الدراما يمكن تقسيم أنواع الأبطال، أو الشخصيات الرئيسية إذا أردنا استخدام المصطلح الأدق، إلى نوعين: بطل يولد من رحم الدراما وبطل يولد قبلها. الأول شخص اعتيادي، قد يمتلك بعد السمات الفريدة أو القدرات الخاصة، لكنه لم ينل الفرصة للتعرف عليها بعد، عاش حياته داخل حدود لا يتجاوزها حتى جاءت دراما الفيلم لتضعه على المحك وتُظهر جوهر شخصيته.
الأستاذ فرجاني "آخر الرجال المحترمين" الذي كان أقصى تصوّره عن المغامرات هو أن يقود رحلة مدرسية للعاصمة حتى اختفت طفلة من تلاميذه فيصطدم بمنظومة اجتماعية وأخلاقية فاسدة، محمود بطل "واحد من الناس" وأكبر مخاوفه أن تُسرق سيارة يحرسها حتى يشاهد ما يدخله في صدام مع مراكز القوى، وعرفة مشاوير "الهلفوت" الذي لم يتخيل أن يقلب موقف عابر حياته رأسًا على عقب. كلها نماذج للبطل الذي يولد من رحم الفيلم، تُعمّده المغامرة فيكتشف جوهره ونكتشفه معه.
أما النوع الثاني فهو البطل الناضج بالفعل، الذي خاض مع الحياة ما يجعله صاحب تجربة تكفي للتعامل مع حكاية الفيلم. فارس "الحريف" الذي تزوج وطلق ولعب الكرة وتركها وعمل في مصنع وكاد يُطرد منه ويعيش على الحافة قبل أن تبدأ أحداث فيلم لا يتعرض فيه لما يفوق ما سبقه، حسن "سواق الأتوبيس" الذي خاض حربًا وفقد رفاقًا وعاد يحارب من أجل لقمة العيش، وحتى في أفلام الأكشن التقليدية نذكر بطل "مافيا" الذي طُرد من الشرطة وسافر ليحترف الجريمة قبل أن تأتيه فرصة للعودة.
تحديد نوع الشخصية الرئيسية لا يساعد فقط في رسم قوس تطورها النفسي، ووضع إطار عام للحكاية، وإنما الأهم أنه الطريقة الوحيدة للإجابة على السؤال الحتمي والبديهي: "ما هو موضوع الفيلم؟" موضوع الفيلم ليس قصته أو تتابع أحداثه، وإنما السبب الذي يجمع هذه الأحداث في ساعتين نجلس في قاعة لمشاهدتهم. وحتى أكثر الأفلام التجارية سطحية لا بد - نظريًا - وأن يكون لها موضوع، وإن كان موضوعًا عامًا مثل تحقيق العدالة وصراع الخير مع الشر.
لا بداية: آدم الذي لا نعرفه
فيما سبق تكمن أولى المشكلات الرئيسية في "بني آدم"، الفيلم الذي اختاره له صناعه هذا العنوان، ولبطله ـ بطبيعة الحال ـ اسم آدم، أحد أكثر الأسماء وضوحًا في دلالته، فهو اسم صفري دائمًا ما يُفسر بأنه يعني "الإنسان"، والبطل الذي يحمل هذا الاسم عادة ما يفترض المشاهد أن هناك مقاربة بين رحلته وبين رحلة البشر في حياتهم ـ راجع فيلم "أرض الخوف" ـ فما بالك إذا ما كان آدم يرتكب خطايا يستخدم فيها هويّات مختلفة ونراه يعترف بهذه الخطايا أمام شخص لا نعرف هويته؟ وما بالك عندما يكون عنوان العمل هو "بني آدم"؟
لكن الفارق بين آدم/ يحيى أبو دبورة في "أرض الخوف" وآدم "بني آدم" هو الفارق بين الثرى والثريا، بين شخصية يجيد راوي حكايات عظيم أن يقدمها في دقائق ساحرة يجعلنا نعرف كل شيء عنها بل ونفهم دلالتها دون تقعر أو حذلقة، فنتابع حكاية جذابة ومشوقة تحيلنا لأفكار أعمق، وبين شخصية نظل من اللحظة الأولى وحتى نهاية الفيلم بدون أن نفهم دوافعها أو نمتلك ولو لحظة استنارة واحدة نصل فيها لجوهر الشخصية الذي يُفترض أن صناع الفيلم يحكون حكايتهم لكشفه.
