من بين جميع الأفلام العربية المعروضة ضمن الدورة السادسة والأربعين لمهرجان روتردام السينمائي الدولي، يحتل الفيلم المصري "زهرة الصبار" للمخرجة هالة القوصي موقع الصدارة من حيث الأهمية؛ فهو الفيلم الروائي الطويل العربي الوحيد الذي يستضيف المهرجان عرضه العالمي الأول (الأفلام الثلاثة الأخرى "آخر واحد فينا" و"عرق الشتاء" و"ربيع" سبق عرضهم في مهرجانات أخرى)، وهو أيضاً الفيلم العربي الوحيد المتنافسة على جائزة قسم مستقبل مشرق، ثاني مسابقات المهرجان أهمية بعد جائزة نمر هيفوس التي يتنافس عليها ثمانية أفلام فقط.
ما سبق جعل اهتمام الحاضرين من العرب ينصب بنسبة كبيرة على فيلم هالة القوصي، الذي شهد حضوراً كثيفاً سواء في عروضه الجماهيرية أو العروض المخصصة للصحافة، وهو أمر جيد بطبيعة الحال في مهرجان لا تمتاز عروضه ـ خصوصاً الصحفي منها ـ بكثافة ضخمة كالتي نراها في كان أو برلين.
لا يمكن التعامل مع "زهرة الصبار" نقدياً بمعزل عن خلفية صانعته العابر للفنون، فهي الفنانة البصرية جائزة أبراج كابيتال للفنون وهي أكبر جائزة من نوعها في العالم عام 2010، وهي المصورة والمحاضرة في مجال الصورة كوثيقة لقراءة التاريخ، وهي المخرجة التي سبق وقدمت أكثر من فيلم قصير من بينها "حكايات على الهامش" 2005، "تل النسيان" 2010، و"البحث عن مدينة في أوراق سين" 2011.
عمل عابر للوسائط
فيلم القوصي يحاول أن يتواجد في نفس المساحة متعددة الوسائط، التي تستفيد من أدوات المسرح والرقص والصورة، وأفكار السوريالية والتأريخ، في سرد حكاية ذات حس نوستالجي واضح، يمكن ربطه بسهولة بمشروع "فوتو مصر" الذي تديره المخرجة، والذي يشكل سؤال "كيف كنا وإلى ماذا صرنا؟" بعداً واضحاً من أبعاده.
المخرجة تستخدم الأدوات السابق ذكرها لتكوين إطار فوق واقعي لحكاية واقعية، عن ممثلة مغمورة (سلمى سامي) وعجوز كانت برجوازية قديماً (منحة البطراوي)، تتشاركان السكن فوق سطح إحدى بنايات وسط القاهرة، قبل أن تجدا نفيسهما طريدتان في شوارع المدينة وقت حظر التجوال، لا يعاونهما سوى جار شاب (مروان العزب) في رحلة البحث عن مأوى في مدينة لم يعد العيش فيها بالأمر اليسير.
الحكاية كلاسيكية الطابع تتقاطع طيلة الوقت مع مشاهد الحلم/ الخيال/ فوق الواقع، في محاولة لأن يعطي كل مشهد غير واقعي إحالة ما تخص الشخصية، أو تعبير أكثر كثافة عما يمثله الحدث بالنسبة للحكاية وأبطالها. طموح سردي يستحق التحية بالتأكيد لرغبته في تجاوز شكل السرد الكلاسيكي السائد حتى في النسبة الأكبر من الأفلام البديلة المصرية (ربما يذكرنا قليلاً بتوظيف أيتن أمين لمشاهد الحلم في "فيلا 69"، ولكن بطموح أكثر تعقيداً وتنوعاً).
المدينة الخانقة للروح بزحامها تصير رقصة حديثة تحاصر فيها البطلة الشابة، هواجس طفولتها وذكرى والدتها الخياطة تصبح مشهداً مسرحياً كوريوغرافياً، اكتئاب صديقها المغني يغدو مشهداً تجريدياً له يعدو ويلهث بلا طائل من أجل الوطن، وغيرها من صور التعبير الموازي عن الحكاية الرئيسية.
فيلم واحد أم فيلمان؟
غير أن طموح الفكرة أمر منفصل عن النتيجة النهائية لتحويلها صوراً على الشاشة، ففي عمل يمتلك خصوصية سردية مثل "زهرة الصبار" لا يكفي أن يكون الشكل المختار مغايراً وجريئاً على المستوى النظري، وإنما لابد وأن ينعكس هذا في صورة إثراء حقيقي تضيفه المشاهد غير التقليدية، وارتباط عضوي بينها وبين الحكاية الكلاسيكية يجعل هذه الأخيرة ـ بصورة أو بأخرى ـ غير قابلة للحكي دون هذه الإضافات.
