لعدة سنوات، كلما طُرح التساؤل عن قلة مستوى الأفلام المصرية الجيدة التي تظهر في العام الواحد، كان أحد أكثر الأسباب ظهورًا هو أزمة الإنتاج، المنتجون لا يغامرون بأموالهم في فيلم مختلف يحتاج إلى ميزانية ضخمة. وإذا انتقلنا للمنتجين، فسيكون السبب هو أنهم لن يغامروا بأموالهم مع أفلام مختلفة مشكوك في نجاحها، ويفضلون النجاح المضمون حتى لو كان بفيلم منخفض الجودة.
لكن السنوات القليلة الماضية شهدت عدة أفلام ذات إنتاج جيد ومستوى فني مرتفع، وفي الوقت نفسه تحقق إيرادات كبيرة في شباك التذاكر، يمكن الوقوف تحديدًا عند "الفيل الأزرق" الذي كان من أعلى الأفلام تحقيقًا للإيرادات في سنة عرضه 2014.
دون الدخول في تفاصيل مقارنة الإيرادات بالإنتاج وكيف يمكن أن يربح المنتج، بدا بعد "الفيل الأزرق" أنه بالإمكان صناعة أفلام ذات ميزانية ضخمة، دون خسارة شباك التذاكر، هكذا مُهّد الطريق لظهور "الكنز: الحقيقة والخيال"، لكن بالطبع الميزانية الكبيرة مجرد عنصر في بناء الفيلم، ويبقى فريق العمل هو الأهم.
3 حكايات.. 3 عصور
تكفي نظرة سريعة إلى الأسماء الموجودة على الملصق الدعائي لـ "الكنز" لندرك أننا أمام عمل استثنائي يندر تكراره، فعليًا كل اسم من الأسماء المشاركة في العمل "نجم" بمقاييس السوق، وله نجاحات كبيرة وأعمال مميزة. وخلفهم يقف شريف عرفة كمخرج وكاتب للقصة، مع عبد الرحيم كمال مؤلفًا للسيناريو والحوار.
لاحقًا صدر الإعلان لنشاهد لقطات لعصور مختلفة يندر جدًا تقديمها على الشاشة، وربما يستحيل تقديمها كلها في فيلم واحده. كل هذه المقدمات جعلت من "الكنز" أكثر فيلم منتظر في السينما المصرية منذ سنوات كثيرة، فهل كافأنا الفيلم على هذا الانتظار؟
تدور أحداث الفيلم عام 1975 إذ يعود حسن (أحمد حاتم) الذي درس المصريات في الخارج ليتصرف في ميراث أسرته، ليجد فيديو مسجَل من والده الراحل بِشر (محمد سعد) يخبره عن كنز يخبئه له، ولكي يصل إليه عليه متابعة الفيديو وعدد من البرديات وكتب التاريخ. تنتقل الأحداث إلى 3 خطوط منفصلة، يربط بينها بين الحين والآخر مَشاهد لحسن لنتابع وقع هذه القصص عليه.
الخط الأول في العصر الفرعوني قبل تولي حتشبسوت (هند صبري) للمُلك، والصراعات التي واجهتها. الخط الثاني خاص بالقصة الشعبية الشهيرة لعلي الزيبق (محمد رمضان) أثناء الاحتلال العثماني لمصر، ومحاولته الانتقام من صلاح الكلبي (عباس أبو الحسن) الذي قتل والده. وأخيرًا قصة بِشر نفسه، رئيس القلم السياسي في عصر الملك فاروق، واستغلاله لسطلته من أجل الإيقاع بقلب المطربة نعمات (أمينة خليل).
بجانب كل خط رئيسي توجد خطوط فرعية. ساهمت كل هذه الخطوط في جعل الفيلم يمتد إلى ثلاث ساعات إلا قليلًا، لكن كما هي العادة، لا يهم الوقت طالما ما يُقدم على الشاشة مشبع وممتع، ولا يستدعي النظر في الساعة انتظارًا لانتهاء الفيلم، للأسف كانت الساعة حاضرة في الكنز، لكنها حاضرة في بعض الفصول بشكل أكبر من غيرها، وفيما يلي محاولة قراءة عناصر الفيلم من خلال كل فصل على حدة، قبل النظر على ترابط كل هذه الفصول معًا.
