(غنوا للفقير عن غدر الزمن والصاحب الخاين، والحظ الظالم.. بكوهم، عايز دموعهم تنزل صديد، اعصروا قلوبهم عصر، اقفلوا بيبان الرحمة في وشهم بالغنا الحزين، فرحة الفقير في بكاه)
من أين أتى المؤلف عبد الرحيم كمال بهذه الجملة العبقرية؟! واحدة من الجمل الاستهلالية التي عرفت المشاهدين بشخصية "خلدون" الشيطان المتجسد في صورة كبير الغجر، وهي لب الجريمة التي مارسها طارق لطفي ببراعة على مدار حلقات مسلسل "جزيرة غمام".
أصل الشر المطلق
قدمت السينما والدراما المصرية والعربية شخصية الشيطان بصور مختلفة وأداءات متباينة، فيلم "سفير جهنم" أحد كلاسيكيات السينما المصرية كان البداية بأداء مسرحي طاغي من العملاق يوسف بك وهبي، تلاه محمود المليجي في "موعد مع ابليس"، كلاهما رسم صورة الشيطان مقترنة بالرعب والنظرات الحادثة والملامح المخيفة، إلى أن جاء عادل أدهم ليلعب على توير الاغواء في فيل "المرأة التي غلبت الشيطان"، وأخيرا قدم الفنان القدير يحيى الفخراني واحدة من صور الشيطان المدهشة في مسلسل "ونوس" لاعبا على وتر الإغواء الممتزج بالطرافة والخفة والتعاطف، والمفارقة أن المسلسل كان لنفس الكاتب عبد الرحيم عن مسرحية "دكتور فاوست" .
نرشح لك : كيف أعادت "العايقة" اكتشاف مي عز الدين في "جزيرة غمام"؟ إليكم الإجابة في 5 نقاط
بين كل هذه الوجوه وأنماط التمثل المختلفة ومدارسه المتنوعة في أداء شخصية الشيطان، أكاد أجزم أن طارق لطفي لم ينهل منها مصدرًا مباشرًا لرسم ملامح خلدون النفسية والشكلية بالطبع، قدم الشخصية من زاوية تنم عن فهم عميق ودقيق لما وراء سطور حوار عبد الرحيم كمال المشحون بفلسفة صوفية وشعرية متعددة في مستويات تلقيها.
في تصريح تليفزيوني له منذ أيام قال طارق لطفي أن خلدون هو أصل الشر المطلق ، تلك العبارة تحمل تفسيرات عديدة إذا ما قارنناها بأدائه للشخصية ، فخلدون متلون قادر على الدخول إلى أي نفس بشرية من ثغرات الشهوات ، بداية من الرجل البسيط الذي تخطفه نداهة "الأفيون" عندما رآه في فم خلدون، وصولا إلى الرقص فوق شهوات كل كبار جزيرة غمام بين وعلى رأسها بالطبع شهوة السلطة .
هذا هو المعنى الحقيقي والواقعي للشر المطلق المنطقي، بعيدًا عن الأنياب البارزة والرؤى "الاكليشيهية" لصورة الشيطان المخيف، فالشر عادة يحتاج إلى وجه حسن ولسان عذب وحضن يرحب بكل من لبى نداؤه .
طرح البحر والرعب الذي تنشدونه
في المشهد الافتتاحي لشخصية خلدون ، يصل الغجر قادمون من البحر يتقدمهم كبيرهم ، مبشرًا أهالي الجزيرة بمتع الحياة، غناء ورقص وجمال ونساء وفتنة، دخول شيطاني يتواءم مع الروايات الدينية والتراثية حول علاقة البحر بسكن الشياطين والجن، وبنفس المنطق قدم طارق لطفي دفقات تمثيلية مختلفة كموجات تعبر كل منها عن وجه من وجوه خلدون الشيطان .
واحد من المشاهد المميزة جدًا لطارق لطفي رغم أنه كان خاليًا من أي حوار ذلك المشهد الذي مارس فيه خلدون تجربة "الاسقاط النجمي" وهو نائم على فراشة يفزع ويقلق مضاجع أهالي الجزيرة، اذا كنتم تريدون رعبا حقيقيًا فلا أعتقد أن هناك ماهو "أرعب" من ممثل مغمض العينين بحجرين يثير الخوف في نفوس المشاهدين لمجرد اتباسمة نصف نائم .
رغم اعتماد المسلسل بالأساس على الحوار كمحرك رئيسي لأحداثه ورسائله، وأسلوب الكاتب عبد الرحيم كمال الذي يصنع من كلمات شخصياته جملًا رنانة ، إلا أن طارق لطفي لم تجذبه فكرة الأداء الميلودرامي في حوارات خلدون المختلفة، أداء بسيط يعتمد على النظرات الهادئة، الابتسامة المحسوبة المحددة، الرقص فوق الخيط الرفيع الفاصل بين الاتقان التام والتورط في المبالغة، والاستمتاع الواضح بترك المشاهد في حيرة تجاه خلدون، هل هو ساحر من شياطين الإنس يجيد اللعب بعقول وضمائر البشر، أما مارد من شياطين الجن وأسلاف إبليس.
انتصار الزمن للموهبة
لاشك أن النجاحات المتتالية التي يحققها طارق لطفي من عمل لآخر هي انتصار حقيقي للموهبة وإنصاف من الزمن لسنوات الصبر ، منذ عودته القوية في مسلسل "مع سبق الاصرار" عندما قدم شخصية منير الدويري ، مرورا بشخصية كين جدعون في "جبل الحلال" ، والعام الماضي في شخصية الارهابي رمزي في "القاهرة كابول" .. كلها مباريات تمثيل تحتاج لاعبًا مخضرمًا يقدم مشاهده كمن يحرز الأهداف بخبرة السنين .. لنحتفل بطارق لطفي كهداف قدير من هدافي التمثيل في مصر نرجوا أن نستمتع به لسنوات وسنوات طويلة قادمة.
اقرأ أيضًا :
لماذا نجح "الكبير أوي" طوال مواسمه الستة؟ إليكم 5 أسباب أهمها "حارس البوابة"