في هذه النقطة تظهر المشكلة الأبرز في الفيلم، أن أحد شقيه يخون التجربة ويبدو أقل بكثير من قيمتها. أقصد هنا الخط الرئيسي الكلاسيكي لرحلة السيدتين والشاب في شوارع القاهرة، والذي يأتي في الجزء الأكبر من أحداثه اعتيادياً متوقعاً، يتشابه في معظم تفاصيله مع العديد من الأفلام التي تعرضت لمعاناة المثقف/ الفنان/ المختلف في القاهرة. الحاجة المادية والتحرشات وحصار الجيران المتزمتين دينياً والمثقف المستغل للعواطف من أجل الجنس، وإغراءات التدين (عودة باهتة لفرح يوسف في دور زميلة البطلة القديمة التي تحجبت وصارت ربة منزل)، كلها أمور يعبر عليها الفيلم بصورة تلامس أحياناً حد الكليشيه، في فيلم ينطلق من نقطة أبعد ما تكون عن التكليش.
يمكننا أن نستثني لحظات من الطزاجة نلمسها تحديداً في شخصية الشاب الذي يساعد السيدتين، وهي شخصية ارغم طوباويتها التي تصل للأحادية، إلا إنها امتلكت (بمساعدة من الأداء المنضبط من الممثل الشاب مروان العزب) عالماً وظهوراً خاصاً، فهو ليس بالضبط معجب أو حبيب أو شقيق أو ابن، هو يقوم بأفعال تقارب كل هؤلاء لكنها تنبع من داخله بالأساس، لا مما يمثله وجوده بالنسبة للمرأتين، وهو بناء شخصية محكم وشكل شديد النضج درامياً للعلاقات، كنا نتمنى أن يمتد ليشمل باقي العلاقات لكنه للأسف لا يفعل، بل نجد النقيض تماماً في علاقة الفتاة بحبيبها الكاتب وصديقتها المحجبة، والتي تبدو كأنها علاقات آتية من أفلام مستقلة قصيرة صُنعت في مطلع القرن.
المشكلة هنا تتجاوز تأثيرها المجرد على جاذبية الدراما في أي فيلم مروي بصورة كلاسيكية، لأنها هنا تقوم تلقائياً بقسم الفيلم إلى فيلمين يعرضان بالتوازي، وبدلاً من أن تكون المشاهد الخيالية إضافةً وإثراءً للحكاية، تصير هي الحكاية التي نريد أن نشاهدها بحثاً عن الجديد ولو على مستوى الصورة. حكاية لو حذفت المخرجة مشاهدها بالكامل وتركت الدراما الكلاسيكية فقط، سيصير لدينا فيلم تقليدي لا يكاد يختلف وقعه لدى المشاهد عن هذا المروي بالتقاطع مع مشاهد الرقص والمسرح والأحلام.
التمثيل وعثرته
ما يزيد من تثاقل الخط الدرامي هو التفاوت الكبير في إدارة الممثلين وبالتحديد الثلاثة الرئيسيين، وكلهم يبذل بالتأكيد مجهوداً يحترم، لكنه جهد مشتت، يؤدي خلاله كل منهم الشخصية من مدخل مختلف تماماً عن الآخر، فبينما وصفنا أداء مروان العزب بالمنضبط: الحركات والسكنات والكلمة والابتسامة على قدر الفعل تماماً، فإن أداء سلمى سامي جاء باطنياً ستاتيكياً يبخل بالتعبير الحركي واللفظي طيلة الوقت، على النقيض من منحة البطراوي التي أخذت شخصية العجوز إلى حيز الفارص بمبالغاتها الحركية والكلامية الآتية أحياناً في غير محلها.
قد يكون السبب (في محاولة لإماتة المؤلف) هو أن هذا الزحام يناظر بشكل ما زحام المدينة التي يغوص فيها الفيلم، ولكن حتى هذا الزحام يبقى محتفظاً بهارمونيته الخاصة، لا يقع ـ على الأقل في لحظات صدقه ـ في مأزق أن يشعر المشاهد بوجود قطعات قافزة غير مريحة jump cuts بسبب اختلاف أداء الممثلين فقط؛ فجميع الشروط التقنية للديكوباج والتصوير والمونتاج متواصلة بشكل سليم، لكنها لا تؤتي ثمارها بسبب التمثيل. (وهنا لابد من إشادة واضحة بعنصر التصوير في الفيلم، الذي أجاد عبد السلام موسى من خلاله خلق حيزاً من الصدق النوراني المحيط بالشخصيات خاصة في المشاهد الداخلية).
تفاوت مداخل الأداء التمثيلي تسببت مع ما ذكرناه عن تقليدية الدراما في جعل المحصلة النهائية لفيلم "زهرة الصبار" أقل مما كان من الممكن أن يبلغه مشروع بهذا الطموح تديره مخرجة فنانة، تمتلك بالفعل كما يتضح من كل تفصيلة فهماً واضحاً للإطار النظري لفيلمها. لكن بين النظرية والتطبيق مسافة تعثر فيها الفيلم، ليصير عملاً يمكن تقييمه بشكل عام بالإيجابية، لكنها إيجابية تقل كثيراً عن التوقعات.
اقرأ أيضا
خاص- رسالة مهرجان روتردام (1): تجارب مدهشة من أمريكا اللاتينية