أسماء عديدة صعدت على مسرح الأرينا، المسرح الرئيسي في مهرجان دبي السينمائي الذي يتسع لقرابة الألفي مشاهد، من أجل تلقي تكريماً من المهرجان عبر تاريخه، فهذا العام فقط تلقى التكريم بنوعيه (إنجاز الفنانين وتكريم دبي السينمائي) نجوم بحجم كيت بلانشيت وعرفان خان وباتريك ستيوارت. غير إن لحظة صعود الكاتب المصري وحيد حامد لتلقي الجائزة عن مجمل أعماله، كانت لحظة خاصة جداً ستظل طويلاً في أذهان من عاشوها من محبي حامد، المخلصين غالباً.
وحيد حامد، الفتى الريفي الذي زحف للقاهرة مطارداً حلمه بالكتابة المسرحية ثم الإذاعية، قبل أن يكتشف الكتابة للسينما بقرار لحظي كان وقتها تحدياً للذات وللاستهانة بقدراته، انطلاقاً من شخصية يعرف من يقترب من صاحبها قدرته العجيبة على رفض التهميش؛ فهو رجل لم يكن أبداً على الهامش. اختار في كل لحظة من حياته المواجهة الفنية والفكرية في أوقات كان الجميع يفر منها إما خوفاً من التبعات أو حفاظاً على بعض المكاسب.
"طائر الليل الحزين كان مسلسلاً إذاعياً حقق نجاحاً كبيراً. بسبب نجاح المسلسل واهتمام الناس به، جاء عرض بتحويله فيلماً سينمائياً. لكن العرض وقتها كان أن يشتروا مني القصة، ويأتوا بكاتب سيناريو ليحولها للسينما، فأنا كنت كاتب مبتدئ لم أكتب من قبل للسينما، بل ولا توجد لي أي علاقة بها. لكني طلبت منهم أن أقوم أنا بكتابة الفيلم، في البداية قوبل طلبي بالرفض باعتباره مغامرة غير محسوبة، قبل أن يوافق المنتجان منيب شافعي ومخلص شافعي على منحي فرصة، تتلخص في أن أكتب السيناريو، فإن أعجبهما قاما بشراء السيناريو، وإن لم يعجبهم يكون لهم الحق في أخذ القصة وإعطاءها لكاتب محترف.
وافقت على العرض، لأجد نفسي في ورطة عدم معرفتي بكيفية الكتابة للسينما، فأنا كاتب إذاعي ومسرحي، ولا أعرف حتى كيف يمكن أن تُكتب السيناريوهات على الورق، لدرجة أني بحثت عن سيناريوهات مكتوبة فقط لأعرف (فورمات) الكتابة، وكانت ملاحظتي الأولى أن قراءة السيناريو قراءة ثقيلة وغير ممتعة، لكني أدركت الشكل وقمت بكتابة السيناريو، لتكون المفاجأة في رد فعلهم المتمثل في إعجاب شديد من قبل المنتجين بل والممثلين كذلك، حتى أن المرحوم عادل أدهم قال لي أنه يقرأ السيناريوهات ممسكا بقلم رصاص ليكتب ملاحظاته عليها، لكنه لم يستخدم القلم عند قراءته لهذا السيناريو. وأعتقد إن لم تخني الذاكرة أن أجري كان 1500 جنيه عن السيناريو، ولكن الأستاذ محمود مرسي سألني عنه ولم يعجبه الرقم، فطلب من منيب ومخلص أن يعطياني حقي، فقاما بمنحي ألف جنيه إضافية".
وصول هذا الشاب الحالم إلى منصة تكرمه جنباً إلى جنب مع أكبر نجوم هوليوود وبوليوود بصناعاتهم المليونية، بل ويتلقى احتفاءً أكبر من الحضور ـ بحكم التواجد المصري الكبير ربما ـ هو تعبير صادق عن رحلة ملهمة قطعها حامد من الموهوب الصعلوك الذي يتحدى العالم كي يثبت قدراته، وصولاً لقمة هرم الكتابة السينمائية في مصر والعالم العربي.
