قبل يومين كان فيلم "ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبنج ميزوري" للمخرج والمؤلف مارتن ماكدونا هو الرابح الأكبر في حفل توزيع جوائز جولدن جلوب الخامس والسبعين؛ بتتويجه بأربع جوائز رئيسية هي أحسن فيلم درامي وأحسن سيناريو وأحسن ممثلة وأحسن ممثل مساعد، وكلها جوائز من المتوقع أن يكرر الفيلم حصدها من تماثيل الأوسكار مطلع مارس المقبل، مالم يكن لأعضاء الأكاديمية رأي آخر من آرائهم الغريبة والصادمة.
تتويج فيلم ماكدونا ـ الذي اخترناه فيلماً للعام فور مشاهدته في مهرجان دبي السينمائي الرابع عشر ـ خبر سعيد لمحبي السينما بشكلها الأولي، الشكل الذي لم ينس أصحابه أن السينما كانت في عصرها الذهبي تكاملاً بين الشكل والمضمون، الفن والجاذبية، رضا النقاد والجمهور، قبل أن تنقسم مع مرور السنوات لتصير ـ في تسعين بالمائة من الحالات على الأقل ـ منحازة لجانب من الاثنين: إما أن تكون تجارية جماهيرية تعيد تدوير أفكار وحبكات شوهدت من قبل باستخدام تقنيات أحدث وميزانيات أكبر سعياً لجمع مئات الملايين وأحياناً بلوغ المليارات، أو تكون ذهنية متحذلقة، متقشفة بصرياً تربط القيمة بصعوبة التلقي ومحدودية الجمهور.
"ثلاث لوحات إعلانية.." لن يجمع المليارات لكنه بالتأكيد مشروع إنتاجي فائق النجاح حقق لصناعه أضعاف ما استثمروه فيه، وهو بالقطع فيلم عال القيمة الفنية والفكرية، لكن الأهم هو كونه فيلماً مدهشاً في كل لحظاته، طازج ورطب، خفيف الظل والروح على ثقل موضوعه وأفكاره، ينتمي لسينما جادة على كل المستويات، دون أن يأتي هذا على حساب المتعة كقيمة أساسية بدأت علاقة كل إنسان بالسينما انطلاقاً منها.
عبقرية الإدهاش
حكاية الفيلم التي لا تكشفها فقط مواده الدعائية وإنها عنوانه نفسه صارت معروفة للجميع: امرأة في بلدة صغيرة بولاية ميزوري تتعرض ابنتها للاغتصاب والقتل، تمر سنة دون أن تصل الشرطة لنتيجة في التحقيق فتشعر المرأة بأنهم مقصرين في عملهم لا يريدون للقضية أن تُحل، فتقرر استئجار ثلاث لوحات إعلانية تلوم فيها رئيس الشرطة على تهاونه.
خبراء السيناريو يستخدمون مصطلح High Concept أي الفكرة العليا أو البائعة، الفكرة القادرة على تسويق نفسها بنفسها؛ فعندما يقول صانع أفلام على سبيل المثال أن فيلمه عن رجل يجد ريموت كنترول يمكنه من التحكم في حياته بالإيقاف والإعادة والتسريع، فهذه فكرة تملك جاذبيتها داخلها، صالحة دائماً لجذب انتباه المنتجين والمشاهدين فور سماعها، دون أن يرتبط ذلك بقدرة من يحولها فيلماً أن يصيغها بشكل يناسب جاذبيتها (وهو ما حدث بالفعل مع الفكرة المذكورة في فيلم متواضع بعنوان "كليك").
فكرة "ثلاث لوحات إعلانية.." هي النقيض تماماً من هذا الوصف، هي ليست فكرة عليا بل يمكن اعتبارها فكرة سُفلى إن كان هذا وصف جائز. من ذا الذي سيتحمس مبدئياً لمشاهدة فكرة كهذه؟ وما هو المسار المتوقع للأحداث بعد أن ترفع السيدة لوحاتها الاحتجاجية؟
مارتن ماكدونا يستفيد كلياً من عنصر غياب التوقعات، ليصيغ سيناريو قد يكون الأفضل في السينما الأمريكية خلال العقد الحالي، سيناريو عبقريته تكمن في قدرته على الإدهاش في كل لحظة على مدار ساعتي الفيلم. لا شيء متوقع، سواء في بناء الشخصيات ودوافعها فيما تتخذه من قرارات وأفعال، أو فيما تسفر عنه هذه الأفعال من تصاعد لأحداث تجعل من بلدة إيبنج التي يكاد كل سكانها يعرفون بعضهم البعض مسرحاً لمهزلة درامية من الطراز الفريد. مهزلة عنوانها عقدة الذنب وشطط الإقدام.
