في شتاء 2014 وتحديدًا بمدينة مراكش بالمغرب ، كنت جالسًا أنتظر موعد دخولي استوديو الإذاعة لأحل ضيفًا على برنامج أتحدث فيه عن فاعليات مهرجان مراكش السينمائي، نظرت من خلف زجاج الاستوديو فوجدته جالسًا يتحدث ويثرثر وينفعل ويضحك ، لحيته البيضاء كست وجهه ، وعيناه الحمراوتين نثرا مسحة من تأثير الزمن على ملامحه ، نعم هو المطرب الذي رقصت في مراهقتي على أغنيته الشهيرة "يارايح" هو بشحمه ولحمه رشيد طه .
انتهى اللقاء وخرج مغادرا وهو يصافح الجميع ، صافحته بحرارة شديدة ، قلت له أنا من مصر وأحبك جدا ، كان سعيدًا للغاية ، وقف يبادلني الحديث عن مصر وأحوالها ، قال لي أنه في آخر زيارة للقاهرة تمشى في شوارع وسط البلد فجرًا ، وجلس على مقهى الفيشاوي الشهير، كان سعيدًا بأن الناس لم تقتحم خصوصيته باستثناء بعض الشباب اللذين عرفوه لأنهم يسمعون "الراي" جيدًا .
ليلة شتاء باردة جعلتها تلك الدقائق مع رشيد طه ، واحدة من الليالي المحفورة في ذاكرتي ، اتفقنا على لقاء في نفس المدينة قبل سفره إلى فرنسا بعد يومين ، ولكن ظروف عملي لم تسمح ، واتفقنا على لقاء آخر في أقرب زيارة له إلى القاهرة ، ولكن القدر لم يمنحني هذه الفرصة مجددًا ، وها نحن نحتفل في هذه الأيام بالذكرى الرابعة لرحيل رشيد طه .
في عام 1998 استيقظ الشباب المصري على أغنية اسمها "يارايح" لمطرب صوته غريب اسمه رشيد طه وبعدها بسنة كل شباب جيل التسعينات رقصوا مع الثلاثي رشيد طه وخالد وفضيل على اغنية عبد القادر .. ومنذ أربع سنوات استيقظ العالم العربي على خبر وفاة رشيد طه الذي مرت يوم 12 سبتمبر ذكرى رحيله الرابعة.
أسرار الوفاة الغامضة
أقاويل كثيرة قيلت على أسباب وفاة رشيد طه خاصة وأن الوفاة كانت مفاجئة لهذا ربط البعض بين موته وبين تعاطيه المخدرات، والحقيقة أن رشيد كان بريئًا من هذا الاتهام خصوصا وان ابنه الياس طه حكى في حوار مع جريدة الوطن الجزائرية الناطقة بالفرنسية تفاصيل الساعات الاخيرة من وفاته .
ما لا يعرفه الكثيرون أن رشيد كان يعاني من مرض وراثي نادر جدا اسمه " متلازمة ارنولد كياري" الناتج عن زواج الأقارب ، وهو ماكشفه رشيد طه في مذكراته التي ستنشر قريبًا والتي قال فيها أن والده ووالدته كانا أبناء خالة.
المرض الذي ورثه رشيد كان عبارة عن "تشوه خلقي" في المخيخ المسئول عن التوازن وبالتالي كان يصيب صاحبة باضطرابات عصبية .
رشيد في مذكراته قال أيضًا ان أكثر ما أحزنه هو ظن الجمهور أنه يقف على خشبة المسرح في حالة سُكر ، بينما كان ما يعانيه في حركته واحدًا من اعراض المرض العضال الذي واجهه لأكثر من 30 عاما .
بسبب هذا المرض خضع صاحب أغنية "روك القصبة" لعمليتين جراحيتين في التسعينات بسبب شعورة بشلل جزئي في يده اليسرى ، ومع ذلك كان رشيد حريصًا على عدم الافصاح عن طبيعة مرضه حتى لا يتهم بالمتاجرة به لكسب تعاطف جمهوره !
ولد رشيد طه في مدينة "سيق" سنه 1958 ، وهاجر بعد عشر سنوات مع عائلته الى فرنسا حيث يعد من الجيل الثاني من المهاجرين العرب الى فرنسا .
"بطاقة إقامة" والغناء السياسي
هجرة رشيد المبكرة جدا لفرنسا جعلته متأثرا بكل القضايا التي يعاني منها المهاجرين العرب هناك وعلى رأسها الفقر والعنصرية ، ولهذا أسس في اواخر السبعينات فرقة موسيقية تحمل اسم "بطاقة اقامة" وأحيت الفرقة حفلات في الحانات وأماكن السهر .
