"سيتحول من أحسن هاتف في العالم إلى الهاتف الذي كان الناس يمتلكونه قبل أن يشتروا آيفون!"
تفصل الجملة السابقة بين نصفي فيلم "بلاك بيري BlackBerry" للمخرج الكندي مات جونسون، الذي أقيم عرضه العالمي الأول في المسابقة الدولية لمهرجان برلين السينمائي الثالث والسبعين، ليخلق انقسامًا كبيرًا في الآراء، بين معجب متحمس للفيلم وآخر يراه عملًا ضعيفًا، وثالث يراه فيلمًا جيدًا لكنه ربما لا ينبغي أن يكون في المسابقة الرسمية للمهرجان.
السر في الرأي الأخير هو كونه فيلمًا أمريكيّ الطابع بامتياز، يروي بطريقة كوميدية رحلة الصعود والسقوط السريعة لهواتف "بلاك بيري" التي أطلقت حرفيًا مفهوم الهاتف الذكي وكانت ملء السمع والبصر، ثم أخفقت في غضون أشهر قليلة في الوقوف أمام التطوّر التقني فباتت "الهواتف التي امتلكها الناس قبل شراء آيفون".
رحلة صعود وهبوط كلاسيكية، تدور داخل عالم عباقرة التكنولوجيا المهووسين، الذين يبدون كأطفال كبار في مظهرهم وتصرفاتهم وتعاملهم مع فكرة العمل، لكنهم يحملون داخل رؤوسهم فكرة قادرة على تغيير العالم بأكمله، بعد أن وجدوا طريقًا لتحقيق لما قاله لهم مدرس العلوم ومثلهم الأعلى: "من سينجح في أن يضع الكومبيوتر داخل الهاتف سيغير العالم".
عباقرة يحتاجون مسوّقًا
النصف الأول من الفيلم يروي رحلة الصعود، وكيف التقط رجل أعمال ذكي إمكانية النجاح في الفكرة التي قدّمها له اثنان من التقنيين غريبي الأطوار بأسوأ طريقة ممكنة، فقرر أن يعرض عليهم شراكة إجبارية تنقذهم من الإفلاس، وتمنحه حق الإدارة، وتفتح له باب تحقيق النجاح الأسرع في عالم التكنولوجيا، بعدما صار "بلاك بيري" علامة على النجاح والثراء وجودة الحياة، وكل من عاش هذه المرحلة يتذكر الشعور الذي ساد بين مستخدمي الهاتف باعتبارهم ناديًا نخبويًا خاصًا لا ينضم له إلا من يشتري أول هاتف ذكي في العالم.
تيمة هذا الجزء من الحكاية هي الصراع بين عبقرية الفكرة وطريقة الإدارة، بين العباقرة الصغار الذي وصلوا لفكرة المليون دولار لكنها لو تركت لهم لبقيت حبيسة عقولهم وسبقهم كيان آخر لبلوغها ونشرها في العالم، وبين المدير البراغماتي الذي لا يكاد يفهم اختراع شركاءه، لكنه يدرك جيدًا أنه أمر سيجلب مئات الملايين إذا ما تم تسويقه في الوقت المناسب.
يمتلئ هذا الجزء بكثير من المواقف الطريفة التي يخلقها التباين بين الشخصيات من حيث الطبيعة والهدف وقدر فهم الفكرة التي صارت بديهية الآن بالنسبة لأي طفل صغير. ويتمكن المخرج مات جونسون (الذي يُمثل أحد الشخصيات الرئيسية أيضًا) من خلق روح صاخبة ملائمة عبر استخدام الكاميرا المحمولة التي تتنقل بشكل خاطف من نقطة لأخرى دون أن تكترث كثيرًا بخروج بعض التفاصيل من دقة الكادر، لتمنح شعورًا بمعايشة اللحظة وحسًا عبثيًا لما يجري أمامنا.
روح سكورسيزي
هناك كذلك عدد لا بأس به من المواقف الكوميدية المنطلقة من وصول هذا المدير المتسلط جيم بيلسلي (يجسده الممثل جلين هوارتن الذي يظهر كرجل أصلع لمحاكاة الحقيقة)، وتفاعله ما يجده في الشركة من وضع غير معتاد. الفيلم يبالغ بعض الشيء في رسم بيئة العمل داخل الشركة (بل والدفاع عنها)، فصحيح أن هؤلاء العباقرة الصغار لا يرتدون البدلات الرسمية ويتعاملون مع عملهم باعتباره مكانًا للمتعة، لكن الفيلم يقدم ذلك وكأنه رحلة إلى حضانة أطفال لا يفعل من فيها سوي ممارسة ألعاب الفيديو ومشاهدة الأفلام معًا.
