مقدمة لا بد منها
"الأفكار لها أجنحة" سحرتني هذه الكلمة منذ 17 عاما عندما سمعتها لأول مرة في فيلم "المصير" الذي أعلن صاحبه (يوسف شاهين) صراحة أنها رسالة الفيلم التي تصلح لكل مكان وزمان.
على الدرب نفسه يسير أستاذي، الذي لم يسمح لي الزمان بلقائه بعد، إبراهيم عيسى، أتتبع خطاه من جريدة لجريدة ومن برنامج لآخر، كمن يتبع خطى شيخه، مثّل لي مع عدة أسماء أخرى أول مدرسة للتعليم عن بعد، قبل انتشار المصطلح في زمن "كورونا".
إبراهيم عيسى "صاحب مقام" رفيع في الحياة الصحفية والفكرية والسياسية، صاحب فكر وإيمان ثابتان الأعمدة متنوعان التجلي، كشيخ صوفي، لم يمل الدعوة لطريقته ولفكرة.
لعيسى آلاف المقالات وعشرات الكتب وثلاثة أفلام، ركز فيها مؤخرا على الأفكار التي كان لها السبب الأول في التغيير السلبي الذي أصاب المجتمع المصري، لم يترك فرصة إلا وطرحها وشرحها مطالبنا باستكمال البحث والتنقيب لإثبات صحتها أو عكسها، وعلى رأسها الفكر السلفي.
عود على بدء
"صاحب المقام" مغامرة سينمائية خاضها المنتج أحمد السبكي، والمخرج محمد العدل، عمل يغرد خارج سرب السوق وإيراداته وحساباته وخلطاته السرية التي تنافس خلطة "كنتاكي"، التي صبغت غالبية الأعمال السينمائية والتليفزيونية، حتى حولتها لمسخ لا فكر يرتقي بوعي، ولا فن يرتقي بوجدان.
في أوج سيطرة المادة والعلم والحقائق المطلقة وتحطيم المكان والزمان، يجد الإنسان نفسه بكل هذه القوة والعلم والثروة والسيطرة على الأرض وبحثه عن فضاء يسيطر عليه، أمام لحظة يعجز فيها عن استيعاب ما يحدث، عاجز عن الحركة أو التصرف حيالها، وهو ما حدث قبل أيام من انتهاء تصوير الفيلم في مفارقة أراها رسالة مثيرة، عندما ضرب العالم فيرس صغير غامض هدد بفنائه، وقف أمامه عاجزا خائفا من مصافحة أبنائه، وهى تقريبا رسالة الفيلم.
ناقش الفيلم فكرة "أضرحة أولياء الله الصالحين"، التي بعد مئات السنين من الألفة والحب والود بينهم وبين المصريين، اتي من يقول بحرمانيتهم ويطالب بهدمهم ويؤثم من يزورهم، وهى قضية كثيرا ما تحدث فيها رجال الدين وأصحاب الرأي وكان من بينهم وأهمهم إبراهيم عيسى.
ولأن الفن أسهل وسيط لإيصال الأفكار، فإن فيلم "صاحب المقام" سيكون له تأثير ألف مقال وألف حلقة تليفزيونية.
متمسكا بمدرسة التمثيل الهادئ البسيط البعيد عن المبالغة والتكلف، واصل آسر ياسين (يحيى الرمالي) حصد نقاط جديدة على الساحة الفنية بعد النجاح الكبير الذي حققه في مسلسل "بـ 100 وش" في رمضان 2020، وإن كان الهدوء في الأداء أفقد المشاهدين إحساسهم بالتغير الحقيقي الذي أصاب قلبه وشخصيته، فبدا وكأنه ينفذ أوامر مطلوبة منه لقيام زوجته من مرضها فقط، وهو الذي صرح به نصا في أحد المشاهد التي جمعته بيسرا متعجلا شفاء زوجته بعد ما قدمه قائلا: مش بتسموها تجارة مع الله؟
"روح صالح اللي زعلتهم" ... لم تكن رسالة يسرا (روح) الأولى لآسر ياسين في بداية الفيلم عندما هدم المقام فقط، بل قامت هى نفسها بمصالحة من أغضبتهم بآخر ظهور سينمائي لها في فيلم "جيم أوفر" مع مي عز الدين في 2012.
على الورق، دور يسرا لا يتجاوز صفحتين، وعلى الشاشة لم يزد أطول مشهد ظهرت به عن دقيقة واحدة، ظهورها متنوع ومتعدد ومختلف وسريع مثل الومضات، فكانت محركة للأحداث وموجهة للبطل، واستطاعت أن تصالح جمهورها فعلا بحضور جميل.
إبراهيم نصر، ومحمود مسعود ودعانا بأجمل ما يمكن بمشاهدهما القليلة التي قدماها في الفيلم، الذي لم يكتب لهما أن يشاهدانه، السلام والرحمة لروحيهما.
المخرج محمد العدل قدم فيلما جيدا، رغم وجود ملاحظات منها تعمد استخدام "الرمزية" في أسماء الأبطال، وبعض الإشارات مثل لوحة "احذر" التي وقف أسفلها البطل، لم تضف للموضوع أو تخدمه، بالعكس جاءت ساذجة وسطحية ومباشرة، فالرمزية لا سبب لوجودها طالما ليست ضرورية ولا تخدم فكرة.
بالإضافة للثقوب الواسعة التي هلهلت ثوب السيناريو، ولم تسعف المخرج محمد العدل إمكانياته أو خبرته في علاج عيوب السيناريو رغم اجتهاده، كان على إبراهيم عيسى أن يكتفي بالقصة ويدفع بها لسيناريست محترف يكتب لها السيناريو والحوار.
موسيقى الفيلم التي حملت اسم خالد الكمار من أجمل العناصر الفنية في الفيلم، موسيقى هادئة تساعد الفيلم على الوصول للحالة الشعورية التي يريدها من المشاهد، استخدام الوتريات الغليظة (تشيللو وكونترباص) وتقسيمات العود البعيدة في المقطوعات الهادئة يعطي جوا من الهدوء والسكينة، وصوت مجموعة الكمانجات الحادة في المشاهد السريعة المؤثرة ذات الإيقاع العالي، ستشعر وأنت مندمجا في الأحداث وكأن أقواس الكمانجات تمر على شرايينك وليس على أوتار الكمان.
تحية لصناع الفيلم، الحياة هى التجريب، والنجاح هو المبادرة، تحية لمنصة "شاهد" التي شاركت في إيجاد علاج لإنقاذ السينما في كبوتها الحالية وأخذت مبادرة العرض الأول للفيلم.