اسم أحمد السبكي على تترات فيلم يتنافس في المسابقة الدولية لمهرجان لوكارنو السينمائي، ويسري نصر الله يستخدم داخل فيلمه أغنية شعبية يغنيها محمود الليثي وجواره راقصة متفجرة الأنوثة، تحمل كل واحدة من العبارتين السابقتين تناقضاً يبدو للوهلة الأولى بعيداً عن المألوف، لكننا شهدنا اليوم في لوكارنو واحدة من اللحظات النادرة التي تلتقي فيها السينما التجارية مع الأفلام الفنية لصناعة منتج نهائي ممتع.
شاهد إعلان فيلم "الماء والخضرة والوجه الحسن"
"الماء والخضرة والوجه الحسن" هو الفيلم الذي يمكن أن نصفه بقناعة كاملة بالعمل "البديل" لكل شيء، فهو بديل للسينما التجارية يستفيد من معادلات صناعتها ونجومها ومُشهياتها الجماهيرية لجعل حكايته أقرب للجمهور دون أن ينزلق للابتذال أو التلفيق، وهو بديل للسينما الفنية بجديتها الصارمة وابتعادها الفطري عن الإمتاع بل والتفاعل مع البشر الذين يفترض أن معظم هذه الأعمال يناقش همومهم وقضاياهم.
شباب أكثر.. تنظير أقل
في فيلمه الجديد يعود نصر الله لشبابه، لروح أفلامه الثلاثة الأولى "سرقات صيفية" و"مرسيدس" و"صبيان وبنات"، حين كان الهم الشاغل والمحرك الوحيد هو حياة شخصياته، بزخمها وتناقضاتها وعلاقاتها المركبة مع نفسها ومع العالم. صحيح أن هذه الشخصيات تعيش في سياق اجتماعي وسياسي تتأثر به وتتفاعل معه، لكن يبقى البشر هم أساس الفيلم، السمة التي صعدت أشياء أخرى لتجاورها في أعمال المخرج اللاحقة: هموم سياسية وتأريخية وانشغال أحيانا بالأسلوب. "الماء والخضرة والوجه الحسن" فيلم خال من كل ما سبق، لا تشوبه ذرة افتعال أسلوبي، ولا ينشغل بأكثر من شخوصه وعالمهم بالغ الطزاجة والثراء الدرامي: عالم طباخي الأفراح الشعبية.
هذا العالم يظهر للمرة الأولى على شاشة السينما، يمثله بشر تكمن فرادتهم في تعاملهم مع مهنتهم باعتبارها فن وليست مجرد وسيلة لكسب العيش؛ والفنان القادر على إمتاع الآخرين بطهيه الشهي لابد أن يعرف بالضرورة كيف يمكنه أن يستمتع بالحياة، لاسيما إن كانت حياة طبيعتها هي التنقل من زفاف لآخر ومن مكان لمكان، بما يفتحه هذا من أبواب للمغامرة والشطط، والتقاط لحظات المتعة بعيني صياد خبير يعلم أن كل فرصة ستتاح مرة واحدة فقط، فإما أن يغتنمها أو يرضى بمعيشة الموظفين.
هذه الروح الوثابة، روح الفنان الرحالة، تصبغ الفيلم بحيوية صاخبة، يدعمها امتلاك هؤلاء الطباخين لشفرة أو كود يستخدمونه فيما بينهم لتمرير المعلومات والخروج من المآزق دون أن يلاحظ أصحاب الفرح. الأمر الذي لا يمكن عزله عن السينما باعتبارها هي الأخرى فناً يمتلك كوده الخاص الذي يربط بين صانع الفيلم وجمهوره، بما يخلق لحظات تلاق مبهرة بين الحكاية والوسيط مثل اللحظة التي يمسك فيها شقيق العريس بالمايكروفون ليصيح مساعدا الطهاة فيما ينادون به، دون أن يعلم حقيقة كونه يردد الشفرة التي تساعد أحد الطهاة على ممارسة الجنس مع زوجته - زوجة الشقيق - والخروج بأمان!