يستعير الفيلم أيضًا روح فيلم مارتن سكورسيزي الشهير "ذئب وول ستريت" في تتابع تعرض الشركة الصاعدة لخطر الاستحواذ الإجباري من قبل رجل أعمال كبير، ليقوم المدير الجديد باستقطاب أعظم العقول في صناعة الاتصالات عبر تقديم عروض مالية لا تُرفض كي يتركوا شركات مثل جوجل للانضمام له، العروض الذي ستكون لاحقًا أحد أسباب الانهيار في الفصل الثاني للفيلم.
بداية النهاية
في قمة نجاح وصعود مبيعات بلاك بيري يظهر ستيف جوبز في مؤتمر صحفي مبهر ليفجر القنبلة التي بدأت العد التنازلي للقضاء على أبطالنا: آيفون، الاختراع الذي جاء للمستخدمين بتجربة مختلفة تمامًا وغيّر مفهوم استخدام الهواتف. وبينما أدرك المحيطون بمصمم بلاك بيري مايك لازاريتس أن النهاية صارت قريبة، صمم هو على المكابرة والإصرار على أنه يعرف رغبات الجمهور أكثر من الجميع، كيف لا وهو من "اخترع هذا السوق"، قبل أن تأتي آبل لتأخذه منه.
وبينما يواصل المدير بيلسلي محاولاته العبثية لإنقاذ الوضع، تزامنًا مع هوسه بشراء فريق في دوري هوكي الجليد، تبدأ السلطات في فحص التجاوزات المالية التي قام بها لاستقطاب أفضل العناصر لفريقه، لتأتي النهاية بجملة موجزة يقولها له مدير شركة الاتصالات الأمريكية عندما يعرض عليه أنه يقدم تسهيلات ستجلب للشركة المزيد من دقائق المكالمات، فيرد: "المشكلة أن هناك دقيقة واحدة فقط في كل دقيقة"، أي أن زيادة العروض لن تؤدي لزيادة المستخدمين الذين صار لديهم هاتف جديد يقضون وقتهم معه.
أما داخل الشركة، فيحدث شقاق بين مصممي بلاك بيري، بعد أن يستجيب أحدهما للضغوط فيوافق على تغيير نظام العمل وعلى تصنيع الهواتف في الصين، بينما يصمم الآخر على الاحتفاظ بالروح الطفولية شكلًا ومضمونًا، مما يؤدي لإنهاء الصداقة والشراكة بينهما، ويُبشر بزوال عصر هاتف كان وقتها يملك 45% من سوق الهواتف الذكية عالميًا فصارت حصيلته اليوم صفرًا.
تحفظ وتفسير
قد يؤخذ على الفيلم مبالغته في رسم الشخصيات الرئيسية الثلاثة، المصممان والمدير، فكل شخصية منهم مرسومة وقد مُدت كل خطوطها على استقامتها بحيث يمكن توقع المسار الذي ستسلكه فلا تخالف تلك التوقعات، خاصة وأن هناك معرفة مسبقة برحلة الفيلم، فالجميع يعرف أن بلاك بيري سيحقق نجاح فائق يليه سقوط مدوّ.
لكن يبقى العمل إجمالًا ممتعًا، يمتلك الكثير من اللحظات الطريفة والملاحظات الذكية على طفرة القطاع التكنولوجي في نهاية التسعينات ومطلع الألفية. ولعله استفاد من جنسية الحكاية وأبطالها وصناع الفيلم، فهو فيلم هوليوودي الشكل والمضمون لكنها حكاية كندية يصنعها كنديون، الأمر الذي ربما كان سببًا في وجود الفيلم في مسابقة برلين رغم اختلافه عن نوعية الأفلام التي يختارها المهرجان عادةً لمسابقته الدولية.
اقرأ أيضا للكاتب:
كل ما تريد معرفته عن أفلام مسابقة مهرجان برلين الـ 73
"أتت لي" يفتتح مهرجان برلين السينمائي 2023
الفائز بجائزة النقاد في كان: "إخوان ليلى".. فيلم يحبه البعض ويكرهه أصغر فرهادي
مهرجان كان 75: "زمن الفناء".. أو اعترافات جيمس جراي
لا يفوتك: هند عبد الحليم: تخلصت من تأثير "سلمى" بمساعدة طبيب نفسي والجدل حول "أزمة منتصف العمر" دليل نجاحه
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5