احرقوا جسدي بعد مماتي، وعبِّئوا رفاتي في زجاجة عَرَق نصراويّ، واحشوها بالبنزين والمواد المشتعلة، لتتحوّل إلى «مولوتوف» في يد مُقاوم يرجم بها أعداء الحُبّ وطُغاة الأرض.
كل يوم أنتصر على الوجع بابتسامة..
رحلت عن عالمنا، المقاومة «ريم بنّا»، بعد رحلة شاقة عمرها 9 سنوات مع السرطان، حاربته وهزمته مرة، لكنه عاد مرة أخرى ليهزمها، ظلت قوية، تُقاوم.. تُحارب.. تبتسم.
أصيبت بسرطان الثدي عام 2009، وبعد الخضوع للعلاج، شفيت منه، إلا أنه قرر العودة مرة أخرى في 2015 ليحتل جسدها.. خضعت للعلاج الكيماوي وفقدت شعرها، وما أن خطت خطوة نحو الأمل، فقدت صوتها.. صوت المقاومة.. ورغم كل ذلك ظلت تقاوم حتى الرمق الأخير.
إن السبيل إلى الحياة هو الحياة.. والسبيل لا يكتمل بلا ابتسامة
في سبتمبر 2016، أصيبت بالتهاب حاد في الرئة، ونقلت للعناية المركزة، ووضعت تحت أجهزة التنفس الصناعي، وبعد 8 أيام، تخلت عن جهاز الأكسجين، « فقد سئمت أنفاسي الهواء المُعقّم».. لكن علاج التهاب الرئة ما زال مستمراً.
إنها نعمة المُقاوم الشرس..
في أكتوبر 2017 شهر التوعية بمرض السرطان، روت حكايتها القديمة مع السرطان، فتقول: «عندما عرفت أني مصابة بسرطان الثدي عام 2009.. كان توأمي الجميل قُمران وأورسالم في الصف الثاني، وبيلسان في الصف العاشر».
كانت خائفة ألا تكمل الطريق معهم، تنظر إليهم وتتساءل بحُرقة «كيف ستكون الحياة بعدي؟»، وأنا التي لم أشبع منهم بعد.
مرّت الأيام .. ومرّت بعدها سنوات من حياة أجمل .. صارا قُمران وأورسالم في الصف العاشر، وصارت بيلسان في الجامعة.. «أنا حتى الآن لم أفقد الأمل بأنني سأحتفل معهم في التخرّج، والنجاحات القادمة لا محال».
لا صعب يعلو على ابتسامتي..
لازالت تقاوم.. تقاوم فقط بابتسامتها، حالتها الصحيّة تتأخر لكنها مؤمنة بأن الابتسامة تقاوم أي شىء، فما الحياة إلا مقاومة.
كتبت ريم: «لا يعرفني حقّاً، مَن يظن أنّي في وضع صحيّ صعب، لا "صعب" يعلو على ابتسامتي، وكما قلت: أرفع ابتسامتي شارة نصر وأقاوم».
فما الحياة إلا مقاومة ضد الظلم والقهر والأنانية، ضد الاحتلال، ضد البشاعة والحرب والخراب، ضد الاكتئاب والإحباط والاستسلام، ضد الحياد والخنوع والانتهازية والنفاق والمزاودة، ضد الوجع والضعف والتعنّت، ضد الاضطهاد والقمع والعنف والعنصرية، ضد أسر الأفكار والخيال والأحلام.
مُقاومة من أجل أن نحيا كما على الإنسان أن يكون، جميلاً .. صادقاً .. حالماً .. حراً .. طيباً .. ومُكافحاً
لا يهم ما آل إليه حالك.. المهم أن لا تتوقّف عن الحلم
لازالت تقاوم.. ولازال السرطان ينهش في جسدها، أصبحت أضعف من البداية، من منا لا يأتي عليه لحظة يُقر فيها بالتعب، أحست ريم بأنها في منتصف البحر، لا تقدر على الحركة، وجسمها متوقف تماما عن العمل، لكنها لازالت تقاوم.
ورغم ذلك لم تفقد ريم خيالها، وخلقت من وسطة الأزمة أمل جديد للمقاومة: «من حلاوة الروح بتصير تتخيل الموج خشبة، وهي اللي راح تنجّيك، اعتمد عحالك وخلّي خيالك صاحي، على الأغلب خيالك بنجّيك»
نتكتّم ونُكابر.. كي لا نوجع معنا الآخرين
يبدو أن البعض يحسدها على مقاومتها وابتسامتها، وتسائل: «لماذا لم تعالج مرضها بألمانيا؟» وردت بنت فلطسين عليهم، بأنها ولدت ومازالت تعيش بفلسطين، بالناصرة، وأن العلاج تتلقاه منذ أكثر من 8 سنوات في مستشفى «العائلة المقدسة» في الناصرة، وطبيبها فلسطيني، فمن المعروف عن ريم مقاومتها ضد الاحتلال الاسرائيلي وحبها لوطنها.
