بختام مهرجان دبي السينمائي الرابع عشر، كان فيلم "واجب" للفلسطينية آن ماري جاسر هو درة الأفلام العربية وأنجحها بالمهرجان، كيف لا وهو الفيلم الذي جمع بين الفوز بجائزة المهرجان الكبرى (المُهر الطويل)، والتتويج بجائزة أحسن ممثل مناصفة بين بطليه محمد وصالح بكري، الأب والابن اللذان صارا على مدار أكثر من ثلاثين سنة صورة الفلسطيني على الشاشة، واللذين وضعتهما جاسر أمام بعضهما في فيلم طويل للمرة الأولى، تماماً كما كان لها السبق في أن تكون أول مخرجة فلسطينية تُنجز فيلماً روائياً طويلاً عندما قدمت "ملح هذا البحر" عام 2008 وتبعته بـ"لمّا شفتك" في 2012.
شاهدنا "واجب" في عرضه العالمي الأول ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان لوكارنو السينمائي خلال أغسطس الماضي و كتبنا عنه بالتفصيل، ومن وقتها والفيلم يخوض رحلة ناجحة في المهرجانات الدولية قبل أن يحط في دبي من أجل عرضه الأول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويفوز بالجائزتين اللتين ستساهما بالتأكيد في استكمال مسيرته الناجحة. خلال مهرجان دبي كان هذا الحوار الأولي مع آن ماري جاسر، والذي لم يطول كثيراً بسبب ضيق الوقت ورغبة عدد ضخم من الصحفيين في اللقاء بالمخرجة، والذي سيتبعه بالتأكيد استكمال في فرص لاحقة مع صانعة أفلام يحتاج الحديث معها للمزيد من الوقت والتفصيل.
كناقد ومشاهد ذكر عربي، أثار اهتمامي قرار مخرجة أنثى بالتصدي لعلاقة الأب والابن، أعقد علاقة تكوّن أي ذكر عربي فهي دائماً إما أفضل ما في حياة الرجل أو أسوأ ما فيها. لماذا قررتي التصدي لهذه الفكرة؟
عندما كتبت فيلم "لما شفتك" لم أكن بعد قد أصبحت أماً، لكنه فيلم يحلل مشاعر الأم بالابن الذكر رغم أنني لم أجرب شعور أي طرف منهما. حكاية "واجب" تنطلق من توزيع بطاقات الدعوة للزفاف وهو فعل يؤديه الرجال، عادة ذكورية بحتة. ربما ما دفعني للتحدي هو أمر قد تراه "كليشيهاً" نمطياً هو ملاحظتي أن الرجال لا يتحدثون فيما بينهم، ولا يميلون لتعرية مشاعرهم أمام بعضهم البعض؛ هذا أثارني لكتابة نص صحيح إنه حواري يتضمن الكثير من الحديث بين شادي وأبيه، لكنه أيضاً يكشف عن الصمت الدائم بينهما، وكيف إن كل منهما في حاجة لأن يحكي للآخر لكنه لم يقدم أبداً على هذا.
الأمر نفسه يمكن أن تراه في تفصيلة استخدام التدخين في الفيلم. أعرف كثيراً من الرجال العرب يدخنون بحرية أمام العالم كله لكنهم لا يدخنون أمام آبائهم. الثقافة العربية أشبه برقصة يؤدي كل منا دوره داخلها، لكن الأمر أوضح في حالة العلاقة بين الرجال. أغلب الرجال لديهم هذه الحالة. يكون الرجل قريب جداً لإنسان، لكن هناك فراغ بينهما لا يملآنه أبداً بالإفصاح عن مشاعرهم. "واجب" هو محاولة لدراسة هذا الفراغ.
يقودنا هذا للمستوى الثاني في الحكاية، وهي أن البطلين ليسا فقط أب وابن، وإنما هما يمثلان فلسطينيي الداخل والخارج، وكذلك شكلي العلاقة مع الاحتلال؛ فالابن هو النضال الكلاسيكي بمعناه الراديكالي الرافض لأي علاقة مع المحتل، والأب هو تمثيل فكرة الموائمة والتنازل النسبي من أجل العيش وتربية الأبناء. هل كان هذا أيضاً أحد طروحاتك؟
بالتأكيد هو موجود بالفيلم، مع ملاحظة أن تكوين شادي النضالي ليس سببه أنه يعيش خارج فلسطين، هو كان هكذا قبل أن يسافر للخارج، بل إنه قد ترك البلد من أجل هذا التكوين. هذا يخبرنا شيئاً عن الفروق بين الجيلين. يجب أن نذكر الجميع دائماً أن أبي شادي ينتمي لجيل عاش الحكم العسكري في الناصرة. في الفترة بين 48 و66 كان ممنوعاً على فلسطينيي الداخل أن يتحدثوا عن الوطن، حتى ذكر كلمة "فلسطين" كانت تعني العقاب والتنكيل، استخدام ألوان العلم الفلسطيني أو الحديث عن الهوية يقودك فوراً إلى السجن.
أبو شادي آت من هذه المرحلة التي صاغت طريقة تعامله مع العالم. في أحد النقاشات بعد الفيلم سألني شخص لماذا شادي غاضب دائماً، رددت بأن أبيه أيضاً لا يقل غضباً، لكنه يعبر عن غضبه بصورة مختلفة. لقد تعلم مع السنوات كيف يمكن أن يعبر على طريقته دون أن يتعرض للأذى.
شادي وأبوه هما أيضاً صالح ومحمد بكري. وجود الأب والابن على الشاشة ونحن نعرف بحقيقة رابط الدم بينهما ساهم في إثراء دراما الفيلم بخلفيات العلاقية بين البطلين وحتى التشابه الشكلي بينهما. هل كان محمد وصالح بكري في ذهنك من البداية خلال كتابة السيناريو؟
رغبت من اللحظة الأولى أن يكون شادي هو صالح بكري الذي أحببت العمل معه من قبل، أما محمد بكري فلطالما رغبت في العمل معه لكني كنت أخاف من فكرة عمله مع صالح في فيلم واحد. الموضوع بالأساس شخصي ومعقد وإضافة علاقة حقيقية ستزيد من صعوبته عليهما وعليّ. ناهيك عن اختلاف الواقع عن شخصيات الفيلم؛ فمحمد بكري رجل ذو كاريزما ملفتة بينما أبو شادي رجل هادئ لا تلاحظ وجوده في مكان، صالح يحب والده ويقدره ويضعه في مرتبة شاهقة بينما شادي لا يحترم أبيه ويخجل منه.
في النهاية قررت المخاطرة ووضعتهما سوياً وداخلي قناعة أن بإمكانهما مفاجئتي بأداء أفضل من توقعاتي، وكان هذا أفضل قرار أتخذته في الفيلم؛ فالنتيجة أسعدتني خاصة من جهة محمد بكري الذي أضاف للشخصية الكثير بالفعل.
اقرأ أيضا
خاص (في الفن)- رسالة مهرجان لوكارنو: "واجب".. حكاية فلسطينية عن الأب والابن والوطن
فيلم "واجب" من فلسطين يفوز بجائزة أفضل فيلم بمسابقة "المهر الطويل" في "دبي السينمائي"