المثير أن اسم الفرقة كان يعبر عن مضمون الأغنيات التي يقدمونها والتي كانت سياسية واجتماعية ومع ذلك حققت الفرقة انتشارا واسعا ، ولكن من ضمن المفارقات أن رشيد وفرقته سعوا الى تقديم مزيج من أغاني أم كلثوم وموسيقى الراي والروك ولكن التجربة لم تنجح بصورة كبيرة.
تأثر رشيد الواضح بما يحدث في المجتمع وآرائه السياسية شكلت شخصيته الفنية، ولهذا شارك في مسيرة ضد العنصرية نظمها ابناء الجاليات العربية في باريس سنه 1983 ، وقابل وقتها الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ووعده هو والمتظاهرون بحل مشاكلهم .
عام 1990 قرر رشيد الانفصال عن الفرقة والعمل منفردا وبدأ مسيرته ، وأسس مدرسة فنية خاصة جدا ، فكان أول فنان عربي يقدم موسيقى الروك الغربية على كلمات موسيقى الراي التي تطرح موضوعات مثل الاغتراب والعنصرية والهجرة والفقر .
عام 1996 قدم رشيد طه البوم "أوليه أوليه" أول البوماته ومن خلاله حقق شهرة واسعة في أوروبا خاصة مع بزوغ أغنية "يامنفي" التي قدمها في قالب موسيقي جديد .
الأغنية لم تكن وليده إبداع المطرب الجزائري الشاب وقتها ولكن كتبها أحد أسرى ثورة المقراني سنه 1871 ، وكانت تتكلم عن عن معاناة الجزائريين الذين تم نفيهم لجزيرة كاليدونيا في المحيط الهادي وكان عددهم 2500 مناضل ، وهناك كتبت الأغنية وأصبحت نشيدًا يردده مناضلو الجزائر عبر الزمن.
عام 1998 أطلق رشيد ألبومه "ديوان" وبعدها اخذت مسيرته الفنية شكلًا واضحًا بعد أن أصبح واحدًا من أهم مطربي الروك في العالم والمطرب العربي الوحيد الذي صاغ المزيج المدهش بين كلمات الراي وموسيقى الروك .
"يارايح" بصمة دحمان الحراشي
عرف العالم العربي رشيد طه من خلال أغنية "يارايح" التي اطلقها ضمن البوم "ديوان" ، وذاع صيتها حول العالم وعرفه المصريون من خلالها ، والمفارقة أن الأغنية لم تكن بالأساس أغنيته بل غناها الموسيقار والمطرب الجزائري الكبير دحمان الحراشي في منتصف القرن الماضي، وكان ينتقد في كلماتها هجرة الجزائريين إلى أوروبا .
تأثر رشيد طه بموضوع الأغنية والتي بدت وكأنها تمس جزءا من حياته الشخصية فقرر غنائها ، ونجحت نجاحا كبيرًا ظن معه العالم أن الأغنية ملك رشيد باعتبارها السبب الأبرز في ظهوره عالميا .
في نفس العام شارك رشيد مع الثنائي خالد وفضيل في حفل كبير حمل اسم 123 سولاي "الشموس الثلاثة" في قلعة باريس الرياضية وقدم الثلاثي خلال الحفل 23 أغنية ، تم تسجيلها خلال الحفل وقرر بعدها المنتج ستيف هيلاج انتاج الألبوم كوثيقة تاريخية لهذا الحدث ، وحقق الألبوم نجاحا كبيرًا في العالم وحصل على العديد من الجوائز .
عقب وفاة رشيد طه بعام أصدرت شركة الانتاج الي كانت تتولى تنفيذ أعماله أغنية جديدة له بعنوان "عيطة" وكان قد سجلها قبل وفاته بعدة أشهر كذكرى أخيرة لصوت مهم شكل وجدان العشرات من عشاق موسيقى الراي في العالم.
اقرأ أيضًا للكاتب :
معارك التسعينات – عمرو دياب ومحمد فؤاد .. رحلة البحث عن القمة من الكاسيت إلى السينما (1)
معارك التسعينات – عمرو دياب ومحمد فؤاد .. حروب صحفية وشائعات اعتزال في حضرة الشعراوي (2)
معارك التسعينات – عمرو دياب ومحمد فؤاد .. عالمية "نور العين" في مواجهة " شعبية "كامننا" (3)
معارك التسعينات – عمرو دياب ومحمد فؤاد .. الفرق بين المشروع والمشوار (4)