حتشبسوت بالأبيض
فضّل صناع الفيلم تنفيذ الكثير من الديكورات للمعابد والقصور الفرعونية، بدلًا من الاستعانة بـ "الجرافيك"، وجاءت تحت قيادة مهندس الديكور المخضرم أنسي أبو سيف. لدى أبو سيف تاريخ من المشاركة في عدة أعمال تنتمي إلى عصور قديمة، ولهذا فتنفيذ ديكورات خاصة بالفراعنة ليس أمرًا جديدًا عليه.
غلب اللون الأبيض بجانب الألوان الفاتحة على الديكورات، وبقدر ما حاول صناعها أن تبدو الديكورات طبيعية، لكن يغلب عليها الإحساس بأنها ديكورات مصنوعة، وبالتالي تترك أثرًا عكس المطلوب منها.
بجانب اللون الأبيض في الديكورات، جاءت الملابس أيضًا أغلبها بنفس اللون، أعطى هذا وحدة لونية في الصورة بالطبع، ولكنه في الآن ذاته جعلها باردة، بشكل لا يتماشى مع الأحداث التي تعرض لنا الكثير من المؤامرات ثم قصة حب بين حتشبسوت والمهندس سنّموت (هاني عادل).
نشاهد هند صبري تحاول إقناعنا بأنها حتشبسوت، لكننا نشعر بحاجز تجاهها، قبل ظهورها يقدمها الفيلم بأنها شخصية قوية، ثم تظهر هي بشكل حائر ومضطرب في معظم الأوقات، وقوية في مشهد وحيد ينتهي ولا يبقى تأثيره طويلًا، فيترك المشاهد حائرًا بين طبيعة هذه الشخصية.
ثم جاء الحوار ليزيد من الحيرة ويعزز من الحاجز بين المشاهد والشخصية، وينبغي هنا أن نوضح نقطة هامة قبل الاسترسال فيما يخص الحوار، منذ البداية كان قرار صناع الفيلم أن العامية هي المستخدمة في جميع الأزمنة، ولا توجد مشكلة في ذلك، ولكن بالتأكيد طبيعة الحوار نفسه كانت تختلف من زمن لآخر، لهذا من الصعب تقبّل ظهور حتشبسوت تسير في الشارع وتقف مع أحد البائعين لتسأله "نفسك في إيه الفرعون يحققهولك؟" فيأتي رده "الملك ده إله قوي واحنا بندعي الرب ينصره"، وإذا تجاوزنا عن ماهية الإله الذي ندعو له الرب مع معرفتنا بوجود الكثير من الآلهة في العصر الفرعوني، إلا أن هذا الحوار أقرب لما نسمعه في برنامج حِواري معاصر وليس في العصر الفرعوني.
وإن أمكن التغاضي عن هذا الحاجز الذي وضعته هذه الجمل الحوارية، من الصعب تجاوز المباشرة في طرح الأفكار وعرض الشخصيات عن طريق الحوار، والاستغناء عن الصورة، خاصة مع الرجوع إلى اسم شريف عرفة الذي يعرف جيدًا قيمة الصورة ويجيد توظيفها، وفيلمه "الإرهاب والكباب" الذي دار في مكان واحد كان فيه وفرة من الحلول البصرية بأكثر مما شاهدنا هنا.
هكذا نتعرف على شخصية "حتشبسوت" بكامل تفاصيلها وحاضرها ومستقبلها من خلال حوار بين الكاهن الأكبر (محيي إسماعيل)، وعدد من الكهنة الذين يؤدي دورهم ممثلين لا يبذلون أي جهد لإقناعنا بالشخصية، وهو حال معظم الممثلين الكومبارس في كل فصول الفيلم تقريبًا.
