من شارع سليمان باشا إلى باب اللوق ومنهما إلى مقاهي الألفي .... ساعات وأيام تحفر علامات القاهرة ومعالمها في ذاكرة الشاب الجنوبي القادم إلى العاصمة فارًا من النوبة، الأحلام في القلب والسعي في القدمين، لا يملك سوى صوته وملامح مُخمرة بالسمرة تمنحه الاختلاف.
أهلا بكم في السنوات الأولى للمطرب الشاب محمد منير محمد أبا يزيد الملقب بعد سنوات بـ"الملك" منير.
#أنا_الملك ... سلسلة خاصة على مدار أسبوع كامل احتفالا بعيد ميلاد منير ... صور ومقالات وفيديوهات ولقاءات نادرة تراها وتقرأها لأول مرة في Filfan تابعونا
اقرأ أيضا: ملك وهضبة.... أهلًا بكم في أسبوع الأساطير مع FilFan
التحق منير بكلية الفنون التطبيقية لسبب وحيد، هذه الكلية ستضمن له المجيء إلى القاهرة وتحقيق حلمه في عالم الغناء، أي اختيار آخر كان سيعني بقاءه في أي من جامعات جنوب الوادي، ولهذا كانت االسنوات الأولى لمنير في القاهرة بمثابة دراسة عملية لشوارع القاهرة وتجمعاتها الثقافية وحكاياتها وناسها، ولهذا وصفه أصدقائه وقتها بجملة نوبية وهي: "درباد-ن اوي-قا كابافي" أي أنه: "أكل رجل الدجاجة" كناية عن كثرة المشي!
كثرة المشي والسعي وطرق الأبواب ألقته بين يدي الشاعر عبد الرحيم منصور، الذي وجد في هذا الشاب النوبي ضالته، أول كلمة وصفه بها منصور منير كانت "الرماح" وهو لقب انتشر بين آباء منير الأوائل.
تحكي زوجة الموسيقار الراحل أحمد منيب قائلة: "منير كان إبنا للجميع ... جاءنا مع فاروق شقيق منيب ... كان الشغف يملأ عيني منير بحثًا عن فرصة للتعلم والفهم ... منذ أن التقى بأحمد منيب لم ينفصل عنه نفسيًا حتى لو أنفصلا فنيا في فترة أراد فيها منير أن يختبر نفسه بعيدًا عن آبائه الروحيين".
القدر شكل لمنير مثلثًا فنيا تكونت أضلاعه من عبد الرحيم منصور شاعرًا، وأحمد منيب ملحنًا، وهاني شنودة موزعًا موسيقيًأ، ثلاثتهم احتضنوا منير وقدموه لمجتمع الموسيقى المصري، قبلها بفترة ليست طويلة التقي منير ببليغ حمدي الذي كان يسعى لتجديد دماء الأغنية المصرية عبر حناجر محمد الحلو وعلي الحجار، من المدهش أن عبقرية بليغ لم تفك شفرة منير فقدمه بصبغة كلاسيكية تشبه بقية المطربين حتى أنه صاغ له عدة ألحان تشبة تلك التي غناها عبد الحليم ومن بعده هاني شاكر وكل الأصوات التي خرجت تستنسخ تجربة العندليب، ولكن منير كان شيئًا آخر لايشبه أحدًا.
لقاء منير وعبد الرحيم منصور كان حجر الأساس في الرحلة، منصور اعتبر منير قضيته، الصوت الذي سيعبر به عن الناس، تشاركا سويًا الخبز والدخان وجلسات الحكي في مقاهي وحانات وسط القاهرة، طافا شوارعها سويًا، لم يتركا شبرًا إلا ونهلا بعينيهما وروحهما منه.
يحكي هاني شنودة: "عندما قابلت منير لأول مرة في كافيه (لاروند) قدمه لي عبد الرحيم منصور، وصديقي الشاعر شوقي حجاب، من ملامحه وكلماته وجدته الأنسب للثورة الموسيقية التي فجرناها في هذا الوقت، لقد أدخلنا الآلات الغربية على موسيقانا، واستخدمنا الدرامز والباص جيتار والأورج، ثم طورنا الإيقاع النوبي المعروف بـ"السلم الخماسي" وهنا كان لابد من وجود صوت مناسب شكلًا ومضمونًا لما نقدمه، إذن فلنقدم منير".