نتحدث هنا عن نقطة البداية: مجرم ماهر ينفذ عملية سرقة بنك، يبدو منظمًا يحسب كل شيء بالدقيقة والثانية ولا يترك شيئًا للصدفة، مما يضطره لارتكاب جريمة قتل بسبب تصرف غير مسؤول يقدم عليه أحد رجاله، قبل أن يتحداه هذا الرجل بشكل سافر وبدلًا من أن يتخلص أو يتأكد من سكوته، يتركه يرحل في أمان، فقط لأنها الوسيلة الوحيدة التي تتحرك فيها المواجهة بين البطل ورجل الشرطة كما يريدها المؤلف.
على نقيض الطبيعي في الدراما ـ والحياة ـ كلما نعرف معلومات أكثر عن آدم نزداد اغترابًا عنه وعدم فهم لشخصيته وعالمه اللذين لا يحكمهما أدنى قواعد المنطق. هذا المجرم بالغ الذكاء والخطورة مثلًا قرر في لحظة من حياته أن يتزوج من امرأة كاملة الاعتيادية، لا شيء يميزها شكلًا ولا صفة ولا تمتلك عملًا أو موهبة أو جاذبية تفوق أي ربة منزل، وعلينا أن نصدقه عندما يقول أنه وقع في غرامها من النظرة الأولى وقرر المخاطرة بكل شيء ليتزوجها، لأنه لو لم يمتلك زوجة وابن لما سارت الأحداث كما يرغب المخرج.
هذا الخطير يخفي أمواله وسلاحه وهوياته المزيفة في خزانة مخفاة بصورة بدائية لا تحتاج إلا لشخص شاهد عدة أفلام أكشن ساذجة ليدرك مكانها، بل ويكتفي بإغلاق الخزانة بالمفتاح دون رقم سري (رغم أنها تسمح بهذا الخيار) لأنها الطريقة الوحيدة التي يمكن للزوجة أن تصل بها لأسرار زوجها، تمامًا كما نجد أستاذه المجرم الأكثر خطورة (محمود الجندي) يتلقى السباب أمام رجاله من ابنته المراهقة المدمنة (هنا الزاهد)، التي تعرف ـ لأسباب من المستحيل فهمها ـ كافة تفاصيل عمل والدها السرية لدرجة علمها بأن آدم عاد لتوّه من سرقة بنك!
لن نطيل في ضرب أمثلة لأن ما قيل يكفي لرصد النقطة الدرامية المشينة التي تبدأ عندها الأحداث، وصفة المشينة تأتي بالأساس من الخبرة الكبيرة لأحمد نادر جلال وعمرو سمير عاطف التي تجعلنا نوقن باستحالة عدم وعيهم بأن كل شخصيات فيلمهم بلا جذور، مُختلقة، مُعلقة في الهواء، تفتقر للماضي المنطقي وكأنهم جميعًا قد وُلِدوا مع بداية الفيلم، على الصورة التي تسمح بتحرك الأحداث وتشابكها بشكل من المستحيل وقوعه في أي سياق حكي متماسك.
