انطلقت الدورة الرابعة والسبعين لمهرجان كان مساء الثلاثاء الماضي وسط سعادة الجميع بعودة الحياة للمهرجان، وترقب للوضع الصحي والاشتراطات المعقدة لحضور كل العروض. ومع الانطلاق بدأ عروض أفلام المسابقة الدولية للمهرجان التي تضم هذا العام 24 فيلمًا مرتقبًا صنعتها مجموعة من أهم مخرجي العالم.
وسنقوم في هذه الرسائل بالتعرض للتحليل الموجز لأفلام المسابقة الأهم في عالم السينما، والتي تقدم أفلامها صورة عامة يمكن من خلالها فهم اللحظة الراهنة في صناعة السينما، وأهم الموجات والأفكار والأساليب الحاكمة لها. البداية مع الأفلام الأربعة الأولى في المهرجان.
آنيت Annette – ليوس كاراكس (فرنسا)
تسع سنوات كاملة احتاجها المخرج الفرنسي ليوس كاراكس بعد فيلمه الشهير "هولي موتورز Holly Motors" كي يعود إلى كان بفيلم جديد. "آنيت" هو عنوان الفيلم الذي كان من المفترض أن يعرض في دورة 2020 لكن تبعات جائحة كورونا دفعت صناع الفيلم لتأجيل عرضه ليختاره المهرجان فيكون فيلم افتتاح الدورة الرابعة والسبعين، بجانب تنافسه في المسابقة الرسمية.
طموح شاهق يمتلكه الفيلم كعادة أعمال كاراكس الذي يقدم فيلمه الطويل السادس فقط في قائمة بدأت عام 1984. أول أفلام المخرج بالإنجليزية، فيلم غنائي استعراضي، طاقم تمثيل من الطراز الأول، موسيقى من وضع ثنائي ذي طابع استثنائي هما الأخوان رون وراسل مايل المعروفان باسم فريق "سبارك Spark"، واللذان طالما حاولا تقديم مشروع سينمائي غنائي فتعثرت المحاولات حتى صار الأمر حقيقة مع كاراكس، فشاركاه كتابة السيناريو ووضعا موسيقى وأغاني الفيلم.
الموضوع أيضا لا يقل جاذبية: الحب في ظل النجومية، ممزوجًا ببعض متاعب العصر الحالي، عبر حكاية كوميديان شهير (آدم درايفر) تصير قصة حبه مع مغنية الأوبرا ذائعة الصيت (ماريون كوتيار) الموضوع الأكثر سخونة للرأي العام وبرامج عالم الترفيه، إلا أن الحب المشتعل سرعان ما يتحول رفضًا وغيرة بعدما يبدأ نجم الزوج في الخفوت وتزداد زوجته سطوعًا، تزامنا مع وضعها طفلتهما آنيت، التي اختار المخرج أن تكون دمية ماريونيت متقنة الصنع والتحريك، إزكاءً للحالة المسرحية والحس العابر للواقع المسيطر على الفيلم.
بالرغم من تتابعات البداية المدهشة التي يشارك فيها كاراكس ومؤلفا الموسيقى أبطال الفيلم في استعراض أشبه بالبرولوج المسرحي الذي يضبط جو خشبة المسرح لما سيأتي لاحقا، إلا أن أزمة "آنيت" هي إنه، وعلى العكس من كل أفلام صانعه، كلما تقدمت أحداثه كلما تراجعت قدرته على الحفاظ على اهتمام المشاهدين.
تفاوت كبير في رسم وتطوير الشخصيتين الرئيسيتين: شخصية الزوج مصاغة بعناية ومليئة بالتقلبات التي كانت في حاجة لممثل بموهبة ومهارة وكاريزما آدم درايفر ليجسدها، في مقابل رسم باهت لشخصية الزوجة يقل كثيرًا عما يمكن لماريون كوتيار أن تقدمه. ناهيك عن غياب الكيمياء والتجانس بينهما الذي يجعلنا قادرين على تصديق قصة الحب المشتعلة جسديا وعاطفيا التي تجمعهما ويتابعها الإعلام بجنون.
تصاعد الغيرة يتحول جريمةً في منتصف الأحداث، لتتوارى كوتيار أكثر ويكتفي كاراكس بصوتها الذي ترثه ابنتها الدمية، لتسير الأحداث في مسار يجمع – بشكل يصعب تصوره مالم تشاهد الفيلم – بين الخيال عالي الطموح الملامس للجنون، وبين التنفيذ المقبول على الأكثر. لا شيء مبهر من ليوس كاراكس وهو سبب كاف للإحباط.