حاول منير التخلص من أثر بليغ، كان المشهد الأول في لعبة الخلاص هو التحرر من الشكل التقليدي للمطرب، هنا يتذكر هاني شنودة القصة قائلًا: "غنى منير في فرقة المصريين، خلال بعض الحفلات الأولى لنا، عندما أراد الظهور على المسرح لاول مرة وجدته يرتدي بدلة وكرافته، قلت له مستحيل، هذا ليس أنت، إظهر بصورتك التي تشبه صوتك".
- هل كانت الحياة سهلة؟
- بالطبع لا
فمنير الذي وجد الدعم من أباء مشروعه الفني، واجه أيضًا صعوبات في اقناع شركات الإنتاج، بعض المنتجين رفضوه بعنصرية، قالوا ان بشرته السمراء لن تضمن النجاح له!
حتى لجنة الاعتماد في الإذاعة ترددت طويلًا قبل قبوله، إلى أن فهم البعض مشروعه الغنائي، وافقوا عليه عندما غنى لهم تراث النوبة، فحكموا عليه بمقاييس مختلفة ولكنها لم تخل من احترام واضح للتجربة.
جاء خريف 1977 ... تساقطت أوراق الشجر كما تتساقط أفكار عبد الرحيم منصور واحدة تلو الأخرى على الورق بحثًا عن أغاني مناسبة لمنير ... ماذا سيغني؟
كتب عبد الرحيم منصور: "في عينيكي غربة وغرابة ... وأنا بيكي مغرم صبابة".
إذن هاهي أول أغنية!
والأن الطريق قادم نحو أول "شريط" كاسيت لمنير مشحون بأفكار واحلام الثلاثي عبد الرحيم منصور وهاني شنودة وأحمد منيب، وبدأت الرحلة في ستوديو شنودة بوسط البلد بمنقطة "الاسعاف" المجاورة لمعهد الموسيقى، أحضر هاني شنودة فرقته المكونة من هاني الازهري "درامز"، تحسين يلمظ "جيتار" وطلب من أحمد منيب احضار عازف دف نوبي، وبدأت تسجيل أغنيات الألبوم الأول والذي حمل اسم "أمانة يا بحر".
يحكي هاني شنودة عن تلك المرحلة قائلًا: "البداية كانت مع أغنيتي أمانة يابحر، وياعذاب النفس، ولهما قصة طويلة، عدت ذات يوم الى المنزل فأخبرتني زوجتي أن عبد الرحيم منصور ترك لي "كراسة" وقال لها لابد أن يقرأها هاني فور وصوله، فتحت الكراسة فوجدت الاغنيتين، لم أنتظر حتى الصباح، وانطلقت نحو البيانو لألحن، الكلمات اهدتني أفكار الألحان، لم يمر وقت طويل حتى اتصلت بمنير، "يامنير تعالى بكرة الصبح بدري الاستوديو".
جاء منير في الموعد صباحا، واستمع إلى اللحنين، صرخ عبد الرحيم منصور ومنير: "الله عليك ياقديس" وهو اللقب الذي ارتبط بشنودة في دوائره القريبة.
سجل منير الاغنيتين، واستخدم شنودة الات نفخ تابعة لفرقة موسيقى الشرطة في تسجيل الصولوهات الموسيقية في مطلع "علموني عنيكي" حتى أنها بعد طرحها تحولت الى موسيقى الترحيب بزوار السيرك القومي في العجوزة !
اقتنعت شركة "سونار" بمشروع منير وهذا بضمان من الأسماء الكبيرة التي أحاطت به، ووافقوا على انتاج الألبوم الأول، لحن أحمد منيب ست أغنيات هي: "ياصبية، دنيا رايحة، قول للغريب، يا أمة، في عنيكي".
وزع هاني شنودة أغلب أغنيات الألبوم بجوار ألحانه أيضًا،وتحمس الجميع لظهور صوت جديد، ولكن ماذا حدث؟
طُرح ألبوم "أمانة يابحر" في شرائط كاسيت بدلًا من الاسطوانات التي كانت رائجة وقتها، لم يفهم الجمهور القفزة التكنولوجية التي يقبلون عليها، العالم الأن يستخدم الكاسيت ونحن مازلنا في عصر الاسطوانات، المهم أن منير وأصدقاءه دفعوا ثمن هذه الصدمة الحضارية ... وفشل ألبوم "أمانة يابحر" ... ولكن ليس هذا السبب الوحيد ... فالعنصرية كانت حاضرة بقوة ... وهذه قصة أخرى.
--------------------------
المصادر:
1- كتاب "مذكرات عراب الموسيقى" لمصطفى حمدي
2- كتاب "الملك" لمحمد حسني