عندما يخرج المشاهد من الفيلم وهو متحير في تحديد السبب الرئيسي وراء إعجابه به، فنحن أمام عمل استثنائي يندر مشاهدة مثله، وهو ما ينطبق على فيلم Loving Vincent "مع حبي فينسنت" للمخرجَيْن دوروتا كوبيلا وهيو فيلشمان، الذي عرض في إطار القسم الرسمي خارج المسابقة في الدورة الأولى من مهرجان الجونة السينمائي.
منذ بداية الإعلان عن هذا الفيلم وظهور إعلاناته، وهناك حالة من الترقب لعملٍ تفاصيله تخبرنا أن به الكثير من الاختلاف، لكن ظهور الفيلم نفسه كان يحتوي على عدة مفاجآت سارة للمشاهدين.
كواليس استثنائية
الأفلام التي تحصل على لقب ”الأول“ دائمًا تحمل على كاهلها عبئًا، إذ أن أي تجربة أولى مهددة بظهور الكثير من العيوب، لكنها في الوقت نفسه تحمل دائمًا لقب ”الأول“ الذي لا يُنتزع.
فيلم Loving Vincent هو أول فيلم تحريك مرسوم بالكامل باستخدام اللوحات الزيتية، لكن ليست أي لوحات زيتية، استخدم الفيلم قرابة 100 رسام من عدة دول لرسم لوحات الفيلم بطريقة خاصة، وتفاصيل صناعة الفيلم لا تقل متعة عن متعة مشاهدة الفيلم.
لإضفاء المزيد من الحياة على شخصيات الفيلم ولوحاته، أدى عدد من الممثلين مشاهد الفيلم المختلفة أمام شاشة خضراء، وأضيفت الخلفيات والتأثيرات المطلوبة بواسطة الكمبيوتر، ثم جاءت مرحلة الرسم. أُخذت هذه المشاهد ووُزعت على الفنانين ليبدأ كل فنان في إعادة تحويل المشاهد الحية إلى لوحات مرسومة، ولكن ليست أي لوحات، بل لوحات باستخدام نفس ألوان وتقنية فان جوخ في الرسم.
وكانت المرحلة الأخيرة في أخذ اللوحات المرسومة وإعادة إدخالها على الكمبيوتر ومن خلالها تم تنفيذ الشكل النهائي للفيلم، هكذا لا يبدو غريبًا أن الفيلم استغرق أكثر من 5 سنوات ليخرج للنور.
قد يبدو هذا صعبًا، وممتعًا أيضًا، لكن الأكثر متعة بالنسبة للمشاهد، هو أن معظم الشخصيات الموجودة مستوحاة بالفعل من البورتريهات واللوحات المختلفة لفان جوخ، وليس الأشخاص فقط بل حتى بعض الأماكن، كما تحايل صناع الفيلم على عدد من الأماكن بتغيير زوايا التصوير أكثر من مرة لتظهر هذه الأماكن كما هي تقريبًا في اللوحات.
النتيجة النهائية أننا أمام فيلم مذهل، إحساس الألوان الزيتية وتأثيرات ضربات الفرشة حاضرة في كل اللقطات، الألوان آسرة، وخاصة الأصفر والأزرق المميزان لأعمال فان جوخ.
عادة نفضل الفصل بين كيفية صناعة الفيلم والنتيجة النهائية للشريط السينمائي، إذ لا يعني بذل مجهود كبير أن الفيلم بالضرورة جيد أو يستحق الحفاوة، لكن توقفنا عند كواليس صناعة هذا الفيلم لأن فيها الكثير من التفاصيل الممتعة بالنسبة لهواة السينما، التفاصيل التي تعيد إلى الأذهان الوصف الأول للسينما، ”الفن السابع“.
تفاصيل اللوحة
تدور القصة التي كتبها المخرجان أيضًا بمشاركة جاسيك دينِل بعد سنة من الوفاة الغريبة لفينسنت فان جوخ إذ نتابع الشاب آرماند (دوجلاس بوث) الذي يسعى لتوصيل آخر رسالة كتبها فينسنت لشقيقه، وأثناء محاولاته لتوصيل الرسالة يبدأ البحث في الرحلة الغريبة لفان جوخ بداية من ممارسته للرسم وانتهاء بموته الغريب الذي يدور الشك كونه قتلًا أم انتحارًا.
يلجأ السيناريو إلى البناء غير الخطي، فلا نتابع قصة حياة الرسام منذ طفولته حتى مماته، بل من خلال وجهات نظر مختلفة وغير مرتبة طبقًا لزمن حدوثها، كل شخصية تضيف قطعة أخرى للوحة الكبيرة، وأحيانًا نرى بعض القطع لا يمكن تركيبها مع بعضها، وهنا يظهر بالسيناريو أساسين قويّين للمشاهد.
قصة مصرع فان جوخ ظل عليها الكثير من الخلافات، والفيلم لم يحمل راية الانحياز لوجهة نظر واحدة، وهذا هو الأساس الأول، الفيلم يتابع أهم مراحل حياة هذا الفنان، وليس فيلمًا بوليسيًا لمعرفة من الجاني، أو إعادة نظر استقصائية في تفاصيل مصرعه.