لا وسط: أول فيلم أكشن اجتماعي
لا تمتلك كل أفلام الأكشن حبكات منطقية، وبطل فيلم الحركة عادة ما يمتلك قدرات يستحيل تصديقها بشكل واقعي. رد من الممكن أن يمتلك بعض الوجاهة النسبية بشرط وحيد: أن يكون الحديث عن فيلم أكشن بالفعل، فيلم يجد الجمهور في إثارة مشاهده وتلاحق أحداثه وحبكته التي تسير من تتابع مشوّق لآخر يفوقه في إحكام الصنعة تعويضًا عن بعض النقص الدرامي. وبالفعل هناك آلاف ـ بل ملايين ـ يشاهدون أجزاء سلاسل جيمس بوند والمهمة المستحيلة فلا ينتبهون كثيرًا للحبكة وتطور الشخصيات بسبب التنفيذ المذهل، مع التأكيد على إنه حتى هذه الأعمال التي لا يمتلك بطلها رحلة داخلية ملموسة وفقًا لطبيعة السلسلة التي يحتفظ فيها البطل يصفاته، تظل متماسكة ومثيرة دراميًا أكثر من فيلمنا هذا.
أزمة هذا الرد في حالة "بني آدم" أن الفيلم يمكن تصنيفه كعمل أكشن على المستوى النظري فقط. عندما تسمع حكايته تتوقع أن تشاهد عدة عمليات ومواقف يتعرض لها البطل فيستغل ذكائه وقدراته وصولًا للنهاية. أما حقيقة الأمر فإن المنتج النهائي هو واحد من أفقر أفلام النوع التي صُنعت في مصر خلال السنوات الأخيرة، بل أن أفلام أخرى للمخرج نفسه ليست أعمال أكشن بالأساس مثل "كده رضا" و"الجيل الرابع" امتلكت مشاهد حركة يفوق عددها وإتقان تنفيذها ما يضمه "بني آدم"، الذي لو قارناه بفيلم كوميدي منافس في الموسم ذاته ومن إنتاج نفس الشركة "الكويسين"، ستغلب كفة مشاهد الأكشن في الفيلم الكوميدي.
لا يقدم "بني آدم" لجمهور الأكشن سوى تتابعين: سرقة البنك في مطلع الفيلم، والمواجهة الأخيرة قبل النهاية بربع ساعة، وكلاهما تتابع محدود الإنتاج، منفذ بالكاد ليؤدي دوره، دون امتلاك ولو لقطة مثيرة للإعجاب (على شاكلة أعمال أخرى نجحت في استخدام الجودة التقنية قبل شهور مثل "هروب اضطراري" و"الخلية"). أما ما يزيد عن تسعين بالمائة من مشاهد "بني آدم" فهي عبارة عن مشاهد حوارية بين شخصين يتحدثان معًا، ودائمًا شخصين فقط حتى لو تواجد آخرون في المشهد لا يتحدث البقية ويظل الحوار دائرًا بين اثنين (أحدهما آدم بالطبع).
أحاديث لا تنته بعضها تسمعه مرة واثنين وثلاثة (عن الزوجة والابنة ورأي الزعيم فيهما، مثلًا) دون تطوير في محتوى الحوار أو حتى استخدام جملة تحتوى على فكرة ذكية أو صياغة حاذقة تعلق بالذهن، ليكون الناتج النهائي فيلمًا يتظاهر بكونه فيلم أكشن، بينما يشبه محتواه المسلسلات الاجتماعية، لدرجة تجعلك تُفكر في احتمالية أن يكون صناع الفيلم قد قرروا صناعة أول فيلم أكشن اجتماعي.
لا نهاية: هل تكفي المفاجأة؟
(تحذير: الجزء التالي قد يحتوي على معلومات تحرق نهاية الفيلم، يُنصح بتجاوزه لمن يُفضل مشاهدة الفيلم قبل معرفة نهايته)
هناك هوس يسيطر على كتاب الدراما المصرية في القرن الحادي والعشرين باستخدام الانقلاب الدرامي أو "التويست"، بوقوع اكتشاف مدهش في نهاية العمل يفاجئ الجمهور بما لم يتوقعه. هوس وصل للارتكان على النهاية المدهشة باعتبارها وحدها كافية لخروج الجمهور منبهرًا بما شاهده. للنهاية قيمتها بالطبع، لكن كي تحقق مثل هذا الأثر الهائل وتحوّل "الفسيخ شربات" لا بد وأن تتمتع بسمتين: العدالة والتنوير.
والانقلاب الدرامي العادل fair twist هو ما يتم التمهيد له بذكاء، بحيث يشعر المشاهد إن الحقيقة كانت أمام أنفه طوال الفيلم لكنه فقط لم ينتبه لها، مثل فيلم "ملاكي اسكندرية" مثلًا، الذي سمعت شهقات المشاهدين في صالة العرض عندما أدركوا أن خدعة الزوجة المظلومة كانت متناثرة على طريق البطل لكنه لم يراها لأنه أراد أن يصدق السيدة الجميلة. أما الانقلاب غير العادل unfair twist فهو على العكس الذي يأتي من خارج العمل، وعنده يشعر الجمهور أن صناع الفيلم قد خدعوه وأخفوا عنه معلومات لو عرفها لفهم كل شيء، وأبرز مثال يُضرب على هذا النوع هو الأعمال التي تنتهي بأن ما حدث كان مجرد حلم.
وقائع "بني آدم" لم تكن حلمًا، لكن التويست بالتأكيد غير عادل، فعندما يرينا المخرج بطل فيلمه وهو يتعرف على جثة زوجته التي ماتت في مشهد المواجهة، لا يمكن أن يعود بعدها ويفاجئنا بأن البطل قد مات معها في المواجهة نفسها، وأن مشاهد سرده لحكايته هي اعتراف فيما يُشبه "البرزخ" بالمفهوم الديني. هذا يقودنا للسمة الثانية المطلوبة في التويست وهي التنوير. أن يكشف الانقلاب الدرامي عن شيء، يغلق قوسًا ويبرز قيمة ويعطي لما شاهدناه معنى.
هنا يبرز السؤال: ما الذي أضافه هذا التويست سوى الرغبة في المفاجأة؟ ما هو شعور البطل آدم بعد أن روى حكايته؟ بل ما هو شعوره قبل وأثناء سرده لها؟ الفيلم لم يقربنا شبرًا من مشاعر الشخصية، ولم يُشعرنا للحظة أن هذا الرجل قد ندم على ما فعله. ربما يكون قد ندم على بعض تفاصيل العمليات كالموافقة على ضم المجرم الذي أفسد السرقة، لكن هل استفاد "آدم" شيئًا من رحلته في "أرض الخوف"؟ هل أدرك خطاياه وتطهر من ذنوبه ولو بالطريقة الأكثر تقليدية (التضحية بالنفس)؟ هل حتى تصالح مع ما ارتكبه ووجد أن أفعاله نتيجة طبيعية لنشأته؟
إجابة جميع الأسئلة السابقة هي النفي التام. النهاية غير العادلة هي أذن منزوعة المعنى، لا تهدف سوى لإثارة لم تتحقق، لسبب بسيط هو إن أكثر المتحمسين ليوسف الشريف وحاملي "شابوهاته" سيكون من الصعب أن يكترث لبطل مزيف، غير مفهوم الدوافع، يخوض مغامرة خالية من الإثارة معظم مشاهدها عبارة عن حوارات راكدة، وحتى عندما انتهت باكتشاف مثير، لم يضيف الاكتشاف جديدًا ولم يشعر الجمهور بأن الحكاية كانت أذكى من توقعاته. وصحة التوقعات هي كارثة الدراما عمومًا، والأعمال التشويقية بشكلٍ خاص.
"بني آدم" عودة باهتة من يوسف الشريف لشاشة السينما بعد نجاحات كبيرة في التليفزيون. ورغم كل التحفظات على مسلسلاته ـ التي خرج الفيلم من رحمها ـ يظل أسوأ هذه المسلسلات أفضل بكثير من الفيلم الجديد، فعلى الأقل اشتراطات الإبهار في الدراما التليفزيونية تختلف عن نظيرتها على الشاشة الفضية.
اقرأ ايضا
الصراع بين رمضان وتامر على المركز الأول يخرج عن النص أحيانا
6 ملامح من إيرادات أفلام عيد الأضحى الحقيقية.. رمضان وتامر يقلبان الطاولة على الجميع