في صيف 1985 اصطحبني والدي إلى مسرحية "جحا يحكم المدينة" ، كان المسرح في هذا الزمن فُسحة عائلية ، لافتات النيون تشع بوجوه النجوم ، والقاعات تضج بالضحك ، والكل يرفع شعار كامل العدد ، كل مسرح كان أشبه بمملكة يجلس على عرشها ملك من ملوك الضحك ليستقبل حاشيته كل مساء في ساعات مقدسة لا يلغيها أو يوقفها أي ظرف حتى لو كان قهريًا، ومنذ تلك اللحظة أصبحت واحدًا من جمهور ملك "الهلس" سمير غانم .
حكى عادل إمام ذات مرة أن صديق عمره وزوج شقيقته وزميله في المسرح الفنان مصطفى متولي توفي ظهرًا ، حضر عادل مراسم الدفن وتلقى العزاء ، وفي المساء كان على خشبة المسرح يقدم عرضه للجمهور وفي نهاية المسرحية انهمر بالبكاء وهو والحضور .
اقرأ للكاتب: اختيار كريم عبد العزيز .. أن تولد نجمًا وتبقى نجمًا
لم يختلف نهج سمير غانم عن رفيق كفاحة ، فالمسرح كان ومازال بالنسبة له المحراب المقدس الذي لم يغادره إلا لـ "الشديد القوي" ، سواء ظروف انتاجية أو أمنية كتلك التي أطفأت أنوار عروض سمير غانم في السنوات الأخيرة .
رغم المرض كان "أبو سمرة" دائم الاستعداد لتقديم مسرحية جديدة ، حتى في السنوات الأخيرة كان قد بدأ بروفات لعرض مسرحي جديد ، لولا حريق "مسرح الليسية" المفضل له ، فتوقف التحضير للعمل لحين البحث عن مسرح آخر .
صنع سمير غانم اسطورته بالتعامل مع الضحك بمنتهى الجدية ، تقديس متناهي للكوميديا كرسالة انسانية تدفعه ليصنع من كل شيء وأي شيء ضحكة مرسومة على شفاه الناس.
شيطان الخروج عن النص !
كتب سمير غانم دستورًا خاصًا بينه وبين جمهوره ، الضحك للضحك ولا شيء أسمى من ذلك ، مثل نحات ماهر يصنع من قطعة الطين تمثالًا يخطف الأنظار ، فهو أول من لون الأغاني الغربية والشرقية الأضيلة ليحولها إلى اسكتشات كوميدية بالغناء والأداء الجسدي ليخلق مدرسة متفردة في فن الإضحاك .
في لقاء قديم مع المذيعة أماني ناشد ببرنامج "كاميرا9" تحدث سمير غانم عن مشروعه لتحويل الأغاني الأجنبية إلى سكيتشات ضاحكة بمزجها مع بعض المواويل والطقاطيق الشرقية .. كيف ؟
استعرض سمير غانم قدرته المدهشة على "مسخرة" مقطوعة أوبرالية وتحويلها إلى قنبلة ضحك وهو يردد جملة "رأيت خيالك" ، أي دماغ تلك التي تخترع لونا كوميديا مصبوغا بالفرانكو أراب.
يملك سمير غانم تحت جلده فيلسوفا وحكيما ، يتعامل مع الحياة والفن بفلسفة خاصة تظهر بوضوح في حواراته ولقاءاته التليفزيونية ، يعرف كيف يغزل الأغنية في النص المسرحي ويمارس مهنته المفضلة الخروج عن النص حيث يقول : "ترديد نفس الجمل والكلمات على مدار أشهر وسنوات سيصيبني بالملل ، لهذا يجب أن أجدد طاقتي أنا وزملائي بمفاجأة الجمهور بجمل جديدة ، والمهم أن تكون منطقية وليست مفتعلة ، الافتعال لن يصدقه الجمهور ، وفن الارتجال يحتاج البساطة والطبيعية وليس الافتعال".
مخترع فن "الهلس"
يمكنك أن تصف سمير غانم بالفنان العبقري ولكنه تجاوز ذلك ليصبح مخترعا ومجددا في فن الكوميديا ، اخترع لغة خاصة به تلازمه في أعماله وربما لقاءاته التليفزيونية ، فلا تتمالك نفسك من الضحك وهو ينطق اسم سمير بطريقته التي تشبه مواء القطط ، اخترع الغناء الكوميدي بلغات ربما ألفها هو مثلما فعل في سكيتش "فار اواي" أغنية ديميس روسز الشهيرة التي حولها إلى مسخرة استعراضية .
هذه الكوميديا المفرطة يقابلها جدية صارمة في التعامل مع "مهنته" ، جديته دفعته إلى أن يحول "الحمار" إلى ممثل في مسرحيته جحا يحكم المدينة قرر أن يربي حمارًا صغيرا في بروفات المسرحية ليفهم ويتعلم بالتجربة موعد دخوله لخشبة المسرح وكيفية وقوفه !
لم يظهر سمير غانم على الشاشة ولو للقطة واحدة إلا وفجر الضحك ، في حوار مع رمسيس ببرنامج "ياتليفزيون يا" اخترع سمير غانم فن الستاند اب كوميدي قبل أن نعرفه ، حول اللقاء ببساطة مذهلة الى وسلاط من سكتشات الستاند أب كوميدي وهو يحكي كواليس تصوير مسلسله "كابتن جودة" وكيف تعامل مع الفلاحين في إحدى قرى مصر النائية وهم يصورون مشاهد المسلسل .
إنسان يملك قدرة استثنائية على التشخيص والتقليد ، يلتقط من وجوه وأصوات الناس تفاصيل يرسمها بطريقته الكاريكاتورية ليفجر الضحك ، فيحول نداء بائع الفول إلى أغنية يغنيها فريد الأطرش أو عبد الوهاب مثلا !!
حتى الفوازير رسم سمير غانم ملامح شخصية فطوطة بصوتها وملامحها وطريقة حديثها التي خطفت قلوب الأطفال قبل الكبار وتربينا عليها ، كل تفاصيلها ببدلته الخضراء الواسعة وباروكته العجيبة ، وفجر في تلك الفوازير كل طاقاته الفنية من تمثيل لغناء لاستعراض .
سمير غانم ملك "الهلس" بلا منازع وصاحب براءة اختراعه ، يستحق منا دعوات وتمنيات الشفاء بقدر كل ضحة صافية خرجت من القلب بسببه .. أستاذ سمير سلامتك .