الأساس الثاني، هو استخدام هذا الطريقة في السرد في صناعة إيقاع جذاب للفيلم، المشاهد لأفلام السير في السينما مؤخرًا يدرك أن البناء الخطي التقليدي للأحداث لم يعد هو السائد، يمكن العودة لأفلام مثلThe Social Netork (الشبكة الاجتماعية) الذي قدم مرحلة تأسيس موقع فيس بوك في حياة مؤسسه مارك زوكربيرج، إذ يتعرض الفيلم لعدد من الشخصيات تروي ما حدث داخل جلسة قانونية، ومن خلال هذا نرى وجهات نظر مختلفة ومتعارضة أيضًا، وهذا البناء نفسه هو ما حدث مع فيلم فينسنت.
يُدرك صناع الفيلم أنهم ربما ليس لديهم الكثير من المعلومات الجديدة عن حياة الفنان الراحل بعد مرور ما يزيد على القرن منذ رحيله، ولهذا كان الخيار الأفضل هو تقديم ما قد يعرفه الجمهور ولكن بشكل مختلف.
من الممتع أيضًا مشاهدة كيفية توظيف معظم الشخصيات التي ظهرت في لوحات فان جوخ داخل دراما الفيلم، ومنح طابع واضح لكل شخصية.
إعادة قراة اللوحات
كما ذكرنا لسنا أمام فيلم تحريك تقليدي، بل عليه قيد رئيسي هو أن يخرج في النهاية له روح وبصمة فان جوخ، ومن هنا يجب الالتفات لدور مخرجَي العمل.
يلفت الانتباه أول الأمر النجاح في اختيار شخصيات ملامحها مقاربة لملامح الشخصيات الموجودة في لوحات فان جوخ، ثم في تكوين الكادرات بصورة تحاكي اللوحات أيضًا، هكذا نجد الكاميرا أحيانًا تتحرك قربًا وبعدًا، وزواياها تتغير لتأخذ نفس تكوين اللوحات بقدر الإمكان.
هكذا يمكن الرجوع لفكرة الاستعانة بفنانين من الأساس وعدم الاتجاه لرسم الفيلم مباشرة، أضاف معظم الممثلين روح أخرى للشخصيات، جيروم فلين الذي عرفه الجمهور بدور برون في مسلسل ”Game of Thrones“ (لعبة العروش) يقدم في الفيلم دور دكتور جاشيه الطبيب الذي كان على علاقة وثيقة بفينسنت في أيامه الأخيرة، وساعاته الأخيرة أيضًا.
بالإضافة لملامح فلين القريبة من البورتريه الشهير لدكتور جاشيه، ينجح الممثل الذي يجيد التعبير بوجهه جيدًا في نقل حالة الحزن والإنكار المحيطة بالشخصية، وقد كان أداؤه مناسبًا للشخصية كما قدمها الفيلم، إذ تحيط به علامات الشك حول دوره في انتحار، وربما قتل، فان جوخ.
دكتور جاشيه من أكثر الشخصيات التي يمكن معها أن نلمح كيفية تضافر الإخراج والسيناريو لرفع حالة التشويق في الفيلم، إذ تشير عدة شخصيات إليه منذ بداية الفيلم، بالخير والشر، لكنه لا يظهر سوى في الثلث الأخير من الفيلم، فيبقى المشاهد طيلة الوقت في انتظار ظهور هذه الشخصية، ليُكمل تفاصيل اللوحة.
اختيار الأبيض والأسود أيضًا لمشاهد الفلاش باك كان اختيارًا موفقًا، فليس له هنا الاستخدام التقليدي في تقديم الماضي بلون مختلف فقط، لكنه كان حلًا من صناع الفيلم للدخول في ماضي فان جوخ الذي لم تجسده لوحاته، فلا يمكن الاستعانة بها، بالإضافة لأنه كان اختيارًا مناسبًا لحالة الغموض والسودواية التي تحيط بالشخصية.
في حب فينسنت
ينتهي الفيلم بعرض عدد من اللوحات الأصلية للفنان الشهير، بجانب كيفية توظيف وظهور هذه اللوحات داخل الفيلم، لنزداد إعجابًا بقدرة المخرجين على توظيف فن اللوحات الساكن في يمتلئ بالحركة في السينما، دون ابتذال اللوحات أو التضحية بتدفق الفيلم لمجرد إضافة لوحة ما.
تاريخ الفن يمتلئ بالكثير من الأسماء المهمة والمسيرات الخاصة التي تحيط بتفاصيل حياتها ورحيلها العديد من التفاصيل الثرية وتستحق التحول بالتأكيد إلى فيلم سينمائي، فان جوخ ربما واحد من أكثر الفنانين سيئي الحظ في حياتهم، إذ لم يلق التقدير الكافي سوى بعد رحيله، وهكذا تنجح السينما في تحويل سيرة حياة مأساوية إلى فيلم ممتع يمكن العودة إليه عدة مرات للاستمتاع بتفاصيله.
اقرأ للكاتب أيضا