الحديث عن وحيد حامد دائماً ما يرتبط بالسياسة التي كان باستمرار أحد كتابها الفاعلين على الشاشة وخارجها في الصحافة، والكل يذكر بمجرد ذكر اسمه أعمالاً مثل "البرئ" و"طيور الظلام" و"ملف في الآداب" و"العائلة"، وغيرها من النصوص التي حملت داخلها ليس فقط قراءة في الواقع السياسي والاجتماعي، ولكن استبصاراً يصل حد التنبؤ ببعض الأحداث التي صارت لاحقاً وقائع حقيقية. غير أن هذا الإطراء الشائع ـ على صحته ـ يبخس وحيد حامد حقه ويقلل من إنجازه الفني، الذي يقوم على عنصرين مهمين بجوار بصيرته السياسية والاجتماعية: موهبة مبهرة في النفاذ لنفوس شخصياته الدرامية ليشكلهم على الورق بشر من لحم ودم وروح، وحرفة حاذقة تجعله قادراً على صياغة نصوصاً مبهرة من أفكار قد لا تعد في صورتها المجردة بالكثير.
كي نفهم الفارق علينا أن ننظر على سبيل المثال إلى سيناريو فيلم "الغول"، القصة التي يمكن أن يحولها أي كاتب آخر لمجرد فيلم تشويقي اعتيادي عن صحفي يحاول إثبات التهمة على من قتل صديقه العازف الفقير، لكن حامد يخلق من الفكرة عالماً كاملاً من الإثارة والتماسك الدرامي والقانوني لتطورات الحبكة، ويمزجها بموقف من النظام الاقتصادي والسياسي وصل لأن يُفسر البعض الفيلم بشكل فاق توقعات المؤلف نفسه ويربطون مشهد النهاية بمقتل السادات. هي الحرفة التي تخلق دائماً نصاً "حمّال أوجه"، يمكن تأويله بطرق شتى وكلها صحيحة، خاصة عندما تثري ثقافة الكاتب الفيلم بتفاصيل مثل حمل البطل لكتاب أندري مارلو "قدر الإنسان" وقت قتله لرجل الأعمال مركز القوى.
"بعض الإضافات في الغول كانت من ذهني وبعضها أضافها المخرج سمير سيف. أذكر مثلاً مشهد القتل الأخير تم تصويره في نادي الصيد، وأثناء تحضيرهم للمشهد جائتني فكرة إضافة كتاب مارلو، فطلبت منهم الانتظار قليلا، وتوجهت من نادي الصيد لمنزلي وأحضرت الكتاب ليمسكه عادل خلال المشهد. هذه أمور تضيف قيمة وعمق للمشاهد، ولا يقوم بها إلا المرضى بالحب، المرضى بحب السينما وحب عملهم وحب الإتقان، وأعتقد أن هذا ينطبق في الفيلم على مخرجه وبطله ومؤلفه".
مثال آخر للموهبة هو سيناريو "الإنسان يعيش مرة واحدة"، وهو أحد أفلام وحيد حامد البعيدة كلياً عن السياسة لكنه يرتقي لمرتبة القصيدة في بصيرته لضعف النفس البشرية عبر ثلاث شخصيات يجمعها الهروب إلى المنفى بمدينة السلوم: المقامر والحبيبة والهارب من الثأر. نصف الفيلم بالقصيدة لامتلاكه تلك اللغة الشعرية التي يعبر الحدث واللفظ فيها على طيف من المعان عن بحث الإنسان على السعادة والاتزان والراحة في الحياة، دون أن يقولها النص صراحة ولو مرة وحيدة.
"هناك أفلام صالحة لأن تقع في حبها، لكن من الذي يقع في هذا الحب؟ إنهم أصحاب الحس، الذين نالوا قدرا من التعليم، فنما داخلهم إحساس بالجمال واستعداد لتلقي هذا النوع من الأفلام الإنسانية. وفيلم "الإنسان يعيش مرة واحدة" من هذه النوعية التي ينتمي لها فيلم آخر كتبته هو "أنا وأنت وساعات السفر"، والذي عشت بسببه الكثير من المواقف الغريبة، فقد كنت أتلقى اتصالات من العديد من الأشخاص يؤكدون أنني كتبت حكايتهم التي عاشوها في الحقيقة، منهم من يتحدث بغلظة ويهددني بأنه سيقاضيني، ومنهم من يتفهم حقيقة الأمر ويشكرني على تمكني من التعبير عن حالة عاش مثيلها في الواقع.