علي الزيبق بنكهة محمد رمضان
يختار المخرج أماكن التصوير في القاهرة القديمة، لتبدو أقرب لزمن وقوع الأحداث، لكن يغفل صناع الفيلم أن المباني التي تظهر عليها علامات التعرية حاليًا لم تكن بهذه الحال منذ أكثر من خمسة قرون، مرة أخرى يبدو أن التفاصيل غائبة عن المخرج، ومرة أخرى يبدو أن هناك عدم اهتمام بالممثلين المساعدين، بداية من الطفل الذي قدم شخصية على "الزيبق" في البداية، الذي ظهر في لقطات قليلة لم ينجح في أداء أي منها بشكل جيد، وانتهاء بأصدقاء علي، زعيط ومعيط ونطاط الحيط، هؤلاء المقاتلون الذين ينقلوننا إلى نقطة أخرى، وهي التصوير والمونتاج.
ليس جديدًا على شريف عرفة بالطبع أن يقدم مشاهد معارك يستخدم فيها الخدع وزوايا التصوير، ويمكن الرجوع لـ "فول الصين العظيم" الذي قدم فيه المعارك بشكل كوميدي لكن جيد الصنع، لكن المعارك في "الكنز" ظهرت بشكل بدائي جدًا، فكلما أدى أيًا من الممثلين حركة صعبة، نجد قطعًا ليظهر الممثل البديل، ثم يعود الممثل مرة أخرى، وهو ما أضعف من إيقاع المعارك من جهة ومن التوحد مع الممثلين من جهة أخرى.
لكن على الرغم من هذا، جاءت مشاهد جيدة بصريًا في الخط الخاص بـ "علي الزيبق" مقارنة بالخط السابق، بل وفيها أحد أفضل مشاهد الفيلم تناسقًا، وهو مشهد متابعة "علي الزيبق" لـ "زينب" (روبي) في السوق، وخروجه لها من كل المتاجر.
ويصنع الحوار مرة أخرى حاجزًا بين المشاهد والشخصية، إذ يردد محمد رمضان، على الرغم من أدائه الجيد وملاءمته للدور، عبارات مسجّعة كالتي يعتاد ترديدها في معظم أعماله مثل "لو في بين الأحبا خشا مكانوش عملوا اللي بيعملوه بعد العشا".
التلميذ يتفوق على الناظر
يعد الخط الخاص ببشر هو الأفضل والأكثر نضجًا بين الفصول الأخرى.
لا يمكن تخطي أداء محمد سعد الذي كان الجميع ينتظر مشاهدته في دور جاد بعد سنوات من الشخصيات الهزلية والهزيلة، بالإضافة لترقب عودته للعمل مع مكتشفه شريف عرفة، وربما كان سعد هو الوحيد الذي لم يخيب الآمال المعقودة عليه في شخصية الضابط القاسي الذي لم يتورع عن إلقاء أخيه (هيثم زكي) في السجن لتعاطيه المخدرات، كما يستغل نفوذه في الوصول بكل الطرق لقلب المطربة "نعمات"، وإن أفلتت منه الشخصية في بعض اللقطات، وكاد أن يعود لإحدى شخصياته الكوميدية.
الديكورات هنا تأخذ شكلًا أكثر جمالية وفخامة، وتبتعد عن الافتعال، وبدا هذا واضحًا في ديكور المكتب والملهى الليلي.
حتى قصة الحب هي الأفضل، بالعودة لقصص الحب في الفصلين السابقين، سنجد الوقوع في الحب من النظرة الأولى ومن الطرفين، لكننا نجد "بِشر" يبدأ بالإعجاب بـ "نعمات"، ويتطور الأمر إلى حب من جهته، بينما تأخذ هي وقتًا أكبر حتى ترضى عنه، هكذا كان هناك رغبة في متابعة تطور هذه القصة، بعكس السابقتين.