«حبيبي.. إنت يا مشحّر عايش معنا لتعرف إذا اليوم عنا أكل أو لاء، إذا أكلنا أصلاً مبارح أو لأ؟.. بتعرف إذا قادرة أصل باب الدار أفتح إذا حدا دق؟.. بتعرف كم مرة بداري دموعي من الوجع عن ولادي، وقت بضطر يساعدوني ألبس؟».
بتعرف كم هَم بدور براسي كل دقيقة؟
كيف بدي أكمّل حياتي هيك؟
كيف بدي أشتغل وأجرب أوفر أي إشي عشان ولادي ما ينضاموا من بعدي؟
كيف بدي الولاد يحسّوا إني قوية ومش تاركتهن وأنا بجُر حالي؟
كيف بدي بكل لحظة أحسسهن بالأمان.. وأنا فش بجُزداني حق ربطة خبز؟
ولك كيف أصلاً بدي أساوي كل هاد وأنا العلاجات والمرض هلكوني.. يعني إذا بتشوفني متفائلة ومبتسمة عطول.. بصير يطلعلك تعايرني؟
رفضت أن يقدم لها أحدًا عرض لمساعدة مادية «راح أغضب عليه بجد وأزعل»، وطلبت فقط من عشاقها أن يساعدوها على المقاومة، « يا ريم أنتِ قوية».
طوبى للصابرين على وجع الحياة..
رغم كل الآلام التي تمر بها، فاجئها القدر بألم جديد.. رحل والد ريم بنا، ليترك خلفه ألم جديد يلازمها المتبقي من حياتها.. ألم الفراق.
رحت وما قدرت أودعك.. ناديتك كثير بالحلم وما سمعتني، بس لو التفتت يابا عليّ تأشوفك لآخر مرة.. الله معك وين ما كنت، بخاطرك يابا، وسامحني
الحيّز ضيّق ويضيق..
سأتنفس كل هذا الجمال.. سأكابر على عجزي من أجل لحظة أحضن فيها أولادي أكثر، هذه الحياة لي.. لي كما أشاء.
هذه السماء.. بحر لأحلامنا المُستعصية
كوني صامدة كالجبال، لا تغادري إلا وأنت واقفة كفارسة في المعركة، لا تُسلّمي الأعداء جسدك، لا تمنحي الحاسدين فرحة رحيلك، كوني السيف على الظلم.. كوني الحلم.
كوني صوت الفقراء ودموعهم في الليالي الباردة، كوني ما شئت أن تكونين الآن، لكن لا تنكسري أمامي.
إنهضي بخفّة، شُدّي ظهركِ كأنكِ ترقصين التانغو، وكأن القسوة فيك عدو، لانَ كالعجين.. تحرّكي كضوء يرمش بجنون، وتصبّري كزيتونة الدار، ثم افردي جناحيْك مع الأفق، واضربي بكعبك إيقاعاً في الأرض، ثم غنّ، كمَن قَطِّع الشجن أوتار صوته.
غزالة شاردة لا تهدأ..
يحتفل العالم من حولها بالعالم الجديد 2018، لكنها لها احتفالها الخاص، فقد مرت عليها أسوا ثلاث سنوات في حياتها، «كادت أن تقتلني»، أصبحت قادرة أكثر على «التجاهل»، والنظر فقط إلى المدى المفتوح، إلى الأمام، إلى دائرة الضوء في قلبها، إلى أمل يحملها لتحوّل أحلامها إلى حقيقة.
ربما لن يتغير شيئًا.. لكن أنا تغيرت.. وها أنا أدخل عامي الجديد بتحدّ أكبر، صحيح لم أعد قادرة أن أقف على ساقيّ بثبات، لا أستطيع الخطو دون معين، لكني أعرف أن الوقت كفيل بتجنيد قواي، وتحريك نسيج الطاقة داخلي، والعودة إلى طريق يطل منه الورد.. كان يتّسع لغزالة شاردة لا تهدأ.
باقية على عهد قطعته مع نفسي ومع عائلتي ومع الله.. «لن أكون إلا قوية، صابرة، حالمة، عاشقة، صادقة، مُقاوِمَة وجميلة»
مقاومة حتى الرمق الأخير..