أحياناً يكون الكاتب كالطبيب الذي يذهب له الإنسان يعاني من ألم، فيلمس بيده موضع الألم حتى يتمكن من علاجه، والشرط هو أن يكون قد لمس موطن الألم بصدق وبساطة ودون مبالغة، لأن المبالغة تفسد أي عمل فني".
وحيد حامد الذي انحاز دوماً أن يكون صوتاً للبسطاء، يعبر عن آلامهم ويحاول أن ينتصر لرغبتهم في حياة كريمة، وجزء من هذه الكرامة ألا يتعرضون لغسل أدمغتهم سواء من التطرف الديني أو الأيديولوجي. الخيار الصعب الذي وضعه طوال الوقت موضع هجوم الجميع، فربما يكون هو الكاتب الوحيد الذي عادته السلطة والمعارضة والجماعات الإسلامية معاً. لكن عبقريته تكمن في القدرة على خلق مكانته بقلمه فقط، ليصير تأثيره أكبر من أن يتم قمعه، وتصبح حريته حقاً مكتسباً لا يحتاج في سبيلها أن يتاجر بأي شيء ولو كان المعارضة التي يجيد البعض الاستفادة منها ولو كانت صورية خالية من المعنى والتأثير.
"عشت في الوسط الفني والثقافي نصف قرن، ويمكنني القول بأن هناك أشخاص يبدأون يومهم بالدعاء (يارب يتقبض عليّا النهارده)، ومن غباء أي نظام أن يحقق لهم أمنيتهم أو يمنع آرائهم لأنهم يستمدون أهميتهم من هذا المنع، بينما لو تركوا ليقولوا ويقدموا ما يمكنهم تقديمه فلن ينتبه لهم الناس. أما أنا فقد حاولت ـ قدر الإمكان ـ أن يكون تأثيراً مستمداً مما أكتبه فقط ومن حب الناس وتعاطفه مع أعمالي".
"يكذب من يقول أني كتبت مسلسل "العائلة" بتكليف من أحد أو كخطة حكومية لمحاربة الإرهاب، بل كتبته من تلقاء نفسي ككل أعمالي، وقدمته لقطاع الإنتاج الذي كان وقتها الجهة الوحيدة التي تنتج أعمالا تلفزيونية، وعُرض على لجان القراءة بالقطاع بشكل طبيعي حتى تم تصعيده إلى وزير الإعلام صفوت الشريف. وقتها تم استدعائي لقطاع الإنتاج، وطلبوا مني صراحة أن أخفف من نبرة معاداة التطرف الديني، لأن الدولة غير راغبة في استعداء الجماعات المتطرفة في الصعيد. رفضت ما طلبوه وظل السيناريو معلقا لمدة سنتين، حتى بدأت الجماعات الإرهابية في تنفيذ عمليات دون أن يستفزها أحد، فتم استدعائي لاجتماع مع صفوت الشريف وممدوح الليثي رئيس القطاع، وأخبروني بالموافقة على إنتاج المسلسل كما كتبته.
كان المفترض أن يخرج المسلسل عاطف الطيب، وكان المرشح لبطولته عدد من الممثلين اعتذروا لأسباب واهية، ربما بدافع الخوف، فما كان مني إلا أن اتصلت بمحمود مرسي، وهو أستاذي وكنت أحبه وأقدره ويكن لي حب وتقدير مماثل، عرضت عليه الأمر بوضوح وأننا عرضنا المسلسل على آخرين فأحجموا، وقلت له أنه أنسب من يلعب الدور، فرد وسألني: إذا كنت أصلح ممثل للدور، فلماذا لم تعرضه على من البداية؟ فقلت له أني كنت بصراحة أخاف عليك، فرد علي بجملة لا أنساها، قال لي: وحيد ابعت لي المسلسل، لو كان سيئا سأرفضه، لكن لو المشكلة في الإرهاب، فأنا مستعد أن أمسك ببندقية وأقاتله معك. وهكذا جاء العظيم محمود مرسي بطلا للمسلسل".
