علاقة المصريين بالأولياء علاقة خاصة جدا، تتجاوز مسألة التبرك التي يحرمها مشايخ السلفية ليل نهار، فهي علاقة روحية من طراز رفيع، لا يفهم سرها سوى من ذاق حلاوتها، وما يفعله المصريون أمام الأضرحة والمقامات، وفي الموالد لا علاقة له بالمستوى المادي أو العلمي -على عكس ما هو شائع- فكثيرا ما شاهدت أمام ضريح السيدة زينب سيدات تشير ملابسهن إلى مستوى مادي واجتماعي مرتفع، تقفن جنبا إلى جنب رقيقات الحال، تطلبن من أم العواجز العون، وتلقين بالأموال، والرسائل، وصور الأحباب من ذلك المنفذ الضيق في زجاج المقام الذي يسمح بالكاد بمرور تلك الأوراق الصغيرة، فلا يقطع همهماتهن، وتوسلاتهن سوى صوت قادم من بعيد لسيدة تأمرهن بالخروج لإفساح محيط المقام لأخريات، وبينما تختلط رسائل العوز والحاجة، برسائل الشوق واللهفة، يقف الضريح شاهدا على قصص عشق المصريين، وعلى قصص معاناتهم أيضا، فالأولياء في نظرهم ملوك الدعوات المجابة، والملاذ الأخير بعد أن تقفل كل الأبواب، وتصم جميع الآذان، مهما زادت الفتاوى المحرمة، ومهما أكد العلم على عدم اعترافه بالكرامات.
وقد ألقت السينما المصرية الضوء على تلك العلاقة في العديد من الأفلام السينمائية الخالدة، ولا سيما سينما الستينيات وعلى رأسها رائعة "نجيب محفوظ" و"حسن الإمام" (بين القصرين) ومن منا لا يذكر مشهد عائلة "السيد أحمد عبد الجواد" عندما انتهزوا فرصة غيابه للتمتع ببعض الحرية فخرجت "أمينة" لتلبي نداء سيدنا الحسين وتزوره سرا بناء على نصيحة أبنائها، فتصدمها السوارس، ويفتضح أمرها عند زوجها الذي يطردها من المنزل، فيلجأ الطفل "كمال" الذي لعب دوره "وجدي العربي" لضريح الحسين يلتمس منه أن يجعل والده يعيد أمه إلى المنزل.
وفي فيلم (الزوجة الثانية) لـ"صلاح أبو سيف" تذهب فاطمة "سعاد حسني" إلى الضريح تشكو إليه شرور العمدة وجبروته حينما قرر أن يطلقها من زوجها عنوة ليتزوجها أملا في الإنجاب منها.
الأمثلة السابقة مجرد نماذج، ولا تعني أن سينما الستينيات وحدها من استأثرت بمناقشة موضوع الأولياء ومكانتهم في قلوب المصريين، لكنها الأكثر رسوخا في الأذهان، وصدقا في المعالجة، وفي ظني أن فيلم (صاحب المقام) الذي بدأت منصة شاهد عرضه ليلة أمس حجز مكانا لنفسه وسط هذه الأفلام الهامة صاحبة التأثير القوي.
الفيلم من تأليف الكاتب الصحفي "إبراهيم عيسى" وإخراج "محمد العدل" من بطولة "آسر ياسين، يسرا، أمينة خليل" وبمشاركة العديد من النجوم، وقبل الخوض في عوامل تميز الفيلم لابد أن نذكر أنه يحتل الصدارة، كونه أول إنتاج سينمائي عربي يعرض على منصة إلكترونية بشكل مباشر، دون المرور على قاعات العرض السينمائي، وهو حدث مهم، إذا ثبت نجاحه سيغير شكل الإنتاج السينمائي، وسيفتخ أفقا جديدا أمام منصة شاهد، وغيرها من المنصات لتقديم محتوى سينمائي من إنتاجها، على غرار المحتوى الدرامي المتميز الذي نجحت في تقديمه عبر الأشهر الماضية.