بين الذنب والمبادئة
التيمة الرئيسية للفيلم هي عقدة الذنب، التي سرعان ما نكتشف أنها ـ بتنويعات متباينة ـ تُشكل المنطلق الرئيسي لكافة الشخصيات الفاعلة في الفيلم، والفاعلة هنا وصف بالغ الدقة للأبطال الذين اختار ماكدونا أن تجمعهم سمات الإقدام والمبادئة.
جميع شخصيات الفيلم بلا استثناء وعلى مختلف توجهاتهم شخصيات إيجابية درامياً، آخذة للخطوات والقرارات، عندما تؤمن بفكرة أو حتى يسيطر عليها شعور تُترجمه فوراً إلى فعل جريء وأحياناً جنوني، ليصير قرار الأم ملدريد (أداء مذهل من المخضرمة فرانسيس مكدورماند سيكون من الجنون ألا يكلل بالأوسكار) باستئجار اللوحات الإعلانية، بكل ما يتنج عنه من اعتراضات واحتقان، يصير هو أعقل قرار تتخذه إحدى شخصيات الفيلم، ولك أن تتخيل قدر الصخب والمفارقات التي يخلقها تصادم شخصيات كهذه.
غير أن ما يحمي الفيلم من أن يكون مجرد تصاعد، كوميدي أو تراجيدي، لأفعال شخصيات مندفعة، هو الأرضية الإنسانية التي تقف عليها هذه الشخصيات. هذه شخصيات بالغة الواقعية مهما تصرفت بغرابة كوميدية، واقعية أكثر من الواقع نفسه بما تملكه من ضعف ممزوج بالإيجابية. الجمهور يحب الأبطال الفاعلين، وتلمسه إنسانية من يمكنه تفهم ما يمرون به، والحوار الذي دار بين ملدريد وابنتها ليلة الحادث حوار قاس لكنه طبيعي وممكن الحدوث، كذلك ورطة رئيس الشرطة في قضية لا يجد سبيلاً لحلها وشعوره بالتقصير والذنب مهنياً وإنسانياً، بل ما يوحي به السيناريو دون ثانية من التصريح بوجود علاقة قديمة بين البطلة ورئيس الشرطة. كلها تنويعات لما يفعله الفيلم بمشاهدة طيلة الوقت: يجبره أن يضع نفسه مكان الأبطال، يتورط رغماً عنه في عالمهم لأن كل ما جرى لهم ـ على غرابته ـ يمكن ببساطة أن يُعاش.
قيمة السيناريو تكتمل بأن كل شخصياته، الرئيسي منها والداعم، تقطع رحلة درامية مكتملة تغير في الشخص داخلياً وخارجياً، تنقلب حياته وأحياناً تنتهي ليكمل كل منهم دورة نضجه الخاصة. ولا يوجد ما هو أوضح وأروع من الرحلة الدرامية لشخصية المفتش العنصري متواضع الذكاء من مقعد شرير الفيلم إلى منصة البطولة. رحلة درامية صالحة أن تكون مادة تدريس لكل من يريد تعلم كتابة السيناريو، خاصة بما أضفاه عليه أداء سام روكويل العصابي من جاذبية، ليقدم دور عمره الذي استحق عليه بالتأكيد الجولدن جلوب (والأسكار ربما).
فن إخراج الدراما
كل الحديث السابق بلا استثناء يتعلق بعنصري السيناريو والتمثيل، العاملان اللذان يقوم عليهما القدر الأكبر من قيمة هذا الفيلم المدهش. ربما لهذا رأت رابطة الصحفيين الأجانب في هوليوود أن المكسيكي جويرمو ديل تورو هو الأحق بجائزة الإخراج عن "شكل الماء"، فيلمه البديع الذي سيظلمه في سباق الجوائز ظهوره في عام واحد مع "ثلاث لوحات إعلانية..".
قد نتفق جزئياً باعتبار أن ما قدمه ديل تورو إنجاز إخراجي حقيقي يعود لعصر السينما الكلاسيكية التي تنسج من الإنجاز البصري والصوتي ملحمة فانتازية تداعب الخيال والمشاعر. لكن هذا لا يجب أن يجعلنا نتجاوز الإشارة لأن ما فعله مارتن ماكدونا هو الصورة المُثلى لإخراج نص بهذا الزخم الدرامي.
"ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبنج ميزوري" نص لا يحتمل المزيد من الصخب الإخراجي لأنه يمتلك عضوياً ما يكفيه، ويكون على مخرجه أن يتراجع خطوتين للخلف: يوجه ممثليه وهم كنزه الإخراجي بإحكام، ويعمل بجد على رسم الجو العام الصحيح للحكاية في شريطي الصورة والصوت؛ فتكون النتيجة فيلماً من أروع ما قدمته هوليوود في القرن الجديد، فيلماً يحمل يعيد الأمل في سينما أمريكية مدهشة وممتعة.
اقرأ للكاتب
"غداء العيد".. فيلم لبناني جداً ولكن
"قضية رقم 23".. المحاكمة داخل الفيلم وخارجه