"آنيت" فيلم متوسط، يمتد 140 دقيقة كان يمكن اختصارها كثيرًا، تتراوح أغنياته بين الجيد والمتوسط والممل، ومحصلته النهائية قد تكون مرضية لجمهور تقليدي سيسعد بمشاهدة آدم درايفر يغني ويرقص ويظهر في أوج تألقه، لكن بالنسبة لذائقة مسابقة تضم أهم صناع الأفلام في العالم، يبدو الفيلم بعيدًا عن الحسابات، مالم يكن للجنة سبايك لي رأي آخر.
كل شيء تم جيدًا Tout s'est bien passé – فرانسوا أوزن (فرنسا)
على العكس من أفلام كاراكس النادرة لا يتوقف مواطنه فرانسوا أوزون عن تقديم الجديد كل عام، وها هو يعود إلى مسابقة كان بفيلم يثير العديد من التساؤلات، قام بصناعته تكريمًا لذكرى صديقته إيمانويل بيرنهايم، الكاتبة التي طالما شاركته كتابة أعماله قبل أن ترحل بسبب السرطان، والتي نشرت هي الأخرى ذكرياتها حول الأسابيع الأخيرة في حياة والدها، الكتاب الذي صار مادة فيلم أوزون "كل شيء تم جيدًا".
الفيلم يتناول الوضع الشائك الذي تخوضه الكاتبة إيمانويل (صوفي مارسو) عندما يصاب والدها الثمانيني أندريه (أندريه دوسولييه) بجلطة تقعده وتعطل أغلب وظائفه الجسدية، ليطلب منها أن تساعده على إنهاء حياته بعدما لم يعد قادرًا على أن يخوضها بشكل طبيعي، لترفض في البداية ثم تبدأ في التفتيش عن السبل التي يمكن من خلالها تنفيذ رغبته، فتصل لإمكانية إتمام الأمر في سويسرا، حيث تعتبر مساعدة إنسان على إنهاء حياته جريمة في القانون الفرنسي حتى لو أراد الشخص ذلك.
أبرز ما في السيناريو الذي كتبه أوزون، والذي يمثل مع الأداء المدهش من مارسو ودوسولييه العمود الفقري للفيلم، هو قدرة صانعه على تجاوز الأفكار والأسئلة النمطية التي يمكن أن تطرحها فكرة كهذه بمجرد سماعها، فلا ينخرط طويلًا في الجدل حول مشروعية الانتحار المقنن، ولا يستخدم ردود أفعال المحيطين بالعجوز صعب المراس خفيف الظل الذي اتخذ قراره ولا يريد العودة فيه لطرح وجهات نظر متباينة، فقط يلقي بنا في خضم الأزمة ويطرح وجهة نظر أصحابها ومن خلالها يمكن فهم كل شيء.
الفعل الأكثر تكرارًا في "كل شيء تم جيدًا" هو بتر حوار عندما تقرر إحدى الشخصيات الانسحاب وترك الغرفة إما للغضب أو الدهشة أو لأي سبب آخر، قبل أن نعود لنجد الشخصية (الابنة في أغلب الحالات) تكمل الحوار المبتور في مشهد لاحق. الفعل إنساني بامتياز؛ فمن منّا لا يهرب أو على الأقل يحاول الهرب من المواقف المحرجة والأسئلة التي يصعب الإجابة عليها، إلا أن ما يقوله الفيلم ضمنًا (بالحكاية وبذلك الفعل الهروبي المتكرر) أن ثمة أمور يستحيل الفرار منها، على رأسها الزمن. ذلك العدو القاسي الذي لا يتوقف ولا يلين قلبه.
أندريه يعتبر نفسه قد فضّل ابنته وأكد علاقتهما الخاصة عندما كلفها بتلك المهمة، وإيمانويل بعد رفض مبدئي طبيعي وصلت لتصالح مع فكرة إنها لو كانت رغبة والدها فعليها أن تساعده في تنفيذها. علمًا بأن هذا التفاهم لا يأتي في ظل علاقة اعتيادية بين أب وابنته، وإنما في نهاية رحلة حياة تصرخ كل آثارها بأنها كانت بعيدة تمامًا عن النمطية: أب لا يتورع عن جرح مشاعر من حوله، يُفرّق في المعاملة بين بناته، وفي حياته سر يتكشف تباعًا كان سببًا في شرخ أنهى الود بينه وبين والدة الابنتين.