أفلام "إبراهيم عيسى" كعادتها تدعو من يشاهدها إلى إعادة التفكير مرة آخرى فيما ظنه من الثوابث غير القابلة للتغير، وفي (صاحب المقام) يظهر التحول الذي حدث لشخصية البطل "يحيى" من زوج وأب مهمل إلى زوج محب، وأب مضحي، ومن شخص يستهين بأولياء الله الصالحين وعلى استعداد لهدم أضرحتهم والتخلص منها، إلى شخص يستخدمه الله لتنفيذ أحلام وأمنيات عباده التي أرسلوها إليه مسجلة بعلم الوصول داخل مقام الإمام الشافعي.
حدوث عرض صحي خطير لزوجة البطل التي لعبت دورها "أمينة خليل" هو سبب حدوث هذا التغير في وجهة نظر البطل تجاه الأولياء، لكن هذا التغير قد ينسحب أيضا على المُشاهد الذي تلمس قلبه النزعة الصوفية التي تغلف الفيلم، فتجعله يعيد التفكير مرة آخرى في الثوابت التي لطالما ظنها مقدسة أو محرمة، ولعل الموسوعية التي ينتهجها "إبراهيم عيسى" في قراءاته، جعلته يناقش قضايا عدة داخل فيلمه بسلاسة شديدة، ودون إقحام، منها الهجرة غير الشرعية، والإدمان، واختطاف الأطفال، وغيرها، وكلها مشاكل يعاني منها المجتمع ولا يجد لها حلا.
شخصية "روح" التي تقدمها "يسرا" في الفيلم، لتعود بها إلى السينما بعد غياب دام أكثر من سبع سنوات منذ آخر أفلامها (جيم أوفر) هي الشخصية الأصعب في الفيلم، لأنها تجمع بين الواقع، والخيال، فهي واحدة من الطاقم الطبي المشرف على حالة زوجته، وفي نفس الوقت هي طيفه الذي يلازمه، ويرشده، يشجعه بإبتسامة، أو يلوم عليه بنظرة عين حادة، طبيعة هذه الشخصيات توقع صناعها أحيانا في التكلف، لكن "يسرا" وضعت خبراتها الطويلة طوعا للمخرج "محمد العدل" فقدمت شخصية "روح" بشكل متفرد، خالي من التكلف، أما "آسر ياسين" ذلك النجم المتأني في اختياراته، فقد استطاع مؤخرا أن يحصد ثمار هذا التأني، بعد دور "عماد" في مسلسل (في كل أسبوع يوم جمعة) الذي عرض على نفس المنصة، ودور "عمر" في مسلسل (ب100 وش) أحد أنجح وأهم مسلسلات رمضان لهذا العام، لذا جاء أداؤه في الفيلم رصينا، لا يخلو من خفة دم غير مصطنعة.
يتميز الفيلم بالعدد الهائل من النجوم الذين شاركوا فيه بمشهد أو مشهدين على الأكثر، لكنها مشاهد توازي بطولة مطلقة، حيث تظل عالقة في الذهن، وتترك تأثيرها في النفس حتى بعد إنتهاء الفيلم، منها على سبيل المثال لا الحصر مشهد "محمود عبد المغني" وهو ينادي ربه من شرفة منزله الفقير، متعجبا من استجابته له رغم ذنوبه الكثيرة.
أما مشاهد الفنان الراحل "إبراهيم نصر" فقد كانت غاية في التميز، والإتقان، فقد أدى دور الأب المكلوم بصدق متناهي، وظهوره في الفيلم مع الفنان الراحل "محمود مسعود" أصابني بمزيج من الفرح لتكريمهما قبل رحيلهما بالمشاركة في هذا العمل الهام، والغصة على سنوات مضت جلس فيها هذان النجمان دون عمل!
اقرأ أيضا:
جلباب "عبد الغفور البرعي" الذي ارتداه "فريد شوقي"
محمود رضا كما رأيته في منزل فريدة فهمي