ظلت على عهدها التي قطعته مع نفسها في نهاية 2017، وبرغم ألمها، بدأت 2018 بألبوم غنائي،
ألبوم بلا غناء، بل موسيقى تولد من ملفاتي الطبية المتحولة إلى رقمية وفيض موسيقى مجنونة، ينسج معها بوح قاطع من صوت خافت: «مقاومة حتى الرمق الأخير».
حالتها الصحيّة لا تسمح لها بالسفر، لكنها لم تستلم من أجل الوصول لجمهورها وعشاقها في الوطن العربي، لم تستلم حتى تحقق أحلامها، حتى يصل إلينا صوتها.
سفر؟ وأنا لا أستطيع الخطو خارج حيّز ماكنة تعينني على المسير، كيف؟ لا أعرف، إنه زمن المعجزات العنيدة، حتى لو لازمت الكرسي المتحرك، لن أستسلم، سأظل أبتكر وسائل جديدة لأصل إليكم، وليسحق صمودي المُقاوِم وجه الاحتلال عن الأرض.
إن ضاق دربيَ المُتعثّر.. أحلم بورد الطريق
ذات يوم، تعطّلت مُحركات الجسد، لا تستطيع الوقوف طويلاً ولا السير خطوتين كي تحضن أطفالها أو لترى الشمس، تنازلت عن كبرياء «الرئم» الغزالة السارحة النشطة.
رموا في وجهي كرسي بعجلتين كبيرتين، أكبر من حدود الكرة الأرضية، جلست وأنا في غياب عن الكلام الذي قيل من حولي كي لا أنكسر، كيف سأتحكم الآن بحركتي وأنا التي كنت أجري في الريح !!.
خرجت من نفسي، وقفت عند زاوية في نهاية الجدران، كنت أنظر إليّ، إلى ريم كالرئم غزالة كانت تجري في الساحات، في المظاهرات، في السفر، في الحب، وفي الخيال.. لا تتعب ولا تتوقف عن الحلم، تسابق الريح كرُمح لا يوقفه الجدار، ولا البنادق، ولا الحرب ولا مدرعات حديدية.. رُمح ينطلق ولا يعود أدراجه.
تدمع عيناي وأنا أراها عاجزة عن الحراك وهي التي كانت تحرّك بلاداً ولا تخشى الموت أو الاعتقال، يا الله.. لماذا تُوقفها عن الحياة.. ما زالت شابة قادرة على العطاء، والآن هي رئم بلا غناء، بأنفاس متقطعة قصيرة، وبلا حراك، يا الله رحماك.
فجأة، وأنا أراقبها، التفتت إليّ بعينين تلمعان كالبرق، فتادركت نفسي، مسحت دموعي واقتربت منها راكعة أمامها أنتظر أن أُعينها، نظرت في عيني وصفعتني، قالت بحزم «أفيقي من ضعفك الآن .. انتهى الندب، ورانا شغل»، أدخليني إلى حياتي..حان موعد التسجيل، أفقتُ من كابوسي التافه وضحكت من نفسي
أن تُقاوم.. يعني إزحف من تحت الأنقاض
أجبروني على محاولة الغناء، كمن تُطالب مشلولاً بالوقوف والانطلاق نحو الشمس، فعلت.. وتم تسجيل أغنية، بوتر وحيد يقاوم، سيصدر ألبومي الجديد في ربيع 2018.
حتى أعضاء جسدها تقاوم
يبدو أن الأمر ينتهي شيئًا فشيئًا، المقاومة تضعف، يبدو أن الحرب شرفت على الانتهاء، فقدت ريم صوتها.. ربما إلى الأبد..، وعند زيارة الطبيب والفحوصات، اكتشف أن وترها الأيمن يقاوم وحيدًا ويقوم بدور الوترين.. حتى أعضاء جسدها تقاوم.
صوتي الذي كنتم تعرفونه، توقّف عن الغناء الآن أحبتي، وربما سيكون هذا إلى الأبد، لا أعلم، لم يستطع الأطباء معرفة السبب بعد كل الفحوصات والصور التي لا تُظهر أي علاقة بين مرضي وشلل الوتر اليساري الذي تسبب به عطب ما في العصب الموصول به والسبب؟ "مجــهــول".