في هذا النضج يبرز فهم فرانسوا أوزون مدى تعقد نفوس البشر، الذين تجمعهم علاقات أكثر عمقًا وتشابكًا من الصياغات السطحية التي اعتادت الدراما تقديمها. تعقد يقترن في حالة أوزون بالبساطة، فلا حاجة لشرح أي علاقات من الماضي، يكفي أن نتابع الرحلة الدرامية ونقوم من خلالها بملء الفراغات، فنجد أنفسنا نفهم ليس فقط الشخصيات وآلام الماضي الحاكمة لحيواتهم، وإنما نفهم حياتنا ذاتها ونعيد التفكير في أشياء كانت قبل ساعتين هما زمن الفيلم تبدو لنا بديهية لا تحتاج التفكير.
ركبة عهد Ahed’s Knee – ناداف لابيد (إسرائيل)
لم يعد هناك مجالًا للشك في أن المخرج الشاب ناداف لابيد هو أحد أكثر صناع السينما المعاصرين إثارة للاهتمام. ليس فقط بسبب موضوعات أفلامه الجريئة، والتي تحمل داخلها تشريحًا بالغ القسوة والعمق للمجتمع الإسرائيلي ودولته، وتعاملًا صريحًا لحد التطهر من أزمة المخرج (ممثلًا للشاب الإسرائيلي) مع خبرته في الجيش الذي يمثل عماد الدولة العبرية، لكن لأن هذا الطرح القيم يأتي في صورة تجارب فيلمية مدهشة، يختبر فيها لابيد الوسيط السينمائي ويحاول اكتشاف مساحات جديدة للسرد.
وإذا كان البطل في فيلمه السابق المتوج بدب برلين الذهبي 2019 "مرادفات Synonyms" جندي سابق في الجيش يقرر أن يهجر إسرائيل وألا يتحدث كلمة من العبرية بقية حياته، فعنوان الفيلم الجديد "ركبة عهد" مستمد من حادث المراهقة الفلسطينية عهد التميمي التي ألقي القبض عليها قبل أعوام، وخرج وقتها عضو في الكنيست يتمنى لو كانت القوات قد أطلقت الرصاص على ركبتها فمنعتها من السير بشكل طبيعي بقية حياتها.
حسنًا، الفيلم ليس عن عهد التميمي. لكن الواقعة والتصريح يثيران بطل الفيلم المخرج الناجح الذي عُرض فيلمه السابق في مهرجان برلين (في إشارة واضحة من لابيد بأن بطله صورة لنفسه)، فيقرر تصوير فيلمًا قصيرًا أو عرضًا للفيديو حول ما جرى. وبينما يختبر ممثلات لدور عهد، يسافر إلى بلدة صغيرة في منطقة أرافا الجنوبية لعرض فيلمه في مكتبة حكومية، وهناك يقابل مديرة قسم المكتبات الشابة المنبهرة بأعماله، والتي تريد منه التوقيع على استمارة تشبه عقد الإذعان، يحدد فيه موضوع فيلمه ضمن قائمة تقرها الدولة الإسرائيلية، إن خرج الفيلم عنها اعتبر وصاحبه أعداءً للوطن يجب إسكاتهم!
المخرج المتألم باقتراب وفاة أمه التي شاركته صنع أفلامه (إشارة أخرى للابيد الذي كتب الفيلم بعد وفاة والدته التي كانت مونتيرة كل أفلامه السابقة)، والذي يعاني من تبعات خبرته المؤلمة خلال الخدمة في الجيش، تأتي تلك الوثيقة لتزيد من كفره بالنظام السياسي والاجتماعي الحاكم، لتنفجر في صورة سلسلة من المشاهد الحوارية الصاخبة والمواجهات بينه وبين مديرة المكتبات ثم بينه وبين أهالي البلدة.
إلا أن الملخص السابق بالغ الإخلال، يكتفي بالقصة التي لا تمثل إلا عنصرًا من عناصر عمل زخم على المستوى السردي، يمتزج في الشعور بالتيه في الموقع التوارتي بتوظيف الصورة وحركة الكاميرا التي تصير معادلًا لعين البطل تارة وشعوره الداخلي تارة أخرى، مع شريط الصوت والأغنيات والإحالات الفيلمية، والتي ترسم جميعها صورة كاملة لعمل كثيف يحاسب صانعه نفسه قبل أن يحاسب العقلية الجمعية التي تحرك سكان بلده.