بجانب محمد سعد يقدم أحمد رزق أداءً مُقنعًا بعيد عن الافتعال لدور المساعد المطيع وكاتم الأسرار، وإن خانه الحوار الكوميدي الضعيف في معظم الأحيان.
ويستمر غياب الإحساس بتفاصيل الزمن في هذا الفصل أيضًا، لم نحيَ في ذلك الوقت لكن من خلال مراجعة الأفلام الكلاسيكية أو كتب التاريخ، يصعب الوقوف على أن المخدرات كانت من الأخطار التي تهدد المجتمع في ذلك الوقت، لذلك فالقبض على مصطفى (هيثم زكي) لتعاطي المخدرات ومطالبته بالإرشاد عن أصدقائه تجار المخدرّات أمرٌ وقعه غريب على الأذن.
يظهر قرب نهاية هذا الفصل محمد حسن الجندي في دور أنور السادات، ويقدم الفيلم السادات بشكل هزلي مبالغ فيه، والأسوأ أن هزليته يصعب أن تثير الضحك، لكن تثير التساؤل عن دور شريف عرفة في تقديم الكوميديا بهذا الشكل.
الحقيقة والخيال
للوهلة الأولى يبدو "الكنز" فيلمًا طموحًا، لكن مع الوصول للنهاية سنجد أن ثغرات الفيلم أكبر من أن تكون مجرد ملاحظات على فيلم جيد، لكن يمكن أخذ بعض الملاحظات جيدة على فيلم أقل من المتوقع.
إذا نظرنا إلى الفيلم كوحدة واحدة سنجد أن الموسيقى لهشام نزيه تقدم المطلوب منها، نزيه مطالب في الفيلم بتقديم مقطوعات يمكن أن تنتقل وتتكيف بسهولة مع العصور المختلفة وهو ما كان بالفعل.
لم ينته دور نزيه عند الموسيقى بل امتد لألحان الأغاني والاستعراضات، التي كانت جيدة، وتترك الأثر المطلوب منها بالفعل، بل أعطتنا سببًا حقيقيًا لانبهار بِشر بنعمات (الغناء لنسمة محجوب)، وأعطت طابعًا شعبيًا محببًا لقصة "علي الزيبق" من خلال أغاني المنشد التي صاحبت هذا الفصل (الغناء لإيهاب يونس)، وإن كان التوزيع الموسيقى مال إلى الشكل الغربي في أغنية ”الظلم“ بشكل لم يكن يليق مع حالة الإنشاد على الربابة التي تظهر في الصورة.
على النقيض كان المونتاج الذي قامت به داليا الناصر، بالطبع ليس من السهولة التحكم في 3 خطوط كاملة مع خط رابع يربط بينها، لكننا نشاهد في الفيلم التركيز المكثف على خطين إلى أن ننسى الثالث، ثم يعود الثالث فننسى الأولين، وهكذا. بجانب تكثيف الأغاني في منتصف الفيلم ثم اختفاءها من الفيلم حتى إلى قرب النهاية، دون وجود توظيف درامي جيد لمعظمها. نحن نتحدث عن فيلم طويل، لهذا فإما أن يكون هناك مبررًا قويًا لكل لقطة، أو أن تكون النتيجة تسلل الملل سريعًا إلى المشاهد.
مرة أخرى نعود إلى شريف عرفة، قد يرى البعض أن هناك تحاملًا في بعض الآراء على الفيلم، لكننا نتحدث عن شريف عرفة، لن نبالغ على الإطلاق إن قلنا أن المشاهد الثلاث التي جاءت في بداية فيلمه "الناظر" للعصر الفرعوني ثم المملوكي ثم الملكي، تمامًا مثل "الكنز"، كانت أكثر ثراءً وإحكامًا وإمساكًا بالتفاصيل مما شاهدناه هنا.
اقرأ أيضًا
طارق الشناوي لـ"في الفن"- اختيارات محمد سعد بعد "الكنز" صعبة
الناقد حازم عزمي : هذه أسباب تطور محمد سعد في فيلم "الكنز" .. تراجع عن أخطائه