عن الحب وأشياء أخرى
الماء والخضرة والوجه الحسن" هو فيلم عن الحب والفن والحياة، عن الحب الذي يولد فطرياً فلا تصنعه اتفاقات أسرية ولا تمنعه أخلاقيات زائفة. والنص الذي كتبه المخرج بمشاركة أحمد عبد الله يقدم واحدة من أكثر العلاقات طزاجة في الأعوام الأخيرة، علاقة الطباخ الأسطى رفعت (باسم سمرة) بابنة عمه وخطيبته كريمة (منة شلبي). خطوبتهما مفروضة بحكم اتفاق الآباء لكن كل منهما يعلم أن بوصلة قلبه موجهة في اتجاه مختلف، لذا يتعاملان مع بعضهما ومع الحياة بانفتاح يصل لأن يساعد كل منهما الآخر في الوصول لمن يحب، في صورة مدهشة لحرية الأرواح في مقابل أي قيود مهما كان مصدرها.
الفيلم أيضاً عن الفن، عن إتقان صنعة هي ليست مجرد حشو للأفواه أو ملء للجيوب، بل هي ذوق ومتعة يشعر بها من يصنع طعاماً شهياً قبل أن يحسها من يأكله، متعة فردية لا يمكن استبدالها بأي مصنع أو مشروع تجاري يتعامل مع البشر باعتبارهم أرقاماً، وهي القاعدة الذي يحتاج الشقيق الأصغر جلال (أحمد داود) بعض الوقت والألم كي يدركها ويصل من خلالها للتصالح مع حياته، بل والتعامل مع مآسيها وكوارثها، فمن يصنع الطعام بفن، ويحب بفن، يمكنه أيضاً أن ينتقم ممن أساءوا إليه بفن.
هو أيضا فيلم عن تقديس الحياة كقيمة مطلقة، ولا تعبير أفضل عن هذا من رجل يوصي أبناءه أن يكون إحياؤهم لذكرى وفاته الأربعين بالخروج إلى الطبيعة وتناول الشواء، والاستمتاع بالماء والخضرة والوجه الحسن، دون بكاء أو نواح سيُرضي بالتأكيد من يحيطون بالأسرة أكثر، لكنه سيهدم في المقابل فهم الطاه الفنان للحياة كما أحبها وعاشها.
واقعية المكان وسحرية الحكاية
الفيلم تم تصويره بالكامل في المواقع الحقيقية، في بيوت وشوارع وحارات وحقول ريفية، نقلت كاميرا سمير بهزان روحها الواقعية المدعومة بتميز في الديكور والملابس وأداء الممثلين، حتى يصل الأمر لدرجة لا يشعر فيها المشاهد بغرابة أن يصعد محمود الليثي إلى مسرح الزفاف ليؤدي أغنيته. الأغنية نفسها ستكون منتقدة في فيلم آخر للسبكي تلوى فيه عنق الدراما كي نصل للحظة الغناء والرقص، لكنها هنا لحظة منطقية بل ومتوقعة، فالثري مثل فريد (محمد فراج) عندما يريد التميز خلال زفاف في مدينته، لابد وأن يأتي بنجم شعبي يبهر به الأهالي، ولابد بطبيعة الحال أن ينبهر الجميع ويستمتعوا بوجود نجمهم، فهو هنا حدث ورد فعل واقعي ومفهوم بل ويضيف للدراما.
الفيلم بذلك يفتح نافذة للتصالح بين السينما الفنية والتجارية، نافذة ندرك من خلالها أن تفاصيل سينما الأخوين السبكي ومشهياتها ليست مرفوضة في حد ذاتها، لكن في فرضها على الأفلام، أما إذا ما وجد صانع الفيلم القادر على جعل هذه المشهيات جزءًا عضوياً من فيلمه، فستكون مقبولة بل وممتعة.
لكن "الماء والخضرة والوجه الحسن" ليس فيلماً واقعياً حتى لو صوّرت مشاهده في أماكن حقيقية، لأن الحكاية في جوهرها حكاية أسطورية، تحمل من المعان المطلقة قدر ما تحمله من الواقع أو أكثر، وهو التناقض الذي يعطي الفيلم شكلاً من الواقعية السحرية الخاصة جداً، واقعية سحرية تدور أرجاءها في مركز بلقاس، أبطالها أشخاص لا تراهم في حياتك اليومية، لكنك ستحلم أن تعيش يوماً مثل أيامهم المليئة بالحب والضحك والطعام اللذيذ.
اقرأ أيضا
خاص في الفن.. رسالة لوكارنو السينمائي (1).. المهرجان ينطلق بمشاركة مصرية مميزة اليوم
رسالة لوكارنو السينمائي (2)- ثلاثة مهرجانات في واحد.. وافتتاح مبهر للمسابقة
رسالة لوكارنو السينمائي (3): ثلاثة أفلام أوروبية عن العرب