والمثير للاهتمام أن أفلام لابيد كلها مدعومة من المركز السينمائي الإسرائيلي رغم كونها ضد الدولة التي يمثلها المركز قولًا واحدًا. وهو أمر يستحق وحده المزيد من التفكير والبحث حول دوافعه وآلياته وإمكانية حدوث ما يماثله في دولنا العربية.
أسوأ شخص في العالم The Worst Person in the World – خواكين تريير (النرويج)
أفضل أعمال مسابقة كان حتى هذه اللحظة يأتي أيضًا من أحد صناع السينما المعاصرين ذوي البصمة المميزة، النرويجي خواكين تريير الذي بدأ ثلاثية حول مدينة أوسلو عام 2006 بفيلم "تكرار Reprise" تبعها بفيلمه الشهير "الحادي والثلاثين من أغسطس في أوسلو Oslo, August 31st" عام 2011، قبل أن يترك الموضوع قليلًا من أجل أفلام أكثر خفّة ليعود ويكمل الثلاثية بهذا الفيلم البديع.
كل شيء في "أسوأ شخص في العالم" يبدو خادعًا للوهلة الأولى: تعليق صوتي ساخر يروي حكاية فتاة نرويجية عشرينية في حكاية من مقدمة وخاتمة و12 فصلًا (عنوان الفيلم الفرنسي هو "يوليا في 12 فصلًا Julie en 12 chapitres"). فتاة جامعية لا تكاد تستقر في مكان، فتنتقل من دراسة للأخرى ومن علاقة لغيرها، بما يوحي لوهلة بكوميديا رومانسية خفيفة، الشعور الذي يزكيه شريط الصوت الحافل بالأغنيات واهتمام المخرج الدائم بالميزانسين المتقن لدرجة إعلانية، ناهيك عن النبرة الساخرة المسيطرة على كامل العمل.
إلا إنه ومع توالي فصول حكاية يوليا، ومع تنقلها من علاقتها المستقرة أو شبه المستقرة مع أسكيل رسام الكوميكس الجدلي الذي يكبرها بعقد ونصف، إلى علاقة تشتعل في ليلة واحدة مع شاب قابلته بالصدفة خلال حفل زفاف قررت أن تتسلل إليه دون دعوة، نبدأ في الإمساك بجوهر الفيلم الذي يتماس مع حياة كل منّا، كيف لا والموضوع هو الحياة المعاصرة ومتاعب جيل الألفية الجديدة؟
فيلم ابن زمنه بامتياز، تحكمه هواجس هذا الزمن: غياب الاستقرار وانعدام الوقت الكاف للتفكير في أي شيء ناهيك عن الارتباط به كما اعتادت الأجيال السابقة أن تفعل، مع ضلالات البحث الدائم عن حياة يلعب فيها الفرد دول البطولة (تقول يوليا لأسكيل أن سبب تركها له هو شعورها أنها تلعب دورًا داعمًا في حياتها الشخصية). تلك المطاردة الواهمة لسعادة كاملة لن تأتي أبدًا، مع الكثير من تعقيدات الخطاب المعاصر والموضات المصاحبة له: أسكيل يتعرض لأزمة عندما يتشاجر على الهواء مع ناشطة نسوية وجدت رواياته المصورة ذكورية، وإيفند يقع في غرام يوليا كرد فعل بعدما تحولت حبيبته إلى مهووسة بجذورها الإثنية ومؤثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي!
ينجح خواكين تريير هنا في كل شيء، فيختار الموضوع الملائم للحظة ويقدمه بصورة ممتعة صالحة للتواصل مع أغلب المشاهدين، مع إحكام بصري يصل ذروة تأثيره في مشهد قرار يوليا أن تترك أسكيل والذي تتجمد فيه الحياة في مدينة أوسلو بشكل كامل ليظل الحبيبان فقط أحرارًا. وغيره من المشاهد واللحظات التي ترسم من خلال فصول "أسوأ شخص في العالم"، وهو بالمناسبة اقتباس من وصف يوليا لنفسها في كل مرة تقرر أن تترك علاقة دون أسباب مقنعة، لوحة ممتعة لعالمنا الحالي وللفروق بين جيلين عليهم أن يتعايشا ويتفاعلا معًا في كل لحظة.