ورغم أن معظم المحاورات التي تُجرى معاه تدور حول السياسة وأعماله المتعلقة بها، ربما لأنه الأمر الذي لا تنقطع أهميته ولا تفاعل الناس معه، إلا أن وحيد حامد أستاذ حقيقي، أستاذ يمكنه عبر كلمات بسيطة مستمدة من الثقافة المصرية أن ينقل لمن يجالسه خبرات كبيرة وتفاصيل تتعلق بمهنته التي يرفض أن يصفها بالمهنة، فهي متعته التي يمارسها كلما شعر بالضيق أو بالرغبة في تفريغ شحنة أو التعبير عن شعور؛ لذا فمجالسة وحيد حامد والسماع لحكاياته حول الكتابة هي متعة أخرى يمكن أن تضاهي مشادة أعماله.
"هناك مشاهد مفصلية، للحرفة دور مهم فيها، مشهد سؤال البطل عن مطالب الرهائن في "الإرهاب والكباب"، مشهد المواجهة بين أحمد زكي وعزت أبو عوف في "اضحك الصورة تطلع حلوة". هذه مشاهد ينام الكاتب وهو يحلم بها، وتتجلى حرفته عندما يقوم في الصباح بتنقيح ما ازدحم به رأسه ليصيغه في مشهد مؤثر له قيمته في بناء الفيلم.
أما النوع الآخر من المشاهد فهي تلك التي تأتي فجأة، تجدها تُكتب على الورق دون تخطيط مسبق. مشهد مثل الذي تقول فيه سناء جميل أمام الأبراج: احنا صغيرين قوي يا سيد. هذا مشهد غير مخطط، لا تلعب الحرفة فيه أي دور ولا يمكن الترتيب لكتابته وإلا بدا ماسخاً. مشاهد هذا النوع لا تأتي إلا بالتجربة الحياتية، بامتلاك ذخيرة ورؤية وهمّ يدفعك لما تفعله. بالتعبير العامي أن تكون (حامل في شي ما) فيجد طريقه إلى الورق".
ملاحظة أخيرة تتعلق بكلمة وحيد حامد على مسرح الأرينا وقت تلقيه التكريم، الكلمة التي تخلصت من العيب الأزلي لمعظم كلمات الفنانين المصريين في المهرجانات العربية، والتي تتراوح في معظمها بين الحديث الشوفيني عن مصر هوليوود الشرق التي علمت العرب، النبرة المتعالية التي دائماً ما تأتي بنتائج عكسية، وبين المجاملة والمبالغة في الحديث عن السينما العربية الذي يبخس الصناعة المصرية حقها وتأثيرها الفعلي، فواقع الأمر أن تأثير السينما العربية على المبدعين المصريين ـ خاصة الآتين من الصناعة التقليدية ـ تكاد تنعدم.
حامد كان منضبطاً كالعادة في التعبير عن سعادته بالتكريم في مهرجان يخطو خطوات واثقة نحو الأفضل كمهرجان دبي، مع الحديث بصدق عن مدرسة السينما المصرية التي تربى فيها، والفريق الهائل من المبدعين الذين عمل معهم فتعلم منهم وعلمهم، فوحيد هو ابن السينما المصرية النجيب، ومثالها الحي لقدرة هذه الصناعة على تقديم مبدعين متفردين أصحاب هم وقضية وموهبة، مبدعين يتصدرهم الوحيد الذي أنار سماء دبي بتكريمه.
(ملحوظة: الاقتباسات على لسان وحيد حامد من سلسلة محاورات أجريتها معه بهدف النشر في كتاب يتناول جميع أفلامه، لكن مادته لم تكتمل حتى لحظتنا للأسف الشديد).
اقرأ أيضا
74 صورة- مشاهير الفن يضيئون حفل افتتاح مهرجان دبي السينمائي.. منهم حلمي ومنى ويسرا ومنة شلبي