قامت بكشف طبي عند طبيب حنجرة فلسطيني، كانت دهشته كبيرة حين رأى أن الوتر الأيمن سليم، ويجتهد كي يقوم بدور الوتريْن معًا، «حتى أعضاء جسدي كلها تُقاوم وتُجاهد»؟
بصوت خافت مثخن بالجراح.. غنِّ
أنا الآن لا أستطيع الغناء، ولا أعرف ماذا سأفعل في الفترة القادمة، وكيف سأكمل رسالتي بعد فقدان سلاحي ومهنتي التي أملك، وأيضاً مصدر رزقي الوحيد، ما أعرفه جيدًا هو أنني سأظل أقاوم وأجتهد لتحسين صوتي، هذا طبعاً يحتاج وقتاً، سأضطر أن أغير كل أسلوبي الغنائي ربما، لأن صوتي أصلاً سيتغير.
لا أعرف إن كنت سأنجح، وكيف سيكون مسمعه، لكنني سأستمر، كفنانة، كناشطة من أجل الحرية، أو ربما سأتجه أيضاً نحو التمثيل، ذاك حلم حياتي الذي تمنيت أن يتحقق يوماً، أو لتقديم برنامج تلفزيوني ما على إحدى القنوات، وللاستمرار في التطريز الفلسطيني والكتابة أيضاً، أو لا أدري سنفكر معاً، أو سأفكر وحدي، وأعتذر منكم على ذنب لم أقترفه، وأشكركم حقاً على دعمكم ووقوفكم إلى جانبي.
المكابرة «چدعنة».. لكنها في بعض الظروف قد تكون قاتلة
دقات القلب عالية، وتسارع بالنفس، لكنها تُكابر، «سأرتاح قليلاً»، لكن في بعض الظروف المكابرة قد تكون قاتلة.. وفي خلال ساعات قليلة رأت ريم الموت، عاشت لحظات صعبة، وكأن هذا إنذار لها.
جاءت الهجمة شبه القاتلة، على حد وصفها، توقف نفسها تمامًا، وضربات القلب كادت تدق بشدة في صدرها، ونقلوها إلى المستشفى بسيارة العناية المكثفة، كانت شبه مغيبة، لا تستطع النطق بحرف، لا تتذكر سوى الطبيبة التي كانت تهز كتفها بشدة وتصرخ «ريم أنظري في عيني».
نضال ومقاومة حتى داخل سيارة الإسعاف
كان في السيارة فتاتين تتحدثان بالعبرية، لا أعرف لماذا كانتا في السيارة وقد بدا عليهما القلق الشديد، الفتاة باللباس الأبيض، وعلى ما يبدو أنها الطبيبة المرافقة كانت قبيحة، حاجبان سوداوان منكوشان، شاحبة، وصارمة.
أذكر أنها كانت تهز كتفي بشدة، وتقول لي «ريم أنظري في عيني» وبعدها صارت تصرخ أكثر لأني لم أستطع النظر في عينيها، كنت أحس أني لو نظرت، سأعض أنفها وأموت بعدها. للحظة لم أحتمل لهجة الأمر من مُجندة.
كنت أفكر كيف تطلب مني النظر إلى عينيها (أكيد كانت مجندة عالحواجز قبل أن تصير طبيبة)، كان من الصعب حتى في اللحظة الحرجة أن أرد عليها، وصارت أنفاسي تتراجع وكأني سأفقد الوعي.
وصلت المستشفى ولكن بعد ساعتين داخل العناية المركزة، نقلت إلى مستشفى حيفا، لأن حالتها تتطلب تجهيزات طبية غير متوافرة في مستشفى الناصرة
ما الحياة إلا رحلة خرقاء.. والتالي هو الأجمل
داخل سيارة العناية المكثفة، كان وجهها باتجاه الزجاج الخلفي للسيارة، وهي شبه مغيبة، كانت ترى كل شىء يرجع إلى الوراء ساحبًا معه شريط ذاكرتها، الناصرة.. مقاعد الدراسة الخشبية المحفورة بأسماء العشاق.. ساحة العين.. سيارة أمي الفيات الزرقاء.. النزوح من بيت أبي إلى بيت جدتي.
تذكرت البرد القارص في الشتاء، وصوت أبو الأمين «توفيق زياد»، والمظاهرات، وحبها الأول وزواجها، أكلة المجدرة المشتهاة.. تذكرت تعبها وحياتها وأولادها الذين يجتهدون كي تكون حياته أجمل.. ألن أراهم أبداً؟؟.
المسارح التي صعدتها لأحيي فيها حفلات، الهند ونهر الچانچا، أبي الروحي شري برابهوجي وسيدهارتها، أخي الصغير وهو يصعد الدرج حبواً ويلتفت ثم يغشى من الضحك، أمي المرأة الجميلة كأيقونة المجدلية، وهي تطل من درج بيتها الآيل للسقوط وتبتسم، ورد الشبابيك، مطر يرسم وجهي على واجهة زجاجية تطل على فلسطين.
كنت في السيارة أسير عكس الحياة الماضية إلى الأمام، القمر البدر الذي كان بحجم الأرض كبيرًا يطل علي من النافذة المربعة، ويذكرني أنه زارني حين وضعت ابنتي البكر، كان ليلتها بحجم الشمس، وقلت: أنت السبب يا سيد المد والجزر.
يولد من رحم الضوء البعيد ضحكة
اتنبّهت لصوت طبيبة عربية رافقتني بسيارة أخرى للعناية المركزة إلى حيفا، وقالت هناك طبيب فلسطيني من رام الله "شاطر كثير" هو المناوب.. بغمرة الكوارث والإعياء الشديد.. ابتهجت
«غرفة الصدمة»
استمرت حالتها الصحية بهذا الوضع لـ 10 ساعات، ضربات قلبها بسرعة الصواريخ، وعالية كصوت القنابل، وتركض أنفاسها وراء الحياة دون فائدة، حتى وصلت المستشفى وأدخلها الأطباء «غرفة الصدمة».
مكان بارد، لا يبدو أليفاً يسمونها هنا «غرفة الصدمة»، فعلاً جسدي كله كان مصدوماً حتى أني لم أنم بعدها 36 ساعة من شدة توتر الجسم، والصدمة التي عشتها، بالنهاية أعطوني منوم، وأُجريت لي شبه عملية صغيرة، وأدخل الطبيب يوسف «نرابيج» في طرف الرئة كي تسحب كل السوائل منها، هذه المرة كانت الأفضل حيث تأكدنا أن السائل كله خرج.
لا أبالي
قال الطبيب هذا الصباح: الله بحبك طلعتي منها
ريم: شو هي؟
الطبيب: جلطة عالرئة
ريم: أنا جلطة عالرئة؟ أنا بجلط بلد وبنجلطش
مع مرور الوقت بدأت مقاومة ريم تضعف، خاصة في الشهر الأخير قبل وفاتها، طموحها بدأ يتضائل شيئًا فشيئًا، تحوّلت من محبة للحياة مبتسمة تقاوم الحياة وتحاربها بابتسامتها، إلى أن «تبقى على قيد الحياة».
مع كل نَفَس وجع.. فكيف لن تخرج الأغاني ثائرة
أعلنت منذ شهر عن ألبومها، لكن رئتها والسرطان كان لهما رأي آخر، ظلت تقاوم من أجل أن تصدر ألبومها الغنائي، الذي قررت أن يكون لـ «المقاومة الفلسطينية»، لكن القدر أخذها قبل أن يرى ألبومها النور.
أنا بخير ... لكن كل ما حولي ليسوا بخير
في أيامها الأخيرة، شعرت ريم بأنها عبء على من حولها، على الطب والمستشفيات التي عجزت عن علاجها، عبء حتى على الوطن الذي عشقته، عبء على درب الأحلام، وعبء على ليل لا يتحمل أرق مألوم.. ولا حيلة في اليد.
فصل مزيّف...
قبل أسبوعين من رحيلها، حاولت ريم تخفيف المعاناة القاسية على أولادها، فاخترعت هذا السيناريو:
لا تخافوا.. هذا الجسد كقميص رثّ لا يدوم
حين أخلعه، سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق، وأترك الجنازة و «خراريف العزاء» عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام، مراقبة الأخريات الداخلات والروائح المحتقنة
سأجري كغزالة إلى بيتي
سأطهو وجبة عشاء طيبة
سأرتب البيت وأشعل الشموع
وانتظر عودتكم في الشرفة كالعادة
أجلس مع فنجان الميرمية
أرقب مرج ابن عامر
وأقول: هذه الحياة جميلة
والموت كالتاريخ
فصل مزيّف
الروح حاضرة أبدًا
رحلت عن عالمنا ريم «الغزالة الشاردة»، لكن تركت لنا أثر لا يزول، تركت بسمة على كل من يتذكرها او يستمع لأغانيها، تركت مقاومة ونضال أمام الاحتلال والسرطان، تركت لنا الحب.. وتركتنا للحنين..
اقرأ أيضا
بالفيديو - تشييع جثمان ريم بنا على أنغام "موطني" و النشيد الوطني الفلسطيني
هكذا نعى مشاهير العرب ريم بنا .. هنيدي يستعين بأغنيتها ومارسيل خليفة ومحمد محسن